الأخفياء

الأخفياء 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا أما بعد

فيا عباد الله أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، امتثالا لأمر الله جل وعلا في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1.2].

أيها الأحبة في الله: 

إن من النعم العظيمة التي ذكرها الله في كتابه، وامتن بها على عباده للمؤمنين إذنه عز وجل برفع المساجد في الأرض، وإقامة ذكره تعالى فيها، قال الله جل وعز: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 36- 37].

وقد آثرت الحديث في هذا اليوم المبارك، ونحن نصلي ـ بفضل الله تعالى ـ أول جمعة في هذا الجامع، أن أبدأ الخطب بالحديث عن أعظم وصف للمؤمن، كان العلماء الأجلاء يبدءون به كتبهم، تذكيرًا لأنفسهم، ووعظًا لقرائهم؛ لأنه المفتاح لكل عمل، بل به يرفع العمل الدنيوي إلى منزلة العبادة، وبدونه يهبط العمل الشرعي إلى دركات الإثم والخطيئة.

ذلكم هو الإخلاص حقيقة التدين لله، وقسيم صحة العمل في القبول، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 25] وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله قال الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه)) [رواه مسلم].

الإخلاص، ذلك العمل القلبي العظيم، الذي يتمثل في قصد القلب من حركات صاحبه وسكناته وعباداته الظاهرة والباطنة، أن تكون خالصة لوجه الله تعالى، لا يريد بها شيئًا من حطام الدنيا أو ثناء الناس، بل يظل يعالج المؤمن نفسه حتى تكون علانيته وسريرته سواء، لا يمازجه نفسٌ ولا هوىً ولا دنيا.

ولذلك فقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله أشد الناس خوفًا على أعمالهم من أن يخالطه الرياء أو تشوبها شائبة الشرك. فكانوا رحمهم الله يجاهدون أنفسهم في أعمالهم وأقوالهم، كي تكون خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى.

ولذلك لما حدث يزيد بن هارون بحديث عمر : ((إنما الأعمال بالنيات)) والإمام أحمد جالس، فقال الإمام أحمد ليزيد: يا أبا خالد هذا الخناق.

وكان سفيان الثوري يقول: ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نيتي لأنها تتقلب عليّ.

وقال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.

وقال سهل بن عبد الله التستري: ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب.

وقال ابن عيينة: كان من دعاء مطرف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمت. وكان بعضهم رحمهم الله يقوم الليل أكثر من عشرين سنة ولم تعلم به زوجته، فانظر كيف ربّوا أنفسهم على الإخلاص وحملوها على إخفاء الأعمال الصالحة، فأي إخفاء للعمل كهذا، وأي إخلاص كهذا.

لقد جاء القرآن الكريم والسنة المطهرة بمشروعية إخفاء بعض العمال الصالحة، كما جاء التشريع بإظهار بعضها، فالفرائض تذاع، وتقام على رؤوس الأشهاد ؛ حتى تظهر شرائع الدين وشعائره، وحتى يذب المسلم عن عرضه، ويشيع الخير والبر والطاعة في المجتمع المسلم، بينما تخفى النوافل تربية للنفس على الإخلاص، وبعدا بها عن الرياء، وتقربًا إلى الله تعالى بما يحب ويرضى من صافي العمل.

يقول المصطفى – صلى الله عليه وآله وسلم – في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) رواه البخاري. فانظر إلى دقة الخفاء في هذه الصدقة. قال الحافظ ابن حجر: “وهو من أقوى الأدلة على أفضلية إخفاء الصدقة”. وفي الحديث نفسه صورة أخرى يذكرها صلى الله عليه وآله وسلم: ((ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)). وقال r ((صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)). وذكر الذهبي في السير أن السلف الصالح كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها.

خرج عمر بن الخطاب يومًا في سواد الليل واحدا ً، حتى لا يراه أحد، ودخل بيتًا، ثم دخل بيتًا آخر، فرآه طلحة –رضي الله عليه وأرضاه- فظن أن في الأمر شيئًا، لماذا دخل عمر لهذا البيت؟ ولماذا وحده؟ ولماذا في الليل؟ ولماذا يتسلل؟ ولماذا لا يريد أن يراه أحد؟ فلما كان الصباح ذهب طلحة فدخل ذلك البيت فلم يجد إلا عجوزًا عمياء مقعدة، فسألها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ وكانت لا تعرفه –رضي الله عنه وأرضاه- قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني، ويخرج الأذى عن بيتي.

{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29].

وهنا ينبغي أن نعلم أن هناك أخفياء ولكنهم أخفياء من نوع آخر. أخفياء يختفون عن أعين الناس، ويحرصون كل الحرص ألا يطلع أحد من الناس على أعمالهم. قال عنهم النبي صلى اله عليه وآله وسلم: ((لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله عز وجل هباء منثورًا ))، يقول راوي الحديث ثوبان – رضي الله عنه -: يا رسول الله صفهم لنا، جلّهم لنا، أن نكون منهم ونحن لا نعلم. فقال النبي – صلى الله عليه وآله وسلم-: ((أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) [أخرجه ابن ماجه من حديث ثوبان بسند صحيح]. ولكن هل تخفى الحقيقة على الله يقول الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]. {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]، فنعوذ بالله من حالهم، ونستغفر الله لحالنا.

يقول عمر رضي الله عنه، اسمع لكلام المحدث الملهم رضي الله عنه وأرضاه يقول: (فمن حسنت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وما بين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله ).

اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، واجعلها خالصة لك، صوابًا على سنة رسولك آمين. واغفر لنا خطيئاتنا وإسرافنا في أمرنا إنك أنت السميع العليم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله شرح صدور المؤمنين لطاعته، وأعانهم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واكشفوا لأنفسكم حقيقة قلوبكم، فما وجدتم من خير فاحمدوا الله عليه، وما قد يوجد من شوائب الرياء والسمعة، فنقوا أفئدتكم منه.

ولعل سائلا يسأل: إنني تعبت من تمييز نيتي، وتصفيتها، فما المعيار في الإخلاص؟ والمعيار في الرياء؟ أجاب عن ذلك أهل العلم فبينوا أن الضابط في الإخلاص هو استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن. وضابط الرياء أن يكون ظاهرك خيرًا من باطنك.

ليست القضية أن يستوي الظاهر والباطن، هذا هو الإخلاص، أما صدق الإخلاص، أن يكون الباطن أفضل من الظاهر. ولا بد أن نتنبه أخي الحبيب ! ويا أختي المسلمة ! أن ذلك لا يعني أن تترك كثيرا من الأعمال بحجة الخوف من الرياء، فقد قال الفضيل رحمه الله: إن ترك العمل لأجل الناس رياء. بل يكون هذا الخاطر وسيلة طيبة للتذكير بتجديد النية، وإخلاصها، يقول الفضيل رحمه الله: (ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس، والاحتراس من ظنونهم الباطلة لانسد عليه أكثر أبواب الخير، وضيع على نفسه شيئًا عظيمًا من مهمات الدين، وليس هذه طريقة العارفين).

ودعونا الآن نرحل مع بعض الموفقين للإخلاص والخفاء من سلفنا الصالح، لطلب التأسي، لعل قلوبنا تشتاق ما وصلوا إليه من منزلة عظمى عند الله، والموفق من يسر الله له طريق الإخلاص فسلكه.

كان عبد الله بن المبارك يتردد على مدينة (طرسوس)، وكان ينزل الرقة في خان، فكان شاب يقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، وذات مرة خرج في الجهاد. فلما قفل من غزوته، ورجع إلى الرقة، سأل عن الشاب. فقالوا: إنه محبوس لدَيْن ركبه. فقال عبد الله وكم مبلغ دينه؟ فقالوا: عشرة آلاف درهم. فلم يزل يستقصي حتى دلَّ على صاحب المال، فدعا به ليلاً ووزن له عشرة آلاف درهم، وحلفه ألا يخبر أحدًا مادام عبد الله حيًا، وقال: إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبس. وأدلج عبد الله ( أي سار في آخر الليل ). وأخرج الفتى من الحبس وقيل له: عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان يذكرك، وقد خرج. فخرج الفتى في أثره، فلاحقه على مرحلتين أو ثلاثة من الرقة. فقال ابن المبارك: يا فتى أين كنت؟ وكأنه ما علم عن حال الفتى لم أرك في الخان. فأجابه نعم يا أبا عبد الرحمن كنت محبوسًا بدَيْن. فسأله: وكيف كان سبب خلاصك؟ قال: جاء رجل وقضى ديني ولم أعلم به حتى أخرجت من الحبس، فقال له عبد الله: يا فتى احمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك. فلم يخبر ذلك أحدًا إلا بعد موت عبد الله.

