أثر المشكلات الأسرية في الصحة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ملء السموات وملء الأرض وملء ما شاء من شيء بعد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله {يَـٰۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [سورة الأحزاب: 70- 71].
أيها الأحبة في الله:
فقد كنت أرقب عن كثب تلك الآثار الصحية الناجمة عن المشكلات الزوجية، أو الناتجة عن سوء العلاقة بين الوالدين وأحد الأولاد أو أكثر؛ فأرى كيف تتدهور الصحة النفسية لصاحب المشكلة أولاً، ثم تتحول إلى ما يشبه المرض النفسي البدني، حيث تبدأ العلل الجسدية تنبت في عدد من خلايا جسمه.
ومما أصبح معلومًا من الطب بالضرورة أن كثيرًا من الأمراض البدنية التي تمثل الأكثر شيوعًا في الناس وضعت أساساتها بأيدي الاضطرابات النفسية، الناتجة عن مشكلاتٍ غالبها أسرية، وجزء منها مالية أو تعود إلى طبيعة العمل المهني، ونحو ذلك.
مما يجعل من الضروري اكتساب ما يطلق عليه: (المناعة النفسية)؛ التي تعطي الجسم القدرة على التصدى لمعظم الأمراض النفسية والعصبية؛ إذ كلما قويت المناعة النفسية للجسم، قل حدوث الأمراض النفسية، وكلما قلت الأمراض النفسية قلت الأمراض العضوية؛ فالحل هو تقوية المناعة النفسية، فالوقاية خير من العلاج وفي بعض الحالات الصعبة يكون العلاج الوحيد هو الوقاية.
ولعل ازدياد نسبة الإصابة بالمرض السكري، والغدة الدرقية، وارتفاع الضغط، والقالون العصبي، وقرحة المعدة، والمغص الكلوي، واضطرابات نشاطات الغدد، والسرطان، وأمثالها، له علاقة وطيدة باضطرابات نفسية عديدة؛ من أهمها القلق والاكتئاب والخوف بأنواعه.
ولا بد – وأنا أتحدث عن آثار الاضطرابات الأسرية على الصحة النفسية والجسدية – أن أشير إلى أن هناك مفهومًا قاصرًا حول المرض النفسي، جعل منه بعض الناس وصمة عار، ومسبة يشتم بها الصغار والكبار، وشينًا يداريه المصابون عن أعين الآخرين بل وعن آذانهم.
فمن وصم به انزوى عن الحياة، وازدادت اضطراباته بسبب خوفه من (الفضيحة)، وخجله من الأعراض التي قد تبدو عليه، وربما أدى هذا الشعور الذي بناه الجهل بحقيقة الاضطراب النفسي إلى تجاهل بعض الأمراض؛ حتى تستبد بالمبتلى بها، وتتسبب في سلب طعم الحياة الهانئة من حواسه ومشاعره، ويكون ضحية هذا الجهل الشنيع.
ومع كثرة أعباء الحياة وضغوطها، ازدادت نسبة المصابين بالقلق حتى بات يهدد أكثر من نصف البشر، كما ازدادت نسبة الاكتئاب والفصام، والرهاب، والغيرة المرضية، وغيرها.
إن المريض نفسيًّا يحتاج إلى تفهم لحالته من قبل المحيطين به، فإذا تجاهلوا حالته، وأطلقوا عليه مصطلحاتهم المتخلفة، التي لا يقيم لها العلم وزنًا، فإنهم قد يسهمون في تطوير حالته نحو الأسوأ؛ نظرًا لكونه مرهف الإحساس بهذه القضية خصوصًا. ومثل هذا التصريح أو حتى التلميح يؤذي مشاعره المتعبة؛ التي كانت في أمس الحاجة إلى لمسة حنان وتعاطف.
وإذا راجعنا أنفسنا واجهنا الحقيقة، هي أن كل إنسان قد يُواجَه بأزمة تكون سببًا في اضطرابه النفسي بشكل من الأشكال، فمن الذي لا يُصاب بالهم والحزن والاكتئاب والقلق، ولو لفترات محدودة؟!! من الذي يستطيع أن يتجافى عن الهمّ والشرود الذهني والانقباض النفسي الذي قد يتفاقم بسبب صدمة أو ظرف اجتماعي أو اقتصادي ما؟!
إن الإنسان السوي قد يصاب بأي من هذه الاضطرابات دون اختيار منه للوقوع في شركها، ولا يكون له خيار ـ أحيانًا ـ للخروج منها كذلك!
وتشير بعض الدراسات إلى أن المصابين بالاضطرابات النفسية يمثلون 20% -30% من الناس، وأن هناك أكثر من 100 تشخيص للاضطرابات النفسية، لا يكاد أحدنا يخلو من أحدها!! وهو ما يجعلنا نؤمن بأهمية العمل لرفع الحرج عن المصاب النفسي؛ لأننا جميعًا قد نُصاب بأي توتر حادث قد يتحول إلى اضطراب مؤقت أو حتى دائم.
ومن هنا يجب أن تُستنفر الجهود وتتضافر لمحاربة وصمة الاضطراب النفسي، ومن ذلك:
1- تغيير المصطلحات النابية التي يطلقها العامة على المصابين؛ مثل معتوه، ومخبول، ومجنون، وتسمية الاضطرابات بأسمائها العلمية؛ فصام، اكتئاب، ورهاب، ونحو ذلك.
2- دمج المصحات النفسية بالمصحات الطبية الأخرى؛ لرفع الحرج عن مراجعيها.
3- خروج الأطباء النفسيين إلى مؤسسات المجتمع الخدمية؛ ليقدموا خدماتهم الإنسانية من خلالها.
4- إشاعة ثقافة الاستشفاء النفسي، وأنه لا يختلف عن الاستشفاء الجسدي.
5- أن يقوم الإعلام العربي بتحسين صورة الطبيب النفسي، والاضطراب النفسي.
6- كشف الحقائق العلمية عن العقاقير النفسية، وأنها ليست مخدرات، ولا تؤدي إلى الإدمان، وأن الاستخدام السيئ لها، أو عدم المداومة عليها حتى نهاية الجرعات هي التي تتسبب في الانتكاسات، وعدم الجدوى منها.
7- أن أي فرد من الناس يمكن أن يُصاب باضطراب نفسي، وإن كان الصحيح والذي تكرر إثباته في الدراسات العلمية هو أن المتدينين هم أقل عرضة من غيرهم لكثير من الاضطرابات النفسية، وهو مصداق قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الأخرى:
الحمد لله على نعمه، والشكر له على مزيد فضله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد فاتقوا الله عباد الله:
إن المشكلات الأسرية بكل أنواعها تُعد أكثر ما يتعرض له الإنسان في هذه الحياة، هذا ما تشهد به المحاكم، والمصحات النفسية، وتلحظه المدققون في كل مجتمع، ولذلك فهي أكثر المسببات انتشارًا للضغوط النفسية على الإنسان، وإذا كان الإنسان يتأثر كثيرًا من مواقف البعيدين عنه، فإنه يتأثر كثيرًا من مواقف الأقرباء، أكثر وأكثر، وقد قال شاعر العرب قديما طرفة بن العبد:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
ومما لا شك فيه أن معظم الأمراض التى يتعرض لها جسم الإنسان سببها أن مناعة الجسم ضعيفة، وكلما قويت مناعة الجسم قل تعرض الجسم لمعظم الأمرض.
ومن علامات ضعف المناعة: الهزال والوهن البدني والذهني والإرهاق إثر بذل أي مجهود بسيط، والإحساس بالثقل في مختلف أنحاء الجسم وصعوبة الحركة، وما يصاحبها من تيبس بالعضلات والإحساس الدائم بالكسل والنعاس، مع تكرار الإصابة بالأمراض المزمنة والمعاناة الدائمة للآلام، وعدم انتظام المظهر الخارجي للبشرة والجلد، وأخيرًا ظهور أعراض الشيخوخة المبكرة مثل ترهل الجلد وضمور وارتخاء العضلات، وإن جرحًا معينًا من الممكن أن يأخذ وقتًا أسرع في الشفاء في حالة الراحة النفسية للإنسان عن وجوده في حالة نفسية سيئة.
ومن المؤكد من الناحية العلمية أن القدرة النفسية تلعب دورًا أساسًا في التغلب على الأعراض الخطيرة والمؤلمة، وأن المرضى الذي يُعطون أقراصًا خادعة لا تحتوي على أية مادة فاعلة غالبًا ما يتخلصون من عللهم تمامًا مثل المرضى الذين تُصرف لهم أدوية حقيقية، أو يتعرضون إلى جلسات علاجية روحية كالرقية الشرعية، المتمثلة في تلاوة آيات كريمة، أو أدعية واردة، ويشعر كثيرون بتحسن ملحوظ بعد هذا النوع من الجلسات، بإذن الله تعالى، ولا غرابة فإن ذلك مما أوحاه الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82].
وقد ثبت عمليًا أن سماع القرآن – بغض النظر عن فهمه واستيعابه – يؤدي إلى زيادة درجة المناعة عند الناس، وصدق الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
إن ممارسة الفروض الدينية والممارسة المنتظمة للرياضات الجسدية والذهنية مع الحفاظ على الأخلاق الحسنة مثل الصدق والتواضع والإحسان، كل ذلك يعوّد على الجسد والذهن بالصحة. مع الاستمرار في العلاقة العظمى بيننا وبين الخالق سبحانه وتعالى، فهذا أقوى العوامل التي تساعد على تقوية جهاز المناعة، والحفاظ على السلام الداخلي بين الإنسان ونفسه والقناعة، والبعد عن التوتر والعصبية؛ لأنها أكثر ما يضر بجهاز المناعة ويسبب الأورام والسرطانات التي تعد أمراضَ مناعة، ويُضاف لهذا الحصول على قسط كافٍ من الراحة والنوم يوميًا في وقت النوم الطبيعي ليلاً، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10]، {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} الروم: 23
ويقول أحد المختصين: “لعل الصلاة هي أعظم طاقة مولدة للنشاط عرفت إلى يومنا هذا، وقد رأيت بوصفي طبيبًا كثيرًا من المرضى فشلت العقاقير في علاجهم، فلما رفع الطب يديه عجزًا وتسليمًا دخلت الصلاة فبرأتهم من عللهم”.
ويقول آخر: “إن الصلاة كمعدن الراديوم مصدر للإشاعات ومولد للنشاط، وبالصلاة يسعى الناس إلى زيادة نشاطهم المحدود حين يخاطبون القوة التي يغني نشاطها”.
“إننا نربط أنفسنا حين نصلي بالقوة العظمى التي تهيمن على الكون، ونسألها ضارعين أن تمنحنا قبسًا منها، نستعين به على معاناة الحياة، بل إن القراءة وحدها كفيلة بأن تزيد قوتنا ونشاطنا ولن نجد أحدًا يضرع إلى الله إلا عادت عليه الضراعة بأحسن النتائج”.
كلام علمي تجريبي، يتماهى مع الحقيقة التي يقدمها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: “ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له، فإما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، أو يستعجل، يقول: دعوت ربي فما استجاب لي”، بل قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، وقال سبحانه: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، وبارك الوفاق بين إخوتنا في فلسطين، واحقن دماء إخوتنا في سوريا واليمن والعراق وليبيا وغيرها من بلاد المسلمين، واجعل مآل أمرهم خيرًا، اللهم اجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، وأتم على بلاد مصر وتونس والبحرين الأمن والاستقرار، وبارك لنا ولهم فيما أنعمت به وتفضلت.
اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.