الإباحية .. مخاطر وسموم

الإباحية .. مخاطر وسموم

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أكرم المؤمنين بضياء الإيمان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له أعز من أطاعه وأذل من أبى بالعصيان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الثقلان، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا..

أما بعد: فأوصيكم.. عباد الله ـ ونفسي المقصرة ـ بتقوى الله وطاعته، كما أمر بذلك الله جل في علاه فقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 70- 71].

أيها الأحبة في الله:

كشفت دراسة ميدانية حديثة أن ثمانية وثلاثين في المائة (38%) من المراهقين في الدول الخليجية ممن تتراوح أعمارهم بين أربعة عشر عامًا إلى أربعة وعشرين عامًا (14حتى 20) عامًا يشاهدون القنوات الإباحية، وأن 90 % من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من 3 إلى 7 سنوات يجلسون أمام التلفاز من 5 إلى 6 ساعات في اليوم، وأن سبعة وثمانين في المائة (87 %) من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من تسع إلى اثنتي عشرة سنة (9 إلى 12) سنة يشاهدون القنوات الفضائية العالمية، وثلاثة وستين في المائة (63 %) ممن تتراوح أعمارهم من الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة سنة (12 إلى 14) يشاهدون القنوات الفضائية بعد نوم آبائهم.

وقال المشرف على الدراسة: “إن الدراسة، حملت عنوان ” تأثير الفضائيات على سلوك الأطفال وانحراف المراهقين”، مشيرًا إلى أن الانفتاح الفضائي الكبير خلال السنوات العشر الماضية، أحدث تحولاً وانحدارًا أخلاقيًّا خطيرًا، وأن في العالم أكثر من ألفين وخمسمائة وعشرين قناة فضائية (2520)، حصة العالم العربي منها أربعمائة وخمس وثمانون 485 فضائية.

(الإباحية) إثارة الغرائز الجنسية، الفن الشيطاني القديم الحديث، الفاحشة كما سمى الله تعالى مآلاتها وعواقبها، وحذّر وشنّع على من يحملون راياتها الحُمر؛ فقال عزَّ من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].

إن دين الطهارة والوضوء يقف أمام قذارة الإباحية بكل صورها موقفًا حازمًا، ويحرمها تحريمًا مطلقًا؛ بل يحذّر حتى من مجرد الاقتراب، يقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151]؛ لأن من طبيعة الفواحش أنها توقع من يقترب منها في فخاخها، ولذلك حرم المولى عزّ وجل نظر المسلم إلى عورات الآخرين المحرمين شرعًا عليه، ولم يبح النظر إلى بين الزوجين، قال الله تعالى: {‏ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } [النور:30 – 31]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: ((‏لكل بني ‏آدم ‏حظ من الزنا فالعينان تزنيان‏ وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان يزنيان وزناهما المشي فيما حرم الله، والفم يزني وزناه قول الزور، والقلب ‏يهوى‏ ‏ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) رواه مسلم.

والطهارة والعفاف فطرة، والفاحشة والإباحية انتكاسة وحيوانية، ولذلك اجتمعت عليها الشرائع السماوية، فقد ورد تحريم الإباحية فيما نقل عن المسيح عليه الصلاة والسلام في مواضع كثيرة، منها: (إذا نظر رجل لامرأة ليشتهيها فقد زنا بها في قلبه)، وقال: (فإن كانت عينك اليمنى تعثّرك فاقلعها وألقها عنك؛ لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم).

أيها الإخوة الكرام.. لقد أصبحت الصور الإباحية في مرأى العيون.. على سلعة تشتريها، وفي مقطع مدمج في جوال أو حاسوب أو حتى في مجلة تتصفحها، أو في شاشة بريدك الخاص، أو حتى دليل آلة اقتنيتها في منزلك، فانتشرت بذلك فتنة النظر المحرم، والفتنة أشد حين تأنسها العين، ويرتاح معها الضمير، وتضعف بهما مراقبة الله تعالى.

