الأنقياء

الأنقياء

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار.

أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله وطاعته، استجابةً لأمر الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1.2].

أيها الإخوة المؤمنون:

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب صدوق اللسان)) قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)) رواه ابن ماجه.

إن هذا الحديث يطرح صفة شفّافة، يتمنى كل الناس أن يكون كل من حولهم ممن يتحلون بها، ولكن كثيرًا منهم يفشل في أن يكون هو من أهلها.

فقد كثر النزاع، واستشرت الفُرقة، وامتلأت النفوس، وأوغرت الصدور، فلا تكاد تسمع إلا كلمات التنقص والازدراء وسوء الظن، والدخول في النيات والمقاصد فما النتيجة؟

إن خُوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبوا         أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا

على آرائـكـهم سـبحان خالقهم             عاشوا وما شعـروا، ماتوا وما قبروا

وإنما هبَّت ريح الفُرقة من طرف خفي على الغافلين، وهو معصية الله بالتنازع دون الرجوع إلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واجتهاد العلماء العاملين، يقول الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

وسبب التنازع إنما هو من سوء الطوية، والحقد والحسد المتجذر في القلب، ولذلك ما أحوجنا اليوم إلى الأنقياء، أصحاب القلوب المخمومة من أمراض الفساد. فالأنقياء لا يعرفون الانتقام، ولا التشفي، ويتجاوزون عن الهفوات والأخطاء. والأنقياء يتثبتون ولا يتسرعون، والأنقياء سليمة قلوبهم، نقية صدورهم، يحبون العفو والصفح وإن كان الحق معهم. ألسنتهم نظيفة، فلا يسبون ولا يشتمون، الأنقياء صفاء في السريرة، ونقاء في السيرة، دعاؤهم ((اللهم قنا شح أنفسنا)) {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

أيها الأحبة.. قد نسمع بمن يتحدث عن سلامة الصدر، وطهارة القلب، وصفاء النفس، ولكن حين تخالطه فإنك ستصدم بغيبة مُلْبَسَة بلباس النصيحة، وبحديثٍ يشفي الغليل ويرضي الخليل، أو بهمز ولمز وانتصار للنفس، فيا من في قلبك خشية الله، هلا خذلت الشيطان، ودافعت عن أخيك بدلاً من هتك غيبته، هلا تذكرت كلمات الحب والإخاء، والصدق والوفاء، والنصح والصفاء، هلا بحثت عن أمرٍ بينك وبينه يجمع قلبك بقلبه، ويؤلف روحك بروحه، وتذكر ما تتفق فيه معه، لا ما تختلف فيه معه، لنملأ قلوبنا بما يعمرها ولا يخربها، وندعو الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} [الحشر: 10].

سامح أخاك إذا خـلط         منه الإصابة بالغلـط

من ذا الذي ما ساء قط       ومن له الحسنـى فقط

قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ. رواه أحمد.

الله أكبر.. تلك التي لا نطيق.. سلامة الصدر على جميع المسلمين بلا استثناء، أين من يكثر السجود وهو يحمل مثل الجبال من الحقود على إخوانه المسلمين؟! أين من يتزيا بزي أهل الإيمان، وهو يكيد للمسلمين ويحسدهم على ما آتاهم الله من فضله؟!

الأمر يا أخي ليس بكثرة صيام ولا صلاة ولا صدقة فحسب، إنما بشيء وقر في القلب: الصدق مع الله، وسلامة الصدر، وتنقية هذا القلب من الغل والحقد والغش للمسلمين.

ولن ينجح المسلم في تنقية داخله من الحقد على المسلمين إلا إذا سامحهم عما يبدر منهم ضده، وهو الجود بالعرض، كجود أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنهم، كان إذا أصبح قال: اللهم لا مال لي أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني أو قذفني فهو في حل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يستطيع أن يكون منكم كأبي ضمضم)).

ولنكرر السؤال على أنفسنا.. من يستطيع منا أن يكون كأبي ضمضم؟

بل من فعل منا ما فعله معاذ بن جبل رضي الله عنه حينما تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه، فسأل عنه رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل كعب؟ فقال رجل من قومي: خلَّفه برداه والنظر في عطفيه، يلمزه بذلك، فقال معاذ بن جبل -وكان حاضرًا فسمع-: ((بئس ما قلت، والله ما نعلم إلا خيرًا)) رواه البخاري.

لقد كان في إمكان معاذ أن يسكت تأدبًا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه أعلن الحق جريئًا، صريحًا، لم يؤخره عن وقته، ولم يجامل فيه المغتاب، وكأنه يستحضر حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((من ردَّ عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة)).

