الخطبة الأولى:
اللهم لك الحمد على الإيمان، ولك الحمد على الإسلام، ولك الحمد على المعافاة، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو حاضر أو غائب، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد على حمدنا إياك، كبت عدونا، وأظهرت أمننا، ومن كل ما سألناك أعطيتنا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1].
أيها الإخوة المؤمنون: البنات عاطفة وإحساس، ولطف في التعامل، والتماس بركة في البيت، وزيادة في الرزق، وطريق إلى الجنة، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جِدَتِه كن له حجابا من النار يوم القيامة“(رواه ابن ماجه وصححه الألباني)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “من عال ابنتين أو ثلاث بنات أو أختين أو ثلاث أخوات حتى يمتن أو يموت عنهن كنت أنا وهو كهاتين وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى“(رواه أحمد وصححه الألباني).
البنت نعمة وزينة، الدرة المصون، واللفتة الحنون، والجمال الروحي، والشرف العالي، وأم المستقبل، ومربية الغد، ومحضن الجيل؛ لذا جعل الله لها حقًّا على وليها؛ فالإحسان للبنت مظهر من مظاهر الإنسانية، يتقرب به الأتقياء الأصفياء، ويجهله الجهلة القساة.
آباءَ البنات، وإخوانَ الفتيات، أيها الكرماء: أعلم أن منكم من يبحث عن الأجر الوارد في النصوص السابقة، ويفرح بالأنثى فرحه بالذكر، ولا يرضى بأن يكون كمن قال الله عنهم: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[النحل: 59].
ولكني أعلم بأن من الناس من يعيش بناته في كنفه في ضُرٍّ وعناء، وحزن وشقاء، ولكنها لا تستطيع أن تتفوه بكلمة واحدة أمامه؛ لتفصح عن حاجاتها، أو تشكو إليه بما في خاطرها، وتظل هكذا حتى تمرض بمأساتها، أو تلجأ إلى صداقات موبوءة، أو حتى إلى محاولة هروب أو انتحار!
فدعوني اليوم أنوب عنهن، وأرفع إلى أسماعكم الكريمة شكايتهن:
أناشدُ فيكَ يا أبتاه قلبًا *** عرفتُ به السماحة والتفاني
أحاول أن أبثَّ إليك حزني *** فتنعقد المشاعر في لساني
أهابُ بأن أقول لك استمع لي! *** فخذ شِعري المعطرَ بالأماني
أبي من للدموع إذا استهلت *** وذاب بحرِّ أحزاني كياني؟
أبي أرجوك لا تفسد حياتي *** ولا توقف ينابيع الحنان
أبي ما زلت أصرخ بالأماني *** أبي هلاَّ شعُرت بما أعاني!
أبي ترجمتُ بالأشعار حزني *** ونبض الشعر أصدق ترجمان
تقول إحداهن: بدأت معاناتي الحقيقية منذ طفولتي، فأهلي يستغلون أية فرصة للانتقاص مني، ويرمونني بأني أقل الأسرة شأنًا، ويرسلون إليّ كل يوم سيلاً من الشتائم والتحقير، فأكبت ذلك في نفسي، وأحاول الابتعادَ عن الجلوس معهم، وأحيانًا أشغل نفسي بالمطبخ، ولكني كلما نظرت في المرآة وجدت الشيب قد غزى مقدمة رأسي، حتى أصبت ببعض الأمراض النفسية.
وأخرى تقول: إن المدرسة هي المتنفس الوحيد لدي؛ لأن البيت مشحون بالضغوط النفسية من قِبلِ والدي ووالدتي وإخواني، حتى أصبحت كالخادمة في المنزل، لم أسمع شكرًا من أحد، ولم أسمع مدحًا أو ثناء أو كلمة طيبة، أصبحت أتعمد التأخر الدراسي وإعادة السنوات الدراسية؛ لأني لم أجد بديلاً عن الجو المدرسي، وعندما نعاتب أبي على غيابه وتقصيره يصرخ فينا، ويقول: وفرت لكم المنزل والمال والملبس! فأصمُتُ وأنا أقول في نفسي: أنا بشر، أحتاج إلى الكلمة الطيبة، واللمسة الحانية، والتقدير والاحترام، مثلما أحتاج إلى الطعام والشراب، نعم أحتاج إلى الحب والعاطفة، والمتابعة الدائمة التي تشعرني بأن لي أبًا يحبني ويحرص عليّ”.