منذ مائة عام تقريبًا تزايد هذا الشر بسب ازدياد الثورة الجنسية في الغرب وتحولها إلى تجارة، ومع اختراع الفيديو زادت هذه التجارة بصورة كبيرة، ومع اختراع الإنترنت ظهرت ملايين المواقع الإباحية، فكان الاختبار فرديًّا، بعد أن كان جماعيًّا، وترك ذلك أثرًا على الحياة كلها، فحين تستهلك الطاقة في بيئة حرام، فإن البيئة الحلال تضطرب اضطرابًا شديدًا، ففي دراسة بريطانية اكتشفت أن ثلث المجتمع الإنجليزي يزور المواقع الإباحية على الإنترنت، مما ينعكس سلبًا على العلاقة الجنسية الزوجية، وتؤدي إلى حدوث جرائم عنف واستخدام المخدرات، كما أكدت دراسة بريطانية أخرى ارتفاع معدلات الوفيات عند الرجال في سن (20 – 40) عامًا؛ نظرًا لإدمانهم على تلك المواقع.

تجار الإباحية المجرمون لم يفتأوا يغرون البشر بسلعتهم النكداء، ليصبوا في حساباتهم أكثر من ثلاثة بلايين ونصف سنويًّا، ما الفرق بينهم وبين تجار المخدرات؟

أكد باحثون وأطباء نفسيون أن الاعتياد على المشاهد الإباحية يؤدي إلى حالة من الإدمان أخطر من إدمان الكوكايين، وقد يؤدي إلى اضطرابات نفسية وجسدية كبيرة، وذلك في جلسة استماع في مجلس الشيوخ الأميركي للجنة العلوم والتكنولوجيا والفضاء.

وأكد الباحثون أن “مواقع الإباحية هي أخطر مهدّد للصحة النفسية نعرفه اليوم”، وعزت خطورة تلك المواقع إلى كونها متاحة عبر وسيلة توصيل تتميز بكفاءة عالية -وهي الإنترنت- كما أنها متاحة بصورة دائمة ومجانية. بل “إن المشاهد الإباحية، وما يتبعها من استثارة جنسية، تستحث الجسم لإفراز أشباه الأفيون الطبيعية، وبذلك يكون أثر مواقع الإنترنت التي تبث هذا المحتوى الإباحي أقوى من أثر مخدر الهيروين”. 

ومن ثم، بمقارنة هذا النوع بإدمان الكوكايين مثلاً، فإن الأول أخطر؛ لأنه لا قيود عليه، ولا يمكن التعرف على من يتعاطاه، كما أن أثره لا يمكن أن يمحى من أدمغة المصابين به؛ إذ تظل المشاهد الإباحية عالقة بمخيلة من شاهدوها، بينما يمكن أن تمحى بصورة نهائية تقريبًا آثار الكوكايين من جسم المدمن بعد مضي بعض الوقت، وهذه المقارنة لا تقلل من أثر المخدر، ولكنها تشير إلى الضرر البالغ للصور الإباحية.

وقانا الله وإياكم من كل بلاء وفتنة، توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله أهل الثناء والحمد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله:

يظن بعض الشباب الذين استجابوا دون وعي لهذه الدعوات الإباحية الرديئة أنهم يستطيعون التوقف عن مشاهدة المواد الخليعة بمجرد الزواج، وهذا الاعتقاد شيطاني النزعة، فالتجربة أثبتت أن مدمن المواد الإباحية ومعها العادة السيئة يستمر فيهما بعد الزواج إلا أن يتوب الله عليه، وماذا لو انتزعت روحه وهو يقلب نظره فيما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟!

يقول أحد من ابتلوا بهذه البلية (غفر الله له وتاب عليه): “وقد ظلت هذه العادة الكئيبة لدي إلى الآن؛ لدرجة أنها أثرت عليّ، ورجعت بعد الزواج أيضًا للنظر إلى المحرمات في كل الأماكن، حتى المواقع الإباحية في الإنترنت رجعت إليها، وحتى العادة السيئة التي كنت أقع فيها قبل الزواج رجعت إليها بعض المرات بعد الزواج!! نعم يا سادة، فإني أقولها بكل صدق: لا بد من غض البصر وتحصين الفرج بالاستعانة بالله تعالى، ثم بسيطرته هو بنفسه على نفسه”.

