الإمامة العظمى

الإمامة العظمى

الخطبة الأولى:

الحمد لله مسبغ النعم، وقامع الفتن، المعطي والمانع، يؤتي ملكه من يشاء، وينزع ملكه ممن يشاء، بيده الخير، إنه على كل شيء قدير. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد، فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه؛ فهي العُدّة في الأمور، والزاد إذا بُعْثِر ما في القبور، وحُصِّلَ ما في الصدور، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.

عباد الله: إن الشريعة الإسلامية الغَرَّاء هي الشريعة الخاتِمة التي أكمل الله بها الدين وأتمّ بها النعمة، وجعلها صالحة للخلافة في الأرض في كل زمان ومكان، لا تَبْلَى نصوصُها، ولا تهتزّ قواعدُها، ولأجل ذا صارت هي الأُسّ في حفظ الضرورات الخمس في الحياة البشرية، وهي الدين والنفس والعِرض والعقل والمال، شريعة ربانية تسعى لتحصيل المصالح وجلبها لتلك الضرورات، كما أنها في الوقت نفسه تقوم بالدفع قبل الرفع لأي مفسدة تخلّ بضرورة من الضرورات، بَلْهَ الضرورات الخمس برُمَّتها.

ولما كانت أمور الناس ومصالحهم تدور رَحَاها حول تلك الضرورات الخمس، وتحصيل مصالحها، ودَرْء مفاسدها، وحراسة ذلك وسياسته؛ كان لزامًا أن يكون للمجتمع المسلم رأس يجتمعون عليه، ويضعون كفوفهم على كفّه؛ ليقيم الحق فيهم، ويزهق الباطل، ويسُوسَهم على مِلّة الإسلام، يجتمعون بالبيعة الشرعية على إمامته وولايته أمرهم، وهذا ما يُسمَّى في الشريعة بالإمامة العُظْمَى، التي أجمع العلماء قاطِبة على أنها واجبة، خلافًا لبعض الخوارج والمعتزلة.

والمصلحة في تَنْصِيب الإمام ظاهرة جَلَيّة، لا تحتاج إلى كبير تأمّل وبحث؛ لأنه لا يمكن أن يستقيم أمر الناس، ويصلح حالهم، ويُحْفَظ الخير لهم، ويدرأ الشر عنهم إلا بها، بل إنها مطلب شرعي ديني قبل أن تكون مطلبًا سياسيًّا دنيويًّا؛ لأن قيامها وقيام الطاعة لها من طاعة الله ورسوله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جُنَّة يُقاتَل مِن ورائه، ويُتَّقَى به، فإن أمر بتقوى الله وعَدَل فإن له بذلك أجرًا، وإن قال بغيره فإنّ عليه مِنْهُ)) رواه مسلم.

إن لم يكن مثل هذا الأمر – عباد الله – فليس للناس إلا الفوضى، وغَلَبة الأهواء، وتقاذف الفتن من كل جانب، والتعدّي على الدين والأنفس والعقول والأعراض والأموال، ولقد صدق القائل الأول:

لا يَصْلُحُ الناسُ فوضى لا سَرَاةَ لهم   ولا سَرَاةَ إذا جُهّالُهم سادُوا

ولذا فإنّ الأمم مع تعاقب الأزمان لا تَدَعُ واقعها سَبَهْلَلاً دونما سلطان يرأسها، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن بني إسرائيل كانت تَسُوسُهم الأنبياء، كلّما هلك نبي خَلَفَه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وإنه سيكون خلفاء فيكثرون))، قال: فما تأمرنا؟ قال: ((فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم الذي جعله الله عزّ وجلّ لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم)) أخرجاه في الصحيحين.

ومن هنا يتّضح لنا – عباد الله – حاجة الناس إلى سلطان يسُوسُهم بشرعة الله ومنهاجه؛ حمايةً لهم من الفتن والأهواء أن تعتريهم، ولقد صدق الإمام أحمد بن حنبل حين قال: “الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس”.

