الإنسان: خُلُق وعمل

الإنسان: خُلُق وعمل

الخطبة الأولى:

الحمد لله المتفضل بالنعم، كاشف الضراء والنقم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ بتقوى الله وطاعته، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة: 119].

عباد الله .. إن هذا الدين الذي أكرمنا الله عز وجل به، هو منهاج للعلم والعمل، والفكر والتفكير، والتدبير والتيسير،… فهو منهاج لتدبير شئون الحياة الفردية والأسرية والعامة. وليس المراد منه أن يكون مجموعة أفكار توضَع في خِزانة العقل لننفق منها في ظروف أو أوقات معينة، وإنما هو توجيهاتٌ ربانيَّةٌ، ورحمة متنـزلة من الله عز وجل في كتابه؛ لتحُلَّ فينا قلبًا وقالبًا، في الفكر وفي العقل وفي القلب، لتتحول إلى سلوك أو إلى لباس كما في قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]. إذن، الدين في طبيعته تطبيقي وليس نظريًّا أو شيئًا فكريًّا فقط، بل هو أعمال أو أفكار تظهر في سلوك وعمل، ولذلك كان أكمل المؤمنين إيمانًا، أحسنهم خلقًا، وهذا يعني أن الذي لَبِس الدين، لابَسه الدين وخالطه فصار لباسًا له فأصبح أحسنَ الناس، بل أكمل المؤمنين على الإطلاق.

من أكمل المؤمنين فعلاً من صارت توجيهاتُ الدين -بصفة عامة- وتعاليمُه والرحماتُ النازلةُ من عند الله عز وجل ممثَّلةً فيه بنسبة عالية.

أما الذي تمثَّل فيه الدين بالكامل، فقد كان واحدًا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شهد له الله عز وجل بذلك فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].

وشهادة أمنا عائشة رضي الله عنها كانت من هذا القبيل حينما سُئلت عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قالت: “كان خلُقه القرآن” (رواه مسلم). وعندما يموت هذا الإنسان لا يساوي إلا مجموعة أعمال “صالحة” أو “طالحة”.

إن الثمرة الحقيقة للدين هي العمل، العمل المحسوس في مجالات متعددة… وقد تجلت هذه الحقيقة مع سيدنا نوح عليه السلام عندما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}(هود:45)؛ إذ نجد أن الله سبحانه وتعالى وعَد سيدَنا نوحًا بأن ينجّي أهله في الوقت الذي رأى ابنه قد غرق، فيتساءل: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} وأنت وعدتني بنجاة أهلي {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}، وما دمتَ قد وعدتَ فأنت لن تُخلف قطعًا، ولكن تفويض الأمر لله تعالى أدب النبوة مع الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}؛ حكمتك عالية وما فعلته قطعًا هو على مقتضى الحكمة، ولكن أريد أن يطمئن قلبي؟! فأجابه سبحانه وتعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}(هود:46)، وبتعبير آخر: أنت يا نوح عمل صالح، وأهلك هم الأعمال الصالحة وأصحابها هم أهلك، أي إذا وُجد مِن نسلك مَن ليس له عملٌ صالح فهو ليس من أهلك؛ لأن العمل الطالح ليس من جنس العمل الصالح. إذن، الإنسان مجموعة أعمال.

ومن أمثلة ذلك حوار نبي من أنبياء الله سبحانه وتعالى مع قومه وهو سيدنا لوط عليه السلام: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} (الشعراء:167)، فهم ينظرون إلى الفعل، وهو يجيبهم بالعمل: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} (الشعراء:168)، ولم يقل: “إني لكم من القالين”، بل أبرز العملَ الذي هو الأساس في الشخصية، وعليه المدار في الحياة والثواب والعقاب، بحيث لو افترضنا أنهم غَيَّروا عملهم لتحوّل البُغْض إلى محبة ولَما قال لهم: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ}.

الدين سلوك لا دعوى: إن الإنسان في نظرة الدين عبارة عن مجموعة من أعمال، وعندما يُوضع الإنسان في القبر، يرجع اثنان ويبقى واحد؛ يرجع مالُه وأهلُه ويبقى عمله، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}(الزلزلة:7). وإن صغر هذا العمل، بل نية كان أو تفكيرًا أو همًّا بالشيء… فكل ذلك له عند الله أجر.

أيها الإخوة في الله.. ومع ذلك فإن استقامة المنهج التفكيري الذي به نتلقى الأشياء ونعالجها ونُنْتج الأعمال في لحظة التفكير فيها والتخطيط لها، تؤدي إلى استقامة الفعل وطيب النتائج، وأهميته تأتي من كونه بداية الانطلاق، ثم عندما نريد إخراج ما فكّرنا فيه ينبغي أن يَخرُج بطريقة مرضية عند الله تعالى.

ومن ضوابطها الكبرى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلْ خيرًا أو ليصمت” (رواه البخاري). والصواب في هذا الصدد يحتاج إلى شرطين:

الأول: ينبغي أن نفكر في القول قبل تصديره باللسان إلى غيرنا، ونزنه بالشريعة: هل هو جائز قوله أو واجب أو مستحب أو على الأقل مأذون في قوله. نفكر فيه من هذه الجهة، ونفكر فيه من جهة الصواب ومطابقته للواقع والمناسبة، ونفكر فيه من جهة الباعث عليه، أي إن النية التي تقف وراءه تحتاج إلى التصحيح.

الثاني: ينبغي أن يكون صوابًا، وكلمة “صواب” تعني المطابقة لأمرين: المطابقة للنصوص الشرعية من ناحية، بحيث لا تصادم الشرع، ومن ناحية أخرى المطابقة لمقتضى المقام؛ إذ لا تتم صوابية الأمر إلا بالإصابة في الناحيتين. فقد يكون الاجتهاد سائرًا حسب مقاييس الشريعة، ولكن صاحبه وصل إلى ما ليس صوابًا، لأنه لم يناسب ما ينبغي ولم يطابق ما ينبغي، فليس كل كلمة مشروعة يمكن قولها في أي وقت، وإن كان الكلام حقًّا، وهذا أمر صريح في الشريعة