ولا تسل عن معاناة الزوجة عن معاناة الزوجة حين تكتشف أن زوجها يرى مواقع إباحية، إن الزوجة تتعامل مع إدمان زوجها لهذه الصور على أنه خيانة حقيقية لها وضربة قاصمة لمشاعرها، تقول إحدى الزوجات في رسالة: “إن ما سأكتبه لكم، ليس عن معاناتي من هذا المرض، ولكن من الحرقة التي أشعر بها في داخلي بعد أن رأيت زوجي ينظر إلى صور منها. لقد انتهى كل شيء جميل في حياتي، وإن كنت لا أُظهر ذلك أمامه، لكني أصبحت إنسانة محطمة، بل أصبحت أربط كل تصرفاته وأفسرها برؤية هذه الصور، لا أعرف إن كان فهم ذلك، ولكن الذي أعرفه أني أصبحت إنسانة بائسة، تعيسة… لم أتوقع أن يأتي اليوم الذي يرى زوجي فيه امرأة غيري في وضع لا يحل له أن يراه إلا مني. وهذا ما يحرقني حرقًا. أرجو من كل من يقرأ كلماتي هذه أن يدعو لي بانشراح الصدر وزوال الغم، لأني خائفة على نفسي من الانهيار. إني حزينة حزينة حزينة”.

أما عن أثرها على الطلاق فقد قال أكثر من ثلثي المحامين في أحد المؤتمرات (وعددهم 350) أن الإنترنت وبالضبط المواد الجنسية الإباحية كانت من أهم أسباب الطلاق، والأمر يبدو واضحًا إذا علمنا أن مدمن الخيال والأحلام ومهما امتلكت زوجته من مقومات الجمال فسيملها، ولن تبلغ في درجة إقناعه ما وصلت إليه أولئك النساء المتجددات اللاتي يراهن في الأفلام ويعششن في دماغه وأحلامه. فما يكون منه إلا أن يبحث عن مصدر آخر للاستمتاع ظنًّا منه أن المشكل يكمن في زوجته فيتزوج عليها أو إن كان ضعيف الدين يبحث عن خليلة تطفئ ظمأه، ولا يدري المسكين أنه إن عاشر نساء الدنيا كلها فلن يصل إلى الإشباع الذي يبحث عنه.

لا ربما يقرأ هذا الكلام شخص ممن ابتلوا بهذه الآفة فيجدها فرصة للاستسلام ولسان حله يقول: لا فائدة فأنا مدمن… فيكون كمن التفت حول رقبته أفعى ضخمة وبدلاً من أن يجاهد ليزيلها يقول لا فائدة ويتركها تخنقه شيئًا فشيئًا، وقد كان في مقدوره رميها بعيدًا عنه. فالمفروض أن نتذكر الإدمان لهذه المواقع هو نوع من إلف المعصية، وقد تحدث عنه علماء الإسلام في كتبهم وبينوا السبل للتخلص من مثل هذه الآفات. فلا عذر لمتخاذل أو مستسلم لمعصية وإن ألفتها نفسه. فالبدار البدار إلى التوبة النصوح وليحذر الذين لم يبتلوا أن يستدرجهم الشيطان.

ولكن ما من ذنب إلا وللمسلم منه مخرج إذا نزع عنه، وتركه لله، وعزم على عدم الرجوع إليه، يقول الله تعالى: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 68- 71]. إن كل فرد في الأمة مسئول عن جزء من المحنة الأخلاقية التي تمر بها، وإذا لم يقم كل منا بمسؤوليته، فلن نأمن أن نُؤتَى من ثغره.

أسأل الله تعالى أن يحمينا جميعًا من مضلات الهوى، وأن ينقذنا من شراك الشيطان وحزبه إنه سميع الدعاء.

ثم صلوا ـ يا محبي المصطفى ـ وسلموا على معلم الناس الخير سيدنا ونبينا محمد كما أمركم الله جل وعلا بذلك فقال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب: 56]، اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً