إطلالة في جرح كشمير

إطلالة في جرح كشمير

الخطبة الأولى:

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، القادر على رفع الضر، وإجابة دعوة المضطر، وكشف السوء {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، أحمده حمد الصابرين المحتسبين، الواثقين بنصره مهما علا جبروت الطغاة والمتجبرين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ القائل في كتابه العزيز، { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6]، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، وخير من صبر واحتسب، الذي قال له ربه: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]، فاستجاب لأمر ربه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا أيها الإخوة المسلمون: أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، استجابة لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1.2]، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الأنفال: 29].

أيها الأحبة في الله:

انطلاقًا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )) رواه البخاري، وانطلاقًا من وحدة الجسد المسلم، ووحدة العقيدة والأهداف، ووحدة الصف المسلم، ننطلق اليوم من مهد الرسالة، ومهبط الوحي، إلى مهد الجمال الطبيعي الساحر، وجنة القارة الهندية، تلك البلاد التي تمتد حدودها بين باكستان والهند والصين وأفغانستان، وتسمى ( كشمير )، يعيش فيها أكثر من اثني عشر مليون مسلم، يعيش معظمهم في الجزء الذي تحتله الهند تحت وطأة الظلم والفقر والإهانة، في حياة تفتقد أبسط الحقوق الإنسانية.

إنها مأساة شعب اكتسب من جمال بلاده جمال الروح، ومن صفاء سمائه نقاء النفس، تشبث بدينه، واعتصم بخالقه، والتصق بأرضه وبلاده حبًّا وإخلاصًا، ولا يزال هذا الشعب الذي طالت بليته، وعلا صراخ حرائره، وتضرمت آهات معذبيه، وبُحَّت أصوات علمائه ومجاهديه، ينتظر النور، ويترقب انكسار القيد، ويتطلع في كل لحظة إلى يوم النصر المنشود الذي تحرر فيه البلاد والعباد.

فسياسة القوات الهندية الثابتة تقوم على الاعتقالات وحملات التفتيش والمداهمة وهدم المنازل وحرق المزارع وقتل الرجال وسبي النساء المسلمات في مشاهد دامية يعجز الوصف عن إدراكها، وإليك أخي المسلم صورة من صور كثيرة تتكرر مقاطعها النازفة على مسرح الأحداث بشكل دائم؛ داهمت القوات الهندوسية منزل شيخ كبير السن بحجة أنه من المجاهدين، وسبوا ابنتيه اللتين لا تتجاوزان العشرين من العمر، وعندما قاومهم قتلوه، واقتادوا البنتين وقاموا باغتصابهما في المعسكر واحدًا تلو الآخر بمباركة من قائد المعسكر.

وأمام هذا الظلم السافر، ومحاولة تركيع هذا الشعب الأبي، فر آلاف الشيوخ والنساء والأطفال من منازلهم، ليعيشوا في مخيمات للاجئين، يلفحهم البرد الشديد، ويذيقهم الجوع ألوان العذاب، ولكنهم يشعرون أنهم فروا بدينهم وأعراضهم.

ورأى الشباب الكشميري أنه صاحب حق لا بد من انتزاعه من أيدي مغتصبيه مهما كان الثمن، فانطلقت مواكب المجاهدين في السنوات التسع الماضية، تنادي بالجهاد والدفاع عن الدين والأرض والعرض، مؤكدين أن الجهاد في سبيل الله هو القوة الحقيقية لأمة الإسلام، وأنه السبب الوحيد لعزتها وكرامتها، فانطلقوا ينشدون حرية بلادهم وشعبهم واضعين أرواحهم على أكفهم، يبتغون النصر أو الشهادة في سبيل الله.

كشمير أروضك قد ولى          والأعين غارت والماء 

وجبالك هل أضحت حمرا              فدماء تترى ودماء

ثوري كشمير كبركان              فالثورة للظلم دواء

ثوري للحق فقد أضحى          فجرك يصنعه الشهداء

وحصادك نصر مرتقب           وحصاد الباطل أشلاء

وفي المقابل كان الرد الهندوسي ضاريًا للغاية، فقاموا بالاعتقالات العشوائية، والتعذيب الوحشي، والقتل المتعمد، والترهيب بكل شكل للشعب الكشميري المسلم.

فقد امتلأت السجون بالشباب الكشميري المجاهد، وهناك يتم تعريضهم إلى أقصى عمليات التعذيب من الانتهاكات الجنسية، والصدمات الكهربائية، ووضع الأسلاك المحمية على أجسادهم العارية، ونزع أظافرهم، ورش الحوامض الكيميائية على جراحهم، وإجبارهم على تناول القاذورات، حتى إن كثيرا منهم أصبحوا عاجزين عن الحركة، وقد فاضت أرواح كثير منهم تحت وطأة التعذيب النفسي والجسدي والاستجواب المهين.

وأخذوا يقتحمون القرى، ويثيرون فيها الرعب والهلع؛ حيث يتم سحب الرجال من منازلهم، ويقتلون أمام الجميع، ثم يقومون بجلب النساء واغتصابهن أمام ذويهن بل وأطفالهن، وربما انتزعوا أطفالهن من بين أيديهن وخطفوهم إلى حيث لا يعلم مصيرهم، وقد أوردت منظمات حقوق الإنسان غير المسلمة صورًا بشعة للتعامل مع المرأة المسلمة في كشمير تشير إلى عمق الجرح وفداحة المصاب، من تعذيب النساء وإجبارهن على التلوث بالفاحشة، وخنق الفتيات الممتنعات، وبقر بطون الحوامل، وقد تم إحراق أسر بأكملها أحياء، فضلاً عن إحراق المنازل والمزارع.