ونظرًا لما تموج به أمة الإسلام اليوم من أحداث، أردت في هذه الخطبة التي استفدتها من خطب الحرمين الشريفين، أن أبيّن خصوصية مثل هذه البلاد، التي تقوم فيها الإمامة العظمى على بيعة شرعية، في عنق كل رعيتها، يجب أن ترعى وتحفظ.

أيها الناس، لقد أكرم الله أمة الإسلام من بين سائر الأمم بأن جعلها وسطًا بينهم عَدْلاً خِيارًا، كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143]، وإن من وسطية هذه الأمة وعدلها نظرتها للإمامة والولاية؛ حيث تراها عهدًا واجبًا بين السلطان وعموم المسلمين، وهذا العهد يقتضي السمع والطاعة في المَنْشَط والمَكْرَه والعُسْر واليُسْر ما لم يكن في معصية أو منكر. لتكون الأمة وسطًا بين سائر الفرق في الإمامة والولاية، خلافًا لمن ذهب إلى تكفير الأئمة، والخروج عليهم، وعدم السمع والطاعة بالمعروف لهم، وخلافًا لمن يرى المغالاة فيهم، ويجعلهم معصومين من الخطأ والنقيصة، والحق كل الحق، والعدل كل العدل، ما كان عليه أئمة الهدى والدين من السلف الصالح والتابعين الذين قالوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير. ديدنهم في ذلك سُنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في السمع والطاعة والألفة والاجتماع، لا في المعصية والعناد والفرقة والابتداع، لعلمهم الجازم بأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن “من خرج من السلطان شِبْرًا مات مِيتة جاهلية”، كما في الصحيحين وغيرهما.

كما بيّن أهل العلم أن على الرعيّة مَحْضُ النصح للسلطان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن لا تعبدوا إلا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم)) رواه أحمد.

ولم يكتفِ أئمة العلم والهدى بمطلق النصح لولي الأمر، بل قيّدوا ذلك في السّر دون العلانية؛ درءًا للفتنة وخروجًا من التشهير والتعيير، لما رواه ابن أبي عاصم في كتاب السُّنّة مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أراد أن ينصح لذي سلطان في أمر فلا يُبْدِهِ علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قَبِل منه فذاك، وإلا كان قد أدّى الذي عليه له)). وقد أغلق الحافظ ابن حجر – رحمه الله – باب الإنكار على الأئمة علانيةً؛ خشيةَ أن تفترق الكلمة، ثم عرَّفهم أنه لا يُداهِن أحدًا، ولو كان أميرًا، بل ينصح له في السّر جهده” انتهى كلامه رحمه الله.

وقد نقل ابن عبد البر عن أيوب ابن القَرْيَة قال: “أحق الناس بالإجلال ثلاثة: العلماء، والإخوان، والسلطان، فمن استخفَّ بالعلماء أفسد مروءته، ومن استخفّ بالسلطان أفسد دنياه، والعاقل لا يستخفّ بأحد”.

ثم اعلموا – رحمكم الله – أن البيعة الشرعية فيها حقّان: أحدهما حق للإمام كما ذكرناه آنِفًا، وأما الآخر فهو حق للرعية بإقامة شرع الله فيهم، ونشر الحق والعدل بينهم، والسعي في مصالحهم العامة والخاصة، وتدوين الدواوين ومراعاة المصالح المرسلة التي تعتري الناس بين الحين والآخر، ومنع الظلم والبغي والفساد، وما يسبّب الفرقة بين المسلمين.

وحاصل الأمر -عباد الله – أنّ استقامة الناس، واستقرار المجتمع، وحفظ الضرورات لا يكون إلا بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر منا؛ لقوله تعالى: صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره: “أن أولي الأمر هم أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس”.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، قد قلت ما قلت إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.