تذكرني هذه الفتاة المكلومة بقول الشيخ سلمان العودة: لقد أرسلت لي إحدى بناتي سؤالاً حيث كنت مسافرًا، وقالت: بابا هل تحبني؟ فشعرت بالتقصير، فنحن منشغلون بأسفارنا وارتباطاتنا، في حين أن أبناءنا وبناتنا ربما ينتظرون منا حتى لو كنا مسافرين رسالة جوال، فكتبت لها نثرا، فوجدتها قد كتبتها على لوحة جميلة وأصبحت إحدى أجمل مقتنياتها في غرفتها:
تسألني نورة هل تحبني؟
قلت لها: لا تسألي.. أنا أحب الشمس في سمائها
أنا أحب البدر في اكتماله، وأعشق النجوم.
أشتاق للورود في أكمامها وقطرات الطلّ في آكامها.
وللشذى الفواح تشمه الأرواح.
وأنت يا نورة كل هذا وأنت فوق هذا!
حين أقول: أنت أنا فإنني لا ألعب بالألفاظ، هذه هي الحقيقة.
نعم لا بد من نظرة الحب من الأبوين، وأن نصحب الأشياء التي نقدمها لبناتنا من الطعام أو الشراب أو اللباس بكلمات من الحب، أن تحتضن الأم ابنتها كلما فرحت أو حزنت؛ لتبقى إلى جوارها، وتحس بهمومها وطموحها؛ فإن من شأن هذا أن يصنع قدرًا كبيرًا من الاعتدال التربوي.
وتحتدم مشاعر فتاة ثالثة، ويختلط حبها لأبيها بعتابها الكبير له فتقول: أبي، لا حرمنا الله وجودك وهدايتك. إني ابنتك قطعة منك؛ فلماذا لا تحسنُ إليّ؟! أشبع عاطفتي بالأبوة، حاورني، انصحني، لماذا هذا الجفاف في التعامل؟!
أبي إني أريد حنانك وودك، ألا ترى -يا أبي- أن إخوتي بدأوا يعاملونني مثل معاملتك السيئة؟! لقد بلغ السيلَ الزُّبَى. لقد جاوزت الثلاثين من عمري، وأحس بأنه قد فاتني قطار الزواج، وأخشى بأن تطغى عليّ أحاديث النفس الأمارة بالسوء، ووساوس الشيطان، فأكون صريعة لأحد الثعالب، لقد ضقت ذرعًا بزوجات إخواني وهن يهمزن ويلمزن، وبنات جنسي ينظرنني بنظرات غريبة، مليئة بالشفقة والتساؤلات الجائعة. يكاد صدري ينفجر بسبب ضغطك النفسي عليّ أنت وإخوتي.
كفى يا أبي، كفى يا إخوتي، لا أريد إلا تعاملاً حسنًا، لا أريد إلا حنانًا وحبًّا.
هذا هو الصوت المخنوق وراء جدران الأنوثة المروعة، إنهن فلذات الأكباد؛ فمتى نعود إليهن؛ ليشبعن عاطفة، ويهدأن روحًا، ويستقمن شريعة ودينًا؟! ليكن قرة عين لنا دنيا وأخرى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الفرقان:74].
توبوا إلى الله واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عدد الأشجار والأزهار والأثمار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: اتقوا الله.
أيها الآباء والأولياء: أعلم أن الأصل في هذا البلد الكريم، وفي هذا المجتمع الأصيل أنه يكرم الفتاة، ويحرص على تنشئتها التنشئة الهانئة المستقيمة، ولكني موقن بوجود من لم يلتفت إلى ابنته في غير مطعم أو ملبس، بل هناك من يذلها ويهينها، وهي الضَّيفة الشريفة، التي ربما تنتقل من بيته في أية لحظة من اللحظات، ولا أدري ماذا ستتذكر؟! وأي تاريخ سطرته معه؟!
متى تُبدلون الآلام التي تنداح *** في أجواف فتياتكم فرحا؟!
متى تنتزعون الآهات التي *** تتلوى في صدورهن ترحا؟!
ألسن قطعا من قلوبكم؟! *** بل هن شرفكم وكرائمكم
أين التدليل في الصغر؟! *** لماذا استحال عذابا في الكبر؟!
أين التحنن والتقرب والاحتضان الدافئ، والقبلات الأبوية الكريمة حين كن لعبًا في أحضانكم؟! كيف تنكبتم كل هذا، ولمن تركتم هذه الحاجة الماسة؟!
بناتكم في حاجة إلى الابتسامات التي تبذلونها لغيرهن بسخاء، بحاجة إلى طيبتكم ورقتكم ومشاعركم الحانية.
إن العنف والقسوة والصلف والشدة والتقريع والتجريح، لن يولد إلا انفجارًا لا يعرف أين مداه!
وإن التجاهل والإهمال والانشغال عنهن لن يخلف إلا فراغًا قد يمتلئ جمرًا!
لتكن التنشئة معززة بحب الله ورسوله الله -صلى الله عليه وسلم-، وتقوية أواصر التقوى والإيمان، وإذكاء المحبة بين الأبناء والبنات ونبذ الأنانية، وتعزيز خاصية الجود وتبادل سمات الكرم أخذا وعطاءً.
أيها الآباء: ابعثوا الكلمات الرقيقة المغلفة بالحب والتلطف في ألسنتكم الذاكرة.. اقتربوا لتحسوا بطعم التربية ومذاقها الجميل، لتسعكم بيوتكم لتنعموا بالاستقرار والطمأنينة والنجاح والتوفيق بإذن الله -تعالى-.
لولا الحنان لما رأيت سعادة *** لولا السماء لما رأيت نجوما
يقول أبو قتادة -رضي الله عنه-: “بينا نحن جلوس في المسجد إذ خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحمل أُمامة بنت أبي العاص بن الربيع، وأمها زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي صبية يحملها، فصلى رسول الله وهي على عاتقه، يضعها إذا ركع، ويعيدها إذا قام، حتى قضى صلاته، يفعل ذلك بها”(صحيح الترمذي)، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- من أرحم الناس بالصبية عمومًا سواء أكانوا ذكورًا أم إناثًا، يقبّلهم ويمسح على رؤوسهم ويدعو لهم ويداعبهم، وفي التأسي به -صلى الله عليه وسلم- أجر وصلاح لديننا ودنيانا.
وللعلم فإنه كلما كبرت الفتاة احتاجت إلى مزيد من الشعور بالتقدير والاحترام، فإذا وُفِّرت لها هذه الحاجة وأحست بأن لها في بيت أبويها قيمة ومنزلة، كان ذلك أدعى إلى استقرار نفسيتها وطمأنينتها واستقامة أحوالها، وخصوصًا إذا كانت مطلقة، أما إذا رأت الاحتقار والإهمال فلا تعامل إلا بلغة الأمر والنهي وطلب الخدمة، أورثها ذلك كرهًا لبيتها ولأهلها وربما وسوس لها الشيطان فأخذت تبحث عما تفقد من العطف والحنان بالطُرق المحرمة التي تؤدي بها إلى هاوية سحيقة الله أعلم أين يكون قرارها.
ويجب العدل بينها وبين إخوتها من الذكور والإناث؛ فإن الشعور بالظلم والانحياز إلى غيرها أكثر ما يزرع في نفسها كره أبويها والحقد على من فُضل عليها من إخوتها أو أخواتها.
فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، ألا تحبون أن يكونوا لكم في البر سواء؟! هكذا وجهنا صلى الله عليه وسلم: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا)[الأحزاب: 36].
اللهم ارزقنا حبًّا لبناتنا، وحب بناتنا لنا، واجعلهن لنا قرة أعين، واحرسهن من كل مكروه، وأسبغ عليهن سترك الجميل، وبلغنا فيهن كل خير، وحبب لهن الهدى والتقى والعفاف والإخلاص، واجعلهن قانتات، عابدات، ذاكرات، مؤمنات؛ إنك سميع الدعاء.
اللهم احم المسجد الأقصى الشريف من أيدي أعدائه، وكن عونًا لأهله على طرد البغاة المعتدين من أكنافه، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان.
اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وبارك لنا في دنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، وارزقه البطانة الصالحة التي تعينه على الخير وتدله عليه، واجعله حربًا على أعدائك، سلمًا لأوليائك، ووفقه إلى ما تحبه وترضاه؛ إنك جواد كريم.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم على الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن بقية الآل والصحب أجمعين.