الأزمة العالمية .. يمحق الله الربا

الأزمة العالمية .. يمحق الله الربا

الخطبة الأولى:

الحمد لله المتوحد في جلاله، المتفرد في سلطانه، جل عن الشريك والند، وتنزه عن الصاحبة والولد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1.2]، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الحشر: 18].

عباد الله:

حق على الله ما ارتفع شيء إلا وضعه، وها نظام الرأسمالية يترنح ويتهاوى في أمريكا وأوربا ويتتابع في كل الأنظمة المالية التي تدور فلكه.

صدق الله وكذب بطن أخيك..

عن أبي سعيد رضي الله عنه ((أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أخي يشتكي بطنه فقال اسقه عسلا ثم أتاه الثانية، فقال: اسقه عسلا ثم أتاه الثالثة، فقال اسقه عسلاً ثم أتاه فقال: قد فعلت، فقال: صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا فسقاه فبرئ)) رواه البخاري.

نعم صدق الله جل جلاله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]، وكذبت أنظمة الرأسمالية مهما طال بقاؤها، وتحكمت في رقاب الناس طويلاً. 

شتان ما بين اقتصاد يستمد قوته من السماء، وبين اقتصاد يستمد قوته من طينة الأرض، والفرق بينهما كالفرق بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29]. ولهذا كان من الطبيعي أن يتعرض الاقتصاد البشري لهزات عنيفة، وضربات موجعة، تُفقده السيطرة على نفسه، ليترنح في أسواقهم المالية، وشركاتهم ومؤسساتهم البنكية، ويغدو في صورة من يتخبطه الشيطان من المس {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]، أما الاقتصاد السماوي فهو كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، ولهذا سيبقى شامخاً أبد الدهر- ما دام لم يشوَّه بيد أبنائه- لأنه يرتكز على مبادئ وأصول تنأى به عن التعرض لهزات، وتجعله في مأمن من الوقوع في أزمات، ومن تلك المبادئ والأصول التي يرتكز عليها:

  • ·أن الاقتصاد السماوي لا يعارض الفطرة البشرية، ولا يصادم الغريزة الإنسانية، وإنما يرسم على منوالها، وينسج على منهاجها، ولهذا نجد الإسلام قد سمح للمسلم بالتملك، واعتبره من الحقوق الطبيعية للفرد، في الوقت الذي نجد فيه النظام المالي الشيوعي حين حارب فطرة التملك في شعور الإنسان ووجدانه، ولم يسمح له بالتملك إلاّ في حدود ضيقة جداً، حينذاك وجدناه قد فشل فشلاً ذريعاً، وسقط في مدة وجيزة، وتتابعت- إثر ذلك- سقوط دوله الشيوعية واحدة بعد أخرى كلعبة الدومينو، كما يُقال!
  • ·أن الاقتصاد السماوي جاء مراعياً لقيم العدل والإنصاف، دافعاً للظلم بكل أشكاله القديمة والمستجدة، ولهذا نجد النظام المالي في الإسلام يكرِّس العدل في كل معاملاته، ويحفظ حقوق الفرد والجماعة، وحقوق الأغنياء والفقراء على حد سواء، ومن هنا حرَّم الإسلام- مثلاً- كل ما يضرّ بالغير كالغش، وبيع المسلم على بيع أخيه، وبيع الغرر”مجهول العاقبة”، وبيع ما لا يقدر على تسليمه، وبيع ما لا يملك، ومنع من كل ما فيه ابتزاز لأحد المتعاقدين، أو استغلال لظرف من ظروفه، ولهذا حرّم القرض بالفائدة، ومنع بيع المكره، والفضولي، وقيّد بيع الصغير… إلخ.  

أما النظام الرأسمالي فإنه أبعد ما يكون عن تحقيق هذا المبدأ، وقد أنطق الله تعالى رئيس روسيا بكلمة حق حين قال: “لقد انتهى عصر الهيمنة الأمريكية على النظام المالي، نريد نظاماً مالياً أكثر عدلاً”، وهذا التصريح لم يجانف الحقيقة، ولم يجانب الواقع- وإن كان قد جاء من سياسي ينتمي إلى دولة تمثِّل نداً لأمريكا- فإنه لم يعد خافياً على أدنى متابع أن النظام الرأسمالي نظام غير عادل؛ لأنه يكرس الطبقية في المجتمع عبر تمكين الأغنياء من رقاب الفقراء، وعبر تمكين رجال الأعمال من جيوب البؤساء- فضلاً عن تكريس الطبقية بين الدول الغنية والفقيرة- كما أنه لم يعد خافياً على أحد أنه يحترم المال على حساب الآدمي، وهي معادلة مقلوبة على أم رأسها..! ولهذا يسمح هذا النظام الأقل عدلاً (الظالم) بإلقاء المنتجات الزراعية في المزابل؛ من أجل أن تحافظ شركاتهم الزراعية على قوى العرض والطلب، ولو تضوّر الفقراء جوعاً، ولو بحثوا عن كسرة الخبز في صناديق النفايات، بل ولو بحث عنها النساء من كدّ…! “أستغفر الله”!

