الإجازة والترفيه

الإجازة والترفيه

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم -عبادَ الله- ونفسي بجماع الخير وملاكِ البرّ، وصيّةِ الله للأوّلين والآخرين وخير ذخرٍ للمؤمنين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ} [النساء: 131]. ومَن كان من أهل التّقى نال الجنانَ العُلا وفاز وارتقى.

أيّها المسلمون، في زَحمة التطلُّعات المتطاولةِ، وعلى حين فُسحةٍ مِن الوقت، وانعِطافِ من الرّوح إلى جِبِلَّة التبسُّط المشروع، تسعى النّفوس المتعبة من نمطيّة الأعمال اليوميّة ورتابَة المسئوليّات الوظيفيّة إلى البَحث عن مواطن الإخلاد إلى الهَدأة والسّكون، وارتيادِ مجالَي الترفيه والادِّكار، ولئِن كانت الإجازة القادمة طويلة الشهور والأيام، فجديرٌ أيّما جدارةٍ بالمسلم الحريص على دينِه، الشَّحيح بعمره وهو يقابل برامجَ الحياة بين الفراغ والانشغال أن تستوقفَه هذه الدرَّةُ النفيسة من دُرَر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: ألا وهي قوله: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النّاس: الصّحّة والفراغ)) أخرجه البخاريّ مِن حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما.

ولا شيءَ أنفسُ من الأعمار، ومَن أضاع وقتَه وتركه نهبَ العوادي كان كمَن بدّد عمرَه، فأفنى دنياه وخسِر آخرتَه، فلا أملاً حقَّق ولا حياةً حفِظ، وندِم حيث لاتَ ساعةَ مندَم، وتمنّى ساعةَ احتضاره -وربّما كانت في إقبال عُمُره لا إدباره- أن يُؤخَّر حتّى يصلِح ما فسد، ويرتُقَ ما فتق، وأنّى له ذلك؟! {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ}[المؤمنون: 99، 100].

ويُعْظِمُ هذا الجللَ مَن يجمع إلى ذلك السطوَ على أوقاتِ الآخرين بالتُّرَّهات والسفاسف.

إخوةَ الإيمان، وممَّا يعين المسلمَ على صيانة وقتِه من الضياع: رسمُ خطّة عمليّةٍ تستغرق كلَّ أوقاتِه، مراعيًا الضرورات والحاجات والتحسينات، قاصدًا إلى مداراتِ الكمال، داحرًا نزغات الشّيطان أن تثبّطَه أو تستجرَّه لتبديد حياته فيما لا ينفع، ومِن بدائع الإمام الشافعيّ التربويّة الحِكَميَّة قولُه رحمه الله: “إذا لم تشغل نفسَك بالحقّ شغلتك بالباطل”. و”مَن أمضى يومَه في غير حقّ قضّاه، أو فرضٍ أدّاه، أو مَجد أثَّله، أو حمدٍ حصَّله، أو خير أسَّسه، أو علمٍ اقتبسَه؛ فقد عقَّ يومَه، وظلم نفسَه”.

وعلينا نحن أولياءَ الأمور ألا نتساهلَ بهذه الإجازة، فنتهاون في شأن أبنائنا وبناتنا، بل هم الأوْلى بالاهتمام والرعاية والتحصين من كل فكر دخيل باسم الدين يجنّد طاقاتهم في التخريب، ومن كل شهوة بلهاء تسخر طاقاتهم في الباطل والانحراف.

ويجب علينا صيانتُهم من صُوَر التحلّل الأخلاقيّ كالدّعة والتّرف والمُيُوعة والارتماء على قارعةِ الأرصِفة والطّرقات، وذرع المقاهي والشّوارع والتسكُّع في الأسواقِ، وترك الحبل لهم على الغارب في مشاهدةِ سموم وعَفَن الفضائيّات، وتصفح فضائح وقبائِح شبكاتِ المعلومات دون حسيبٍ ولا رقيب، سواءٌ الفتيان والفتيات، ممّا يجبُ تحصينُ الشّباب منه.

وغيابُ الرّقابة الأسريّة عن هذا السّلوك المشين خطأٌ كبير، بل وقتّال ربَما، والله عزّ وجلّ يقول: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}[التحريم:6]، والمصطفى عليه الصلاة والسّلام يقول: ((كلّكم راعٍ، وكلّكم مسئول عن رعيّته)) أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

أيها الأحبة: وبعد تشخيصِ الدّاء فإنّ وصفةَ الدواء والعلاج للجنوح الشبابيّ الفكريّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ هي مسئولية كل مؤسّسات المجتمع العلميّة والإعلاميّة؛ كلٌّ جَهدَ طوقِه وإخلاصِه، والعِبء في ذلك يقع على عاتق العلماء والدّعاة ورجال التّربية والإعلام وحَمَلةِ الفكر والأقلام، انتشالاً للجيل من حَومَة التفسّخ والضّياع، وأخذًا بحُجَزهم عن الهُويِّ في سراديب الأفكار النّشاز، وإحباطًا لخُطَط الخصوم الذين يتّخذون الأحداثَ غَرضًا وهدفًا لتحقيق مآربهم المشبوهة.