وإن القصص التفصيلية لهذه المآسي لتبعث على الأسى العميق، والحزن الأليم، ولكن ليس لذكرها هنا سبيل، ولكننا نردد مع الغيورين الذين أسمعوا العالم أصوات الاستغاثات المتكررة من سجون الظلم، وبيوتات المسلمات العفيفات، نردد بعض ما قاله إمام بيت الله الحرام الشيخ عبد الرحمن السديس في خطبة له حيث قال: (( كشمير الأمس تغيرت اليوم وتبدلت، واستحالت نارًا مستعرة، كانت بالأمس نضرة ضاحكة، ولكنها اليوم تبدو باكية، وكيف لا تبكي وقد قُتل رجالها، وعُذب شيوخها، ورُملت نساؤها، وثكلت أمهاتها، وتيتمت أطفالها وانتُهكت أعراض نسائها، وهُدمت منازلها ومساجدها، وذبلت نضارتها، وتحولت جحيمًا مستعرًا، ومسرحًا للعدوان، وميدانًا للظلم والوحشية على يد حثالة البشر، في حقد أعمى وتنكُّر لكل ما يَمُت للإسلام بصلة، يمارسون حرب إبادة جماعية للشعب الكشميري المسلم، ولماذا كل هذا.. والإجابة: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8].

كشمير أنين لا يُسمع، وجرح ينزف، ودم يجري، ودمع لا يجف، شغل عنها جمع كبير، وتجاهلها الإعلام العالمي، وخذلها كثير من الإعلام الإسلامي، فأصبحت قضية تكاد تكون منسية، وفي ثنايا الأحداث مغمورة.

إن كشمير تقف على فوهة بركان يوشك أن ينفجر؛ فيقضي على الأخضر واليابس، الوضع في حالة غليان مروع، الشارع الكشميري تغيرت معالمه، فأصبح مسرحًا للكمائن، المنازل تحولت إلى ثكنات عسكرية، ووصلت انتهاكات حقوق الإنسان إلى درجة مذهلة، وتعطل النظام، وانهار الاقتصاد، ومنع وصول المواد الغذائية والطبية وفُرض حظر التجول، كل ذلك من أجل إخفاء المأساة عن الرأي العام العالمي والإنساني، وتتحدث آخر الإحصاءات الموثقة عن أرقام لولا أنها حقائق ثابتة لعُدت من ضروب الخيال؛ فقد بلغ عدد الضحايا نحو ستين ألف مسلم، والجرحى نحو سبعين ألف، والمعتقلون مثل ذلك، وشُردت أكثر من ثلاثمائة ألف أسرة، وانتُهك عرض أكثر أربعة آلاف امرأة، وبقرت بطون نحو ألف بريئة، وأحرقت آلاف البيوت والمنازل

فيا للعار يلحق بعالم يدعي تبنيه لحقوق الإنسان يرى كل ذلك ويتخاذل عنه، لقد وقف العالم كله بهيئاته ومؤسساته ووسائل إعلامه، ووكالات أنبائه في صمت محير وتخاذل رهيب، إلا من خبر هنا وإشارة هناك، ولكن لا عجب فمادام الضحايا مسلمين فليس ثمة خسارة تستحق الإشارة، ولكن القتيل لو كان واحدًا من نصارى الغرب لقامت الدنيا ولم تقعد.

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39- 40].

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والبيان، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فإن الليل مهما طالت ظلماته فلا بد أن ينبلج الصبح، ولكن لكل تغيير سبب، أو علة أو شرط، وهذا من فقه قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، فهذه سنة الله في الحياة.

وإذا كنا نوجه اللوم للعالم الخارجي على تجاهله حقيقة المأساة في كشمير، وربما تواطأه مع الهندوس، فإن اللوم موجّه إلى المسلمين أكثر.

إن الشعب الكشميري المسلم لا يطلب من إخوانه أي تدخل مباشر، وإنما يناشدهم الوقوف معه وتأييد موقفه في المطالبة بحقه.

إن أكبر دعم مطلوب الآن هو فهم القضية فهمًا صحيحًا؛ وأنها ليست نزاعًا على حدود، ولكنها حق تقرير المصير لملايين البشر المسلمين تحتل أراضيهم من قبل القوات الهندوسية ظلمًا وطغيانًا.

وإن موقف بلادنا أعزها الله من هذه القضية، ونصرتها سياسيًّا وشعبيًّا لقضية كشمير لموقف مشرف، وعلينا فردًا فردًا أن نقوم بجزء من هذا الواجب، فلنقدم ما نستطيع من دعم مادي، ومن دعاء دائم لهم بالنصر والتمكين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 10- 12] .

إن معاناة الشعب المسلم في كشمير على يد الوثنيين سوف تصبح تراثًا خالدًا لكفاح شعب مسلم تعرض للذل والامتهان فأبى، وللامتحان فصبر ونجح، وقدم مئات الشهداء، وآلاف الجرحى والمعوقين على مدى خمسة عقود من البلاء. خمسون عامًا لم تفت في عضد هذا الشعب المسلم المصابر، بل باء الوثنيون بالخزي والعار على الرغم من كل وسائل التنكيل: من إبادة وترهيب وتخويف، ونجى هذا الشعب الأبي بدينه وعقيدته.

إنها ملحمة تؤكد لنا تمسك المسلمين بدينهم مهما كبرت التضحيات، بل إن التضحيات لتزيد من حبهم لدينهم، وهذا هو سر تمسكهم بحقهم في تقرير مصيرهم، واستقلالهم عن حكم الوثنيين.

بلغهم الله ما أرادوا من نصره وتحكيم شرعه، وكفاهم شر الأشرار.



اترك تعليقاً