  • ·أن الاقتصاد السماوي يراعي المصلحة العامة، ويقدمها على المصلحة الخاصة عند التعارض، ويرتكب أدنى المفسدتين في سبيل دفع أعلاهما، ولهذا حرّم الإسلام العديد من المعاملات التي تجرّ منفعةً للفرد إذا كانت تضر بالمجتمع، أو بالاقتصاد العام، ومن هنا جاء تحريم الخمر؛ لأنه وإن حقّق ربحاً للبائع، فإنه يحقّق مفاسد كبيرة للمجتمع بكل شرائحه، وحرَّم الربا، والقرض بالفائدة؛ لأنها تكرّس الطبقية في المجتمع، وتشحن الجو المجتمعي بحب الذات والأنانية المفرطة، ومنع من بيع السندات؛ لأنه يسهم في تقنين الربا، وتعليبه في قوالب ورقية، وتوزيعه على أكبر قدر ممكن من أفراد المجتمع، ليتلطخ الجميع بأوضاره وأوساخه، وليتحول المجتمع بمؤسسته وشركاته وأفراده إلى مدينين، لبعضهم البعض! كما حصل في هذه الأزمة الأخيرة؛ إذ أصبح الجو الأمريكي مشحوناً بالدين، ولهذا توالى الإعسار بالدين، وتدحرجت كرة الثلج، وتوالت حوادث الإفلاس! وكذا منع الشارع الحكيم من الاحتكار؛ لأنه ينزع اللقمة من أفواه الناس، ويؤدي إلى رفع الأسعار على العامة، ومنع من بيع ما لا يملكه البائع، ومن المقامرة على فروق الأسعار في سوق المال بأرقام خيالية لا تعبر عن حقيقة واقع الشركة، لتجنيب السوق من عمليات وهمية…الخ، وكذا مَنَعَ من تلقّي الركبان؛ لأنه يضر بالسوق، حيث يؤدي إلى التحكم في العرض، ما يؤثر سلباً في الأسعار، وارتفاعها، كما يمثِّله في عصرنا الحاضر وكلاء الامتياز…إلخ- مع بعض الفروق التي هي محل نظر- وهذا بخلاف النظام المالي الرأسمالي الذي يوسع من هامش حرية الفرد على حساب المجتمع، وإن منع بعض الصور التي منعها الإسلام كبعض صور الاحتكار مثلاً، لكنه يغض الطرف عن كثير من المعاملات الأخرى التي تلحق الضرر بالعامة كالبيع على المكشوف، وبيع السندات، والأقساط الشهرية المعلقة على الفائدة البنكية المتغيرة- مما زاد الديون ضغثاً على إبالة- فأضرت باقتصاد البلد ككل، وجعلت الرئيس الأمريكي يطل على شعبه ويقول محذراً، ومتوسلاً للكونجرس الأمريكي: “اقتصادنا في خطر!!” وهذا أمر طبعي؛ لأن التشريع إذا كان من الخلق، فإنه سيقع حتماً في التناقض والاختلاف {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: 82].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله، وأشهد ألا إله إلا الله….