إننا كثيرًا ما نسمع من يطعن في سيرة إخواننا أمامنا، فنجامل، ونتناسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام: عرضه ودمه وماله)). وكان يجب أن يحس كل واحد منا أنه محامٍ عن أعراض إخوانه، في أي مجلس كان، وأمام أي كائن كان، فلا يغلبن المغتاب بجرأته المحرمة، صاحب الحق في مقالته التي يذب فيها عن عرض أخيه.

ومن جانب آخر ينبغي لمن أتاه أخوه يستسمح منه، ويتحلل من غيبته وإيذائه أن يبادر بمسامحته، وهذه صورة رائعة حدثت بين أمهات المؤمنين، حيث روي عن عائشة أن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم دعتها عند موتها فقالت: قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقالت عائشة: غفر الله لك كله وحللك من ذلك، فقالت أم حبيبة: سررتيني سرّك الله.

إنها قلوب حريصة على بقائها نقية صافية مهما اعترضتها من آفات قد تكون من طبيعة بعض العلاقات كأصحاب المهنة الواحدة، والأقارب المتجاورين، والأقران، والضرائر.

أيها الأخ الحبيب..

ألست ترى معي كم يرتاح قلبك حين تسامح، وكم تقع في قلق وهمّ وشغل شاغل إذا قررت الانتقام ممن ظلمك من إخوانك المسلمين؟

تلك قضية لن تخالفني فيها لو تأملتها جيدًا، وهذا عمرو بن العاص قالها حينما قال له رجل: (( لأتفرغن لك))، فما زاد أن قال له: ((إذن تقع في الشغل)).

نعم إن القلب المليء بالحسد وحب الانتقام من الناس قلب مشغول دائمًا، أما القلب السليم الذي امتلأ بحب الناس وجمع القلوب، فهو لا يفكر إلا فيما ينفعه، كطلب علم أو عمل خير ونحوهما، أما أعراض الناس فهو منها بريء؛ لأنه يخاف الله، ويرجو اليوم الآخر.. عباد الله توبوا إلى الله واستغفروه.

الخطبة الأخرى..

الحمد لله أهل الثناء والحمد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن مما يتصف به أنقياء القلوب تميز مواقفهم مع من يغتابونهم، أو يتنقصونهم في وجوههم، فإن سواهم يغضب لذلك مباشرة، وربما يكون ردّه أسوأ مما قيل فيه؛ انتصارًا لنفسه، وتغليبًا لجانب الانتقام على التسامح، وربما كان ذلك بسبب غروره المتخفي بين أضلاعه، وهو يُظهر التواضع ويتصنعه.

هذا التابعي الجليل سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم زاحمه رجل في منى، فالتفت الرجل إلى سالم، فقال له: إنني لأظنك رجل سوء، فبماذا أجاب سالم رضي الله عنه؟ قال كلمتين.. قال: ((ما عرفني إلا أنت)) . سبحان الله.. لم يغضب، ولم ينكر عليه بهتانه له، ولم يغفر له فقط، بل زاد أن أزرى بنفسه وانتقص من حاله، وتواضع تواضع العملاقة الأبرار بأن قال له: ((ما عرفني إلا أنت)) مع سعة علمه، وكثرة عبادته، وجهاده في سبيل الله، وبكائه الشديد من خشية الله.. أما نحن فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. لو ركعنا ركعة، أو دمعت أعيننا لله دمعة، لرأينا أنفسنا من أزهد الزهاد، وأعبد العباد، ولاحتقرنا عباد الله الذين كانوا ربما خيرًا منا عند الله عز وجل، وكم أزرى رياء العابدين وعجبهم بعبادتهم حتى أحبطت! وكم رفع الخوف من الله منزلة العاصين عند الله حتى غفر لهم!

وأما إذا كثر التنقص من الصالحين، وتعمد الظلمة خيرتهم، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا إذا صدقوا في إيمانهم وتوكلهم على الله، { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران: 173 – 174].

وهذا الإمام البخاري رحمه الله الذي عانى كثيرًا من كلام الناس واتهاماتهم له في زمانه فصبر، وكان بعض من حوله يأتيه فيقول له: ((إن بعض الناس يقع فيك))، فماذا يقول، هل سأل عنهم من يكونون، وماذا يقولون، ومتى وأين وكيف.. لا بل تلا قول الله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]، وأردفه بقوله عز وجل: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].

وحين قال له عبد المجيد بن إبراهيم: كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويبهتونك؟! فقال البخاري: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اصبروا حتى تلقوني على الحوض)) إنه رحمه الله لا يفكر بمجرد الدعاء على من ظلمه وبهته، فضلاً عن أن يشغل نفسه أو يضيع وقته في التقصي والسؤال عما قالوه، فرضي الله عنهم ما كانت أوقاتهم لذاك، بل لرفع الدرجات علمًا وعملاً.

هذا والله هو الفقه، وهذه هي البصيرة والحكمة، فإذا سمعت أن الناس يغتابونك، أو يقعون فيك بسوء فأنت أعلم بنفسك، فإن قالوا ما هو فيك فاقبلها نصيحة تتعلم منها وتستقيم، وإن كانت بهتانًا وكذبًا فاصفح عنهم واغفر لهم، وسيحيق المكر السيئ بأهله، وإن استطعت فافعل ما فعله أحدهم حينما سمع أن فلانًا اغتابه، فأهداه رُطبًا، وقال له: قد علمت أنك أهديتني من حسناتك فأردت أن أكافئك.

ذكر الذهبي في السِّيَر أنه كان بين حسن بن حسن وبين علي بن الحسين زين العابدين بعض الأمر، فجاء حسن إلى عليّ وهو جالس بين أصحابه في المسجد، فما ترك شيئًا إلا قال له، يعني ما ترك سبًّا ولا شتمًا إلا قاله لزين العابدين وعليّ ساكت، فانصرف حسن، فلما كان من الليل أتى زين العابدين إلى منزل حسن فقال له: يا أخي إن كنت صادقًا فيما قلت لي فغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك، السلام عليكم.

هل انتهى الموقف.. لا بل انظر إلى الصبر وحسن الخلق، لقد انطلق الحسن في إثره يتبعه ويلزمه من الخلف، ويبكي بكاء شديدًا حتى رثى زين العابدين لحاله، فقال الحسن لزين العابدين: لا جرم لا عدتُ في أمر تكرهه، فقال زين العابدين وأنت في حل مما قلت فيّ.

إذا تشاجر في فؤادك مـرة                 أمران فاعمد للأعف الأجمل

وإذا هممت بأمر سوء فاتئد                 وإذا هممت بأمر خير فافعل

إنه الصبر أيها الأحبة، إنه هضم النفس حتى ولو كان الحق معها.

وهنا مسألة مهمة، وهي ما يقع فيه بعض الناس من تنقص بعضهم من عمل بعض، وهذا العمل المتنقص من الحلال، أو ربما كان مما ينفع الإسلام والمسلمين، ولكنه ليس مما يوافق مذهبه وهواه، وما يرى بأنه مما يرغبه، وكان ينبغي لهؤلاء ألا يبخس بعضهم عمل بعض، ولا يحقر بعضهم جهد بعض، فكل منهم على ثغر من ثغور الإسلام، والميدان واسع، وهو في أمس الحاجة إلى تنوع الجهود، وتكاملها منه إلى تكتلها في ميدان واحد، والكلمة الطيبة صدقة فلتسبق إلى ألسنتنا، ولنشكر كل من فعل معروفًا، ولنغفر لكل من تعثر لسانه بسوء، ولنقل ما قاله يوسف لإخوته: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].

ومن هذا ما ذكره ابن عبد البر أن عبد الله العمري كتب إلى مالك يحضه على الانفراد والعبادة كما فعل هو، فكتب إليه مالك رحمه الله: ((إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرُبّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير)) سير أعلام النبلاء.

وللأسف الشديد ربما يكون الكلام في الصالحين وفي قوم قدموا إلى ربهم، هذا رجل جاءه رجل فذكر له قولاً في إخوانه، فقال له ابن المبارك: ((عجبًا سلم منك اليهود والنصارى ولم يسلم منك إخوانك))، كلمات تُنقَش بماء الذهب على صفحات من نور.

حدث بما شئت من حلم ومن كرم           وانثر مآثرهم فالباب متسع

وقد نظرت في أمر هؤلاء المشتغلين بالحديث في الناس ذمًّا ومدحًا بغير حق، فوجدتهم من الفارغين من عمل الدنيا والدين، قد أنسوا بفضلات اللحوم البشرية على أنيابهم كالذئاب الجائعة، ونسوا حظهم مما ينفعهم في آخرتهم إلا ما شاء الله، ورأوا أنهم إن سكتوا عن ذلك فلن يجدوا ما يتحدثون به ويعرفون به، فالله المستعان.. عاشوا على دماء الناس كما تعيش الوحوش الضارية التي تموت إذا لم تصطد ما تنهشه.

فاللهم سلّم قلوبنا من الضغينة على إخواننا المسلمين، وارفع ذكرنا في ملأك الأعلى مع الصديقين.

ثم صلوا وسلموا على معلم الناس الخير ومربي البشرية على منهج الله القويم سيدنا ونبينا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله كما أمركم الله جل وعلا بذلك فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضال المسلمين، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً