أسطول الحرية

أسطول الحرية

الخطبة الأولى:

الحمد لله ناصر المظلومين، ومخزي الظلمة والمجرمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1.2].

أيها الإخوة المؤمنون: مرةً أخرى تثبت الأحداث أنه عندما تستحيل العواطف إلى خطط عمل، والخطابات الحماسية إلى مشاريع، تكون النتيجة واضحة للعيان؛ هذا ما أثبته أسطول الحرية الذي ضم متضامنين من عشرات الدول في العالم، عدد منهم أصحاب مناصب وهيئات عليا في بلدانهم، قَدِموا بقصد كسر الحصار الظالم المفروض منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف على غزة الأبية، في الأرض المباركة، فأنالهم الله ما تمنوا وأرادوا، فمع حزننا العميق على من نحتسبهم عند الله شهداء، ورجائنا الشفاء العاجل للجرحى، فإنه يمكن القول بأنه في العقود الثلاثة الأخيرة لم يمر على إسرائيل لحظة عصيبة مثلما ما تمرُّ بهم هذه الأيام، فالكيان الذي بدا في البداية واثقًا من نفسه، ويتصرف كما أنه يدرك عواقب ما يقدم عليه، أخذت تعصف به الفوضى والارتباك، في ظلِّ عجزه عن وقف تدهور مكانته الدولية وتراجعها إلى حضيض غير مسبوق.

لقد أثبت التصرف الأهوج لإسرائيل بأن العربدة الصهيونية لا تقف عند حدٍّ، والتطرف الأعمى لا يبالِي بأرواح الأبرياء.

إنّ العدوان السافر على أسطول الحرية الذي يحمل راية المساعدة الإنسانية، لهو عدوان على الإنسانية ذاتها واستهتار بالقيم التي عاش الناس وماتوا من أجلها.

وإسرائيل تعبر بذلك عن الهلع والخوف من مستقبلها والإحساس المتزايد بالهزيمة؛ فالذئب أعدى ما يكون جريحًا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

إنّ إقدام الحكومة اليمينية الصهيونية على استخدام السلاح في مواجهة هبة إنسانية لهو دليل على الضعف والتراجع والهلع الذي يرسم سياسة الكيان الصهيوني، والخوف كثيرًا ما يعمي الإنسان عن مخاطر ما يفعل، وسنن الله ماضية في هؤلاء المجرمين، فإذا لم يجدوا من يحاربهم بالسلاح فسيجدون من سنن الله الكونية وحكمته في أعدائه المجرمين ما ينخر فيهم من داخلهم، ويلحق بهم الهزيمة من حيث لم يحتسبوا كما ذكر ذلك في كتابه الكريم.

وها هو “الرعب” الموعود يظهر جليًا بغير مواربة {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26] إنها الهزيمة النفسية؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار.

نعم لتتحدث وسائل الإعلام، ولنصرخ بقوة في وجه هذا الطغيان اليهودي الأرعن، ولتعرض القنوات والمواقع الإلكترونية كل ما يجعل الأمة تتواصل مع الحدث ساعة فساعة، وليقم العلماء والدعاة والإعلاميون بواجبهم في مواكبة الحدث، والتغطية الإعلامية الناجحة التي تفضح القرصنة الصهيونية، وليقم الآباء بواجب التوعية للأبناء لخطورة هذا العدو على مستقبل الأمة كلها، وليكتب الأدباء والشعراء والكاتبون مقالات الاحتجاج، وليرفع الصبية والشيوخ والعباد أكُفَّ ضراعتهم لرب السماوات والأرض؛ استنزالاً للرحمة لأولئك الشهداء الأبرار، واستنزالاً للخزي والعقاب الرادع الأليم على القوم الظالمين ومن ساندهم ووقف معهم سرًّا أو علانية، أو سكت وهو قادر على الرفض والإدانة وإنها لحلقة في سلسلة متصلة من الصراع بين الحق والباطل {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].

لقد تحقق من خلال هذه الحملة نصر من الله وفتح قريب بإذن الله عز وجل، فإن حلفاء إسرائيل وأصدقاءها باتوا يتعاملون معها كما لو كانت عبئًا ثقيلاً على كاهلهم، فلا أحد الآن معنيّ بأن يبدو كما لو كان يقف في المربع الذي تقف فيه إسرائيل، تبدو إسرائيل كدولة مارقة، ويبدو زعماؤها كما لو كانوا جرذانًا يديرون منظمة من المنظمات السرية المجرمة أكثر مما يديرون كيانًا سياسيًّا.

الخسائر الإستراتيجية التي مُنِيت بها إسرائيل أكبر من أن تُحصى في هذه اللحظة؛ لأنه ببساطة لا يعرف أحد إلى أين ستتدحرج كرة الثلج التي دفع بها أسطول الحرية، تركيا التي كانت أوثق حلفاء إسرائيل تندفع في مسار مغاير تمامًا، وبعض النخب العلمانية التي كانت تؤمن حتى وقت قريب بأهمية العلاقة مع إسرائيل، لم يعد أمامها سوى أن تذعن لحقيقة طبيعة الشخصية الإسرائيلية التي اعتدت على مقام الله جل جلاله بالتنقص، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، وعلى مقام الأنبياء بالقتل والتعذيب والتكذيب، وعلى عباد الله بالإبادة والإذلال، لا يمكن أن تتحول إلى شخصية مسالمة أبدًا، يقول الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64].

إن دماء المتضامنين مع غزة هي التي دفعت بالآلاف في أوروبا ـ حتى من بعض اليهود ـ للتضامن مع مظلومي غزة العزة، وهي الدماء التي دفعت حاليًا بشن أكبر حملة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، في الوقت الذي باتت فيه المزيد من الجامعات في أوروبا تعلن عن وقف تعاملها مع الأكاديميين الإسرائيليين على خلفية المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل.

نعم ينبغي أن نتوجه بالشكر إلى الذين نظّموا رحلة أسطول الحرية؛ لأنهم أيقظونا من سباتنا وغيبوبتنا، وذكرونا بقطاع غزة والحصار الإجرامي المضروب عليه، بعدما كاد كثيرون منا ينسون الموضوع في ظل التعتيم والتشويه الذي يتعرض له منذ ثلاث سنوات. ذلك أن ما جرى أعاد فضيحة الحصار إلى عناوين الصحف وصدارة قنوات الأنباء في أنحاء العالم.

كأن الغرور أعمى الإسرائيليين، فدفعهم إلى الإقدام على عملية انتحارية خرجوا منها خاسرين بالكامل، في حين كسبت القضية الفلسطينية مزيدًا من الأنصار، ومن يدري فربما كان فك الحصار يحتاج ثمنًا من دماء الأمة الساكتة، فلما قدمته طليعتها المباركة، أذن بالفرج لإخواننا وأخواتنا هناك، ولعلها طليعة النصر المبين الذين أشار إليه الله تعالى في كتابه، وفصله رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} [الإسراء: 7]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله وحده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه.

عباد الله.. إن هدف قافلة الحرية كان من أنبل المقاصد، إغاثة ملهوف، وإطعام جائع، وإيواء طريد، واستشفاء مريض، ونصرة مظلوم.. وهو ما نستطيعه أيضًا نحن من دعم لقضية فلسطين عن طريق اللجان والجمعيات والمؤسسات الرسمية في بلادنا، وبالطرق الآمنة السليمة، فإذا كانت قوافل الحرية تحاصر من قراصنة اليهود، فإن قوافل الخير وجسر الإغاثة بين بلادنا لم ينقطع من عهد الملك عبد العزيز رحمه الله إلى يومنا هذا، فليستمر في صورة كفالة يتيم، وبناء مسكن، وإعمار مسجد، وتبنّي حلقة لحفظ كتاب الله؛ حتى يبنى هناك جيل النصر بإذن الله تعالى.

وقد تضاعفت علينا في هذه البلاد نعم الله تعالى،{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، فبأي لسان نشكر الله تعالى وقد غمرتنا نعمه، وربنا سبحانه يقول: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، ويقول سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]. وهي إشارة قرآنية إلى أن من يكفر بنعم الله تعالى فلينتظر عقوبته عاجلاً أم آجلاً.

أخي المسلم.. إن من الغلظة حقًّا أن تجد أقوامًا يتقلبون في نعم الله، ومع ذلك لا تهزهم دمعة محروم، ولا تحرك أعصابهم تأوهات مبتلى، ران على قلوبهم ما يكسبون من الأموال الطائلة، فعاشوا لأنفسهم، يهرقون الذهب والفضة بين يدي شهواتهم وسفراتهم بل وأطفالهم، ويضنون بها على أسرة محتاجة فقدت عائلها، أو يتيم يتجرع مرارة اليتم كل يوم مرات ومرات، وكأنهم ضمنوا النعمة التي بين أيديهم، والله تعالى يقول: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9].

وإن من أبرز ما يميّز مجتمعنا الطيب من سمات عليا: خُلق الإيثار، الإيثار هو الذي جعل كل إنسان في هذا الوطن يرى أن من واجبه أن يقتسم رزقه مع أصناف من إخوانه المسلمين المحتاجين، وأن يغرس له في بلده وفي كل بلد من بلدان المسلمين نخلة من البر والإحسان، تدر عليه من الدعاء والثواب ما لا يحصيه إلا الله، جل في علاه.

الناس للناس ما دام الحياء بهـم            والعسر واليسر ساعات وأوقات

وأسعد الناس من بين الورى رجل            تُقضى على يده للناس حاجـات

قد مات قوم وما ماتت فضائلهم         وعاش قوم وهم في الناس أموات

وقد فتحت أمامنا عدد من المجالات الطيبة للإنفاق في الجمعيات الخيرية المرخصة التي تعمل داخل المملكة بهمة ونشاط، محتسبة في ذلك الأجر، وراغبة في إيصال كل مساعدة إلى مستحقيها، فلنحرص على غرس فسائل الخير فيها، جمعيات تحفيظ القرآن الكريم، جمعيات البر الخيرية التي تُعنى بفقراء بلادنا، لجان تيسير الزواج التي تسهل أمر زواج الشباب، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، مؤسسة مكة المكرمة، مكاتب توعية الجاليات، مكاتب الدعوة التعاونية، مراكز التنمية الأسرية، الإدارة العامة للمساجد، جمعيات مكافحة التدخين، والجمعيات الطبية التي تكافح السرطان، وتقف مع المبتلين بالأمراض المزمنة، تتضافر ولا تتنافر، ويخدم كل منها جانبًا من جوانب الخير لا يغني عنه جانب الآخر.

وهي جميعًا تعتمد في مواردها بتوفيق من الله على أمثالك ـ أخي المسلم ـ من أهل البر والإحسان.

وأخص من هذه الجمعيات جمعية الأمير فهد بن سلمان الخيرية لرعاية مرضى الفشل الكلوي، التي تسد حاجة طائفة كبيرة من الناس، وقد صدرت فتوى سماحة مفتي عام المملكة بجواز دفع الزكاة للمرضى الفقراء الذين يتلقون العلاج لديهم؛ لكونهم مستحقين للزكاة، وأنهم ممن ذكرهم الله في القرآن الكريم؛ { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.. } الآية [التوبة: 60].

فلنسهم أيها الإخوة في هذه الجمعية خدمةً للمرضى، ونفعًا للفقراء والمحتاجين، على أن يكون التبرع باسم الجمعية، ويدفع في مقرها، أو يودع في حساباتها البنكية، والدال على الخير كفاعله ويكفي المحتسبين نصرة الله لهم، يقول الرسول : ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)) متفق عليه.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر كل عدو للإسلام والمسلمين وانصر اللهم إخواننا المجاهدين في كل مكان، وارحم ضعفاء المسلمين، وأطعم جائعهم، واكس عاريهم، واحفظ عليهم دينهم وأعراضهم وأموالهم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. واغفر لنا ولوالدينا ولمن لهم حق علينا من المسلمين، ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك ورضوانك يا أكرم الأكرمين.



اترك تعليقاً