عباد الله: إن الاقتصاد السماوي قد جعل من أصوله العامة حِلّ المعاملات، ولم يحرم منها إلاّ ما استثني، وبالتالي فهو وسّع من هامش الحلال، ولكنه في الوقت ذاته حرَّم بعض المعاملات التي فيها ربًا، أو ضرر، أو غرر، أو تغرير…، وعليه فإنه لا يوجد في الإسلام “سوق حرة”، وهذا بخلاف النظام الرأسمالي الذي فتح السوق على مصراعيها، ورفع شعار “السوق الحرة” وهاهم اليوم يعيشون أزمة خانقة بسبب هذه النظرية البائسة! ويطالبون علناً بضرورة إعادة صياغة نظامهم المالي؛ ليكون أكثر أمناً وعدلاً!
إن الاقتصاد الإسلامي يرتكز على “الاقتصاد المنظم” لا “الحر”، ولهذا نجد الشارع الحكيم قد وضع شروطاً للبيع، وأخرى للسَّلَم، والإجارة، والرهن، والحوالة، وضوابط للشركة… إلخ، وهذه الشروط والضوابط لم توضع من أجل تقييد حرية المتعاقدين، وإنما وُضعت لتحقيق مصلحة الطرفين، والنأي بهما عن الوقوع في إشكالات تضرّ بهم في الحال أو في المآل، واليوم -ومع وقوع الأزمة المالية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا- أصبحنا نسمع من ضفتي المحيط الأطلسي مَن يطالب بتحويل “الاقتصاد الحر” إلى “اقتصاد منظم”- كما أشرت إليه سلفاً- حتى تنأى بلادهم المتحضرة عن مثل هذه الأزمة المالية، والتي أضرت بالشركات والبنوك فحوّلتها إلى جدران صامتة خاوية من النقود، وأضرّت بآلاف موظفي تلك الشركات والبنوك المنهارة فحولتهم إلى عاطلين، وأضرّت بمودعي الودائع البنكية فأدخلت في نفوسهم الهلع خوفاً من تبخر أرصدتهم في البنوك المنهارة، وأضرّت بالاقتصاد العام للبلد فمهّدت له طريق الكساد أو الركود! ومهما حاولوا إعادة هيكلة “اقتصادهم الحر” ليكون “اقتصاداً منظماً” فإنه لن يكون أبداً بمستوى “الاقتصاد المنظم من عند الخالق عز وجل: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل:17].

وأخيراً، فإن اقتصاداً يحترم الفطرة البشرية، ويراعي العدالة الاجتماعية، ويحقّق المصلحة الخاصة والعامة، ويدرأ المفسدة الراجحة، ويوسّع من هامش الحلال، ويضيق من دائرة الحرام، ويرتكز على سوق مالي منظم من عند خالق البشر.

إن اقتصاداً بهذه المقومات والمبادئ، لهو جديرٌ بأن يحقق الخير والرفاه للفرد والمجتمع، وحقيقٌ أيضاً بأن ينأى بأفراده وبشركاته وبنوكه عن الأزمات، وذلك متى التزم أفراد المجتمع، وشركاته، وبنوكه، ومصارفه، تعاليم الخالق الحكيم العليم (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14]، أما إن تنكبوا الطريق، وضلّوا السبيل، واستدبروا تعاليم الخالق سبحانه، واستقبلوا شطر الذين صنعوا الطائرة والبارجة والدبابة وعجزوا عن خلق الناموسة والنملة والذبابة، فسيتسلل إليهم ما تسلل إلى غيرهم.

(وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].

وصدق الله تعالى إذ يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] أليس من تأويل هذه الآية الكريمة ما يتنادى به اليوم خبراء الاقتصاد في الغرب – وليس بلاد المسلمين- لتطبيق الشريعة الإسلامية في المعاملات الاقتصادية لإنقاذ أسواقهم من وهدتها السحيقة، حتى قال رئيس تحرير مجلة تشالنجز موجهًا كلامه لبابا الفاتيكان: “أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلاً من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبّقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود”.

وفي استجابة – على ما يبدو لهذه النداءات، أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية -وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك- في وقت سابق قرارًا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية التي يتميز بها النظام الرأسمالي واشتراط التقابض في أجل محدد بثلاثة أيام لا أكثر من إبرام العقد، وهو ما يتشابه إلى حد ما مع أحكام الفقه الإسلامي.

كما أصدرت نفس الهيئة، وفقًا لموقع إسلام أون لاين، قرارًا يسمح للمؤسسات والمتعاملين في الأسواق المالية بالتعامل مع نظام الصكوك الإسلامي في السوق المنظمة الفرنسية.
اللهم أرد بالمسلمين خيرًا، اللهم ردهم إلى دينك ردًّا جميلاً، اللهم أرهم الحق حقًّا وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه.

اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، وارحم ضعفاءهم، اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين في كل مكان، ووفقهم إلى تحكيم شرعك، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات يا واسع الرحمات.

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد بن عبد الله وآله الأطهار، وارض اللهم عن صحابته الأبرار، ومن اتبع سنته إلى يوم الدين يا عزيز يا غفار.



اترك تعليقاً