ولكن المسؤولية على الأسرة أكبر وأعظم وألصق، بالتّوجيه الرفيق والتّرشيد اللطيف الرّقيق وتلاحُم أفرادِ الأسرة، مع أبنائهم وفتح قنواتِ الحوار الهادئ الهادِف، بل والسعي في تهيئة الفُرَص الوظيفيّة لهم حمايةً لهم مِن الفراغ والبطالة وتعاونِ الجهات المسئولة مع ذوي اليَسار ورجال الأعمال واضطلاع وسائلِ الإعلام والقنوات الفضائيّة والشبكات المعلوماتيّة بدورها التربويّ في ذلك كلِّه يتحقَّق للمجتمع ما يصبو إليه من أمن واستقرارٍ ونماء وازدهار.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الأنفال: 27] 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان للأوّابين غفورًا

الخطبة الثانية:

الحمد لله، عالمِ السرِّ والخفيّات، وفَّق من شاء إلى اغتنام الأوقاتِ في الباقيات الصّالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نتضوّع بها عبيرَ الجنان الخالدات، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خير الهداة والدّعاة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمّة الثقات، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، وليكن منكم على بالٍ أنّ سقطاتِ الشباب وعثراتِه لا تُحمَل قطعًا على العموم والشّمول، ولا تدعو إلى فَقد الثّقة والإحباط، بل يتعيّن هنا أن نذكرَ بكثير مِن الغبطة والابتهاج أنَّ الشباب المستقيمَ المستمسكَ بعُرى دينه، السّائرَ على صراط الهدى والاعتدال، هم كثير بحمد الله وفضلِه، ممَّا يؤكّد عدمَ الخلط بين مفاهيم الغلوّ المذموم والحرص المشروع على الالتزام بالسّنّة باطنًا وظاهرًا. وبهذا يُسَدّ الطريق أمام المرجفين والمخذِّلين ومَن يحاولون جرَّ الأحداث إلى خِدمة مآربَ مشبوهة، وقيعةً في الصالحين وسخريّة من المتديِّنين ونيلاً من مناهجنا الشرعيّة ومؤسّساتنا الاحتسابيّة، أو المساس بثوابت الأمّة وقيَم المجتمع. ولكُم في شباب هذه الدّيار المباركة، والتفافِهم حول علمائهم وقادتهم خيرُ برهان في خير ورغدٍ وعلوّ هامَة، منّةً من الله وفضلاً.

أيّها المسلمون والأولياء، وجِّهوا الشبابَ إلى ميادين المجد والرّفعة، واعلموا جميعًا أنَّ الأصل في حياة المسلم الجدّ والحزم، ولا بأسَ بالترفيه المشروع والترويح المُباح في حدود الضّوابط الشرعيّة، ليعلمَ النّاس أنّ في ديننا فسحةً بحمد الله تعالى.

وممَّا يحسُن الإيصاءُ به: تحذيرُ الأبناء من السّفر خارجَ هذه الجزيرة الفيحاء وديار الإسلام الشمَّاء التي حباها الباري جلّ في علاه بكلّ ما ترنو إليه النفوس من جمالِ الطبيعة الفتّان، بل ومن منتجعات الروح التي لا توجد في أي مكان، بل هي مقصورة على بلاد الحرمين ومهد الوحيين. إلا ما دعت إليه الحاجة أو الضرورة، أو تحصيل علم ومنفعة ظاهرة.

كذلك حثُّهم على تحصيل العلوم والمعارفِ والالتحاق بالدّروس العلميّة والدورات الشرعيّة، والمراكز الصيفية؛ التي يقوم عليها نخبةٌ وكوكبة من أهل الخير والصلاح، والاشتغالِ بحفظ كتابِ الله والسّنّة النبويّة العطرة، وثنيِهم إلى الانكباب على المطالعة الحرّة في كتُب السّيَر والتاريخ والآداب وغيرها، ونِعمَ الجليس والأنيسُ الكتاب، قيدُ الحِكَم وينبُوع المكارم، مع تشجيع ملكاتِهم وتنمية قدراتِهم وشغلِ طموحاتهم والسّعي في كلِّ ما مِن شأنه شغل أوقاتهم وإذكاء مواهبهم وطاقاتهم التي تعودُ عليهم وعلى مجتمعِهم بالنّفع والفائدة.

هذا، واعلموا -رحمكم الله- أنّ أغضَّ الكلام على التّكرار لفظًا وأنفعَه وعظًا كلامُ مَن أنزل القرآن وتولاّه من التحريف حِفظًا، القائل في محكَم قيله وأصدق تنزيله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

اللهمَّ صلّ وسلِّم وبارك على سيِّد الأوّلين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحابته الغرِّ الميامين وأزواجِه الطاهرات أمّهات المؤمنين، والتّابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضال المسلمين، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً