أحوال القلوب .. وكيف ترق قلوبنا؟

أحوال القلوب .. وكيف ترق قلوبنا؟

الخطبة الأولى:

الحمد لله علام الغيوب، بذكره تطمئن القلوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعز مطلوب، وأشرف مرغوب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، الذي أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وصحابته، وعلى جميع من سار على نهجه واتبع سبيله إلى يوم الدين.

أما بعد.. فيا عباد الله أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، كما أمركم من خلقكم فقال جل من قائلٍ سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [سورة آل عمران: 1.2].

عباد الله..

حديثٌ صحيح يحفظه كثير من المسلمين، افتتحه راويه العرباض بن سارية رضي الله عنه بقوله: “وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون…” ثم ذكر الحديث.

موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منه العيون، ولِمَ لا وهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم من القلب الطهور الصادق، الحريص على أمته، الرءوف الرحيم بهم، ولِمَ لا توجل تلك القلوب، وهي قلوب الصفوة المؤمنة، التي أحاطت برسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك القلوب التي لفظت الدنيا، وضحَّت من أجل الله ورسوله بالوطن فهاجرت وبالمال والنفس فجاهدت، لما علمت أن الآخرة خير لها من الأولى.

والسؤال هو: هل جربنا قلوبنا عند سماع الموعظة؟

هل تلين؟ هل ترق؟ هل تحرك المدامع؟

أسئلة كالسياط على من حُرِم لذة المناجاة مع الله، وتحجرت أحداقه وهو يستجديها دمعة واحدة فلا تجود.

إن رقة القلوب وخشوعها وانكسارها لخالقها وبارئها منحة من الرحمن وعطية من الديان، تستوجب العفو والغفران، وتكون حرزًا من الغي والعصيان.

ما رقَّ قلب لله عز وجل وانكسر، إلا وجدته أحرص ما يكون على طاعة الله ومحبته، وما ذكر إلا تذكر، وما بُصِّر إلا تبصِّر، وما دخلت الرقة إلى القلب إلا وجدته مطمئنًا بذكر الله سبحانه وتعالى، وما رقَّ لله عز وجل قلب إلا وجدت صاحبه أبعد ما يكون عن المعاصي والذنوب.

فالقلب الرقيق ذليل أمام عظمة الله، ما انتزعه داعي الشيطان إلا انكسر خوفًا وخشية للرحمن سبحانه وتعالى، ولا جاءه داعي الغي والهوى إلا رعدت فرائص ذلك القلب من خشية المليك سبحانه وتعالى.

أحبتي في الله..

إنها النعمة التي ما وجدت نعمة على الأرض بعد نعمة الإسلام أجلّ وأعظم منها، نعمة رقة القلب وإنابته إلى الله تبارك وتعالى، وقد أخبر الله عز وجل أنه ما من قلب يحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعودًا بعذاب الله فقال سبحانه: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الزمر: 22] عذاب ونكال لقلوب قست عن ذكر الله عز وجل.

ونعيم ومغفرة وسعادة وفوز لقلوب انكسرت وخشعت لله تبارك وتعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [سورة الأنفال: 2].

لذلك ما من مؤمن صادق إلا وهو يتفكر كيف السبيل لكي يكون قلبي رقيقًا؟

كيف السبيل لكي أنال هذه النعمة؟

نعم إن للرقة أسبابًا، وإن كانت منحتها من مواهب الله عز وجل للعبد..

وأعظم سبب لها صدق الإيمان بالله تبارك وتعالى، فما عرف مؤمن ربه بأسمائه وصفاته إلا كان قلبه رقيقًا لله عز وجل، وكان وقافًا عند حدود الله، لا تأتيه الآية من كتاب الله عز وجل، ولا الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله علية وسلم إلا قال بلسان الحال والمقال: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.

إن طريقك الأول أيها العبد الصالح إلى رقّة قلبك هو معرفة ربك، وما من شيء في هذا الكون إلا يذكّرك بعظمته، يذكّرك الصباح والمساء، وتذكرك النعمة والنقمة، ويذكرك الخير والشر، ويذكرك العمل الصالح، والذنب العارض.

وأما العبد الجاهل، فهو أبعد الناس عن الله عز وجل، ولما جهل قدر الله اجترأ على حدوده وعلى ارتكاب محارمه ليلاً ونهارًا {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر: 67].

والسبب الثاني الذي يكسر القلوب، ويعين العبد على رقة قلبه من خشية الله عز وجل:    النظر في آيات هذا الكتاب العظيم الذي وصفه من تكلم به بقوله: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [سورة هود: 1].

فما قرأ عبدٌ القرآن، ولا استمع لآيات الرحمن إلا وجدته بعد قراءتها والتأمل فيها رقيقًا قد خفق قلبه، واقشعر جلده من خشية الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [سورة الزمر: 23].

والقرآن فيه توحيد ووعد ووعيد، وأحكام وأخبار، وقصص وآداب وأخلاق، وآثارها في النفس متنوعة، ومن سور القرآن ما قال فيه الحبيب المصطفى: “شيبتني هود وأخواتها قبل المشيب”، وفي رواية أخرى أنها: (هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت).

وقد كان صحابته صلى الله عليه وسلم يقرءون ويتدبرون ويتأثرون، وعرف أبو بكر الصديق بأنه رجل أسيف رقيق، إذا صلى بالناس لم يتمالك نفسه من البكاء، ومرض رضي الله عنه من أثر قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ} [سورة الطور: 7- 8]. وسمع نشيجه من وراء الصفوف لما قرأ قول الله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة يوسف: 86].

وقال عثمان رضي الله عنه: “لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله”، ويلخص ابن القيم رحمه الله ما على المسلم أن يفعله لعلاج قسوة قلبه بالقرآن فيقول: “ملاك ذلك أمران: أحدهما: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها، وتدبرها، وفهم ما يراد منه، وما نزل لأجله، وتأخذ نصيبك من كل آياته، وتنزلها على داء قلبك، فإذا نزلت هذه الآية على داء القلب برئ القلب بإذن الله).

ومن الأسباب التي تعين على رقة القلب وإنابته إلى الله تعالى: تذكر الآخرة، فإذا تذكر الإنسان أن الحياة زائلة، وأن المتاع فانٍ، وأنها غرور زائل دعاه ذلك إلى أن يحتقر الدنيا، ويقبل على ربها، إقبال المنيب الصادق، وعندها يرق قلبه.

ومن نظر إلى القبور وأحوال أهلها انكسر قلبه، فها هو ذا يرى منازل أقوام كانوا معه، ويتذكر أنه سيكون قريبًا معهم، ويقف على شفير قبر فيراه محفورًا قد هيّأ نفسه لتلقي ابن آدم، ولا يدري على ماذا يُغلق وعلى من يُغلق؟

أعلى مطيع أم عاصٍ؟ أعلى جحيم أم نعيم؟ أعلى رضا أم سخط؟

فلا رخام، ولا خدم، ولا سدنة، وبخور، سوف يغير من حال ورائحة المقبور شيئًا!!

فلا إله إلا الله هو العالِم بأحوالهم، وهو الحَكَم العدل الذي يفصل بينهم، ما نظر عبد هذه النظرات، ولا استجاشت في نفسه هذه التأملات، إلا اهتز القلب من خشية الله، وانشطر هيبةً لله تبارك وتعالى، وأقبل على الله سبحانه إقبال صدق وإخبات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [سورة الأنفال: 24]، توبوا إلى الله توبة نصوحًا.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله الرحيم التواب، رب الأرباب، ومسبّب الأسباب ومنزل الكتاب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، سبحانه لم يزل جليلاً، سبحانه حسبنا به كفيلاً، سبحانه اتخذناه وكيلاً.

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلوات الله المباركات عليه، النبي الأمي الذي حُرست لدعوته السماء، وعلى آله وصحابته وسلم تسليمًا كثيرًا…

أما بعد.. عباد الله:

إن من أعظم أمراض القلوب: مرض القسوة، عافانا الله منه، ومن أعظم أسباب القسوة بعد الجهل بالله تبارك وتعالى.. الركون إلى الدنيا والغرور بأهلها، وكثرة الانشغال بفضول أحاديثها، فإذا اشتغل العبد بالمفاتن والشهوات العارضة له في كل سوق، وعند كل دار، فسرعان ما يقسو قلبه، لأنه يعيدٌ عمن يذكّره بالله تبارك وتعالى.

فلذلك ينبغي للعبد الصالح إذا أراد نصيبه من الدنيا أن يأخذه برفق، فديننا ليس رهبانية، ولم يحرم الحلال سبحانه وتعالى، ولم يَحِل بيننا وبين الطيبات ولكن رويدًا رويدًا.

فإن الأرزاق قد سبق بها القلم، ولن يغالب أحد القضاء والقدر، فليأخذ ما يسر الله له، ثم ليحمد خالقه، ويشكر رازقه، فسرعان ما توضع له البركة، ويكفي فتنة القسوة نسأل الله العافية منها.

وإن من علامات القسوة عند أهل الدنيا: تضحيتهم من أجل الاستزادة منها بكل شيء… بأوقات الصلوات، وبارتكاب الفواحش والموبقات، بل حتى بمصالح أهلهم وأولادهم، دخلت الدنيا قلوبهم، والدنيا شُعَب، ولو عرف العبد حقيقة هذه الشُّعَب لأصبح وأمسى ولسانه يلهج إلى ربه: رب نجني من فتنة الدنيا.

فإن في الدنيا شعبًا ما مال القلب إلى واحد منها إلا استهواه لما بعده، ثم إلى ما بعده، حتى يبتعد عن الله عز وجل، وعندها تسقط مكانته عند الله، ولا يبالي الله به أي وادٍ من أودية الدنيا هلك والعياذ بالله.

ومن أسباب قسوة القلوب، بل ومن أعظم أسباب قسوة القلوب:

الجلوس مع الفُسّاق، ومعاشرة من لا خير في معاشرته. ولذلك ما ألف الإنسان صحبة من لا خير في صحبتهم إلا قسا قلبه، ولا طلب الأخيار إلا رققوا قلبه لله الواحد القهار، ولا حرص على مجالستهم إلا جاءته الرقة شاء أو أبى، لذلك ينبغي للإنسان إذا اضطر لمعاشرة الأشرار أن يعاشرهم بحذر، وأن يكون ذلك على قدر الحاجة حتى يسلم له دينه، فرأس المال في هذه الدنيا الفانية هو الدين.

يا عبد الله.. اتق الله، واحرص على ما ينفعك، وعلى ما يقربك من المولى جل وعلا، جرّب أن تخلو بربك كل يوم ساعة وأكثر، تذكره فيها، وتناجيه وتقر بذنوبك بين يديه، وتتضرع إليه منكسرًا خاشعًا، واسأله أن يجعلك ذا قلب خاشع رقيق، ومدمع باكٍ من خشيته فهو السميع المجيب، ولا تيأس من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

اللهم أعز دينك، وانصر عبادك، واخذل أعداء دينك، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر وتحفظ فيه حدودك.

اللهم أصلحنا وأصلح ولاة أمورنا، واجعل عملهم فيما يرضيك ويعز دينك. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تهب لنا قلوبًا لينة، تخشع لذكرك وشكرك، وتطمئن لذكرك، وألسنة تلهج بشكرك.

اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين..

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله الطاهرين وصحابته أجمعين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 



اترك تعليقاً