الخطبة الثانية: 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ثَمَّةَ حقًّا يجب على الرعية تجاه سلطانهم وولي أمرهم المبايَع بالبيعة الشرعية، متمثّلاً ذلكم الحق في محض الدعاء له بالتوفيق والسداد والصلاح للمسلمين؛ لأن في صلاحه صلاحًا للإسلام والمسلمين. وإنه ليخطئ من ظنَّ أن الدعاء للسلطان مُجرّد تَزَلُّفٍ يَشِين بصاحبه، كلا بل هو ديانة واعتقاد بأهمية ذلكم وأثره في صلاح المسلمين.

وقد أشار جملة من أئمة الدين إلى هذه المسألة من باب الديانة، وتصحيح الفهم تجاه هذه المسألة، فقد ذكر الطحاوي – رحمه الله – في متن الاعتقاد عن الأئمة والولاة قوله: “وندعو لهم بالصلاح والمعافاة”. وقد أخرج الخلاّل في كتاب السنة بسند صحيح عن الفُضَيل بن عياض أنه قال: “وددت أن الله عزّ وجلّ زاد في عمر هارون الرشيد”، وقد وجّه الإمام أحمد مقولة الفُضَيل هنا بأنها لِما يُخاف من الشر الذين يكون بوفاة الإمام، فإذا ما جاء إمام آخر هَدَأَ الأمرُ وسَكَن.

وقد تحدّث الإمام أحمد – رحمه الله – عن الخليفة المتوكّل قائلاً: “إني لأدعو الله له بالصلاح والعافية”، وقال: “لأنْ حَدَثَ به حَدَثٌ لتنتظرنّ ما يحل بالإسلام”. وقد دعا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لسلطان زمانه بالتأييد والتسديد والزيادة في العلم. وكلام أهل العلم في هذا الباب متواطئ على القول باستحباب الدعاء لولاة الأمور بالتوفيق والصلاح والمعافاة دون مجازَفة، ومن أشهر من قال بذلك الطحاوي والفُضَيل وأحمد والبيهقي والبَرْبَهَاري وابن قدامة والنووي وابن تيمية والحافظ العراقي والحافظ ابن حجر، وخلق كثير من العلماء وأئمة الدين.

وإنما نقول مثل هذا – عباد الله – لنؤكّد موقف أئمة الدين من أهل السنة والجماعة تجاه هذه المسألة، ولنصحّح بعض المفاهيم المشَوّشَة في هذا الجانب من باب الديانة والالتزام بالحق ليس إلا، لاسيما في هذا الزمن الذي غاب فيه الوعي الديني فيما يخص حقوق الراعي والرعية، والذي قَلَّ فيه الألفة والتناصر.

وجامع الأمر في هذا – عباد الله – هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)) الحديث رواه مسلم. والصلاة في هذا الحديث بمعنى الدعاء على أحد التفسيرين.

نسأل المولى جل شأنه أن يحفظ إمامنا وولي أمرنا، ويوفّقه لما فيه صلاح المسلمين، وأن يجعله وولي عهده وإخوانه ومن ولي أمرنا وأمور المسلمين ذُخْرًا لما فيه خير البلاد والعباد، إنه سميع مجيب.

اللهم أرد بنا وبإخواننا المسلمين خيرًا ، اللهم احقن دماءهم، وردهم إلى دينك ردًّا جميلاً، اللهم أرهم الحق حقًّا وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه.

اللهم إنا نعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا خاصة، وبلاد المسلمين عامة، إنك سميع الدعاء، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، وارحم ضعفاءهم، وأصلح ولاة أمور المسلمين في كل مكان، ووفقهم لتحكيم شرعك، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وانصر صالحيهم، وأقم العدل على أيديهم.

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد بن عبد الله وآله الأطهار ، وارض اللهم عن صحابته الأبرار ، ومن اتبع سنته إلى يوم الدين يا عزيز يا غفار .



اترك تعليقاً