واسمع إلى هذه القصة العجيبة الغريبة عن ابن المنكدر قال: كانت لي سارية في مسجد رسول الله r أجلس أصلي إليها الليل. فقحط أهل المدينة سنة فخرجوا يستسقون فلم يسقوا. فلما كان من الليل جاء رجل أسود، تعلوه صفرة، متزر بكساء، فتقدم إلى السارية التي بين يدي وقمت خلفه. فقام فصلى ركعتين ثم جلس فقال: أي رب أي رب، خرج أهل حرم نبيك يستسقون فلم تسقهم، فأنا أقسم عليك لما سقيتهم. يقول ابن المنكدر: فقلت مجنون. قال فما وضع يده حتى سمعت الرعد ثم جاءت السماء بشيء من المطر أهمني الرجوع إلى أهلي. يعني من كثرة المطر. فلما سمع المطر حمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها قط، ثم قال: ومن أنا وما أنا حيث استجبت لي، ولكني عذت بحمدك، وعذت بطَوْلك. فلما كانت الليلة الثانية صليت العشاء ورأيته، ثم إذا سلم الإمام خرج من المسجد وخرجت خلفه، فجعل يمشي واتبعه حتى دخل دار عرفتها من دور المدينة.

ورجعت إلى المسجد فلما طلعت الشمس وصليت خرجت حتى أتيت الدار، فإذا أنا به قاعدًا يخرز، وإذا هو إسكافي. فلما رآني عرفني، وقال: أبا عبد الله مرحبا ألك حاجة، تريد أن أعمل لك خفًا؟ فجلست فقلت: ألست صاحبي بارحة الأولى؟ فاسود وجهه، وصاح بي، وقال: ابن المنكدر ما أنت وذلك. قال وغضب، قال: ففرقت والله منه. فلما أصبحت في اليوم التالي جلس في المسجد حتى طلعت الشمس، ثم خرجت حتى أتيت الدار التي كان فيها فإذا باب البيت مفتوح وإذا ليس في البيت شيء. فقال لي أهل الدار: يا أبا عبد الله ما كان بينك وبين هذا أمس؟ قلت ما له؟ قالوا لما خرجت من عنده أمس بسط كسائه في وسط البيت ثم لم يدع في بيته جلدًا ولا قالبًا إلا وضعه في كسائه، ثم حمله ثم خرج، فلم ندر أين ذهب. يقول ابن المنكدر: فلم يبق في المدينة دار أعلمها إلا طلبته فيها، فلم أجده. رحمه الله.. ما أتقاه !

((اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا ونحن نعلمه ونستغفرك مما لا نعلمه)).

ثم صلوا وسلموا على معلم الناس الخير ومربي البشرية على منهج الله القويم سيدنا ونبينا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله كما أمركم الله جل وعلا بذلك فقال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب: 56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، أخص منهم الخلفاء الراشدين المهديين من بعده ؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم اجعل عامنا المقبل علينا خيرًا من عامنا المنصرم عنا، اللهم اجعله عام خير وبركة وصلاح وأمان، اللهم وفقنا فيه لما ترضى، وجنبنا فيه الفتن ما ظهر منها وما بطن، واجمع اللهم فيه كلمة المسلمين على الحق، وأعز الإسلام وأهله، وأذل الكفر وأهله، وانتقم لكل دم مسلم أريق، ولكل عرض مسلمة انتهك، ولكل شبر من أراضينا اغتصب. واجعله عام انتصار للمسلمين في كل أرض تعلو فيها راية للجهاد في سبيل الله.

اللهم فك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضال المسلمين، وهيئ لأمة الإسلام أمرا رشدا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 



اترك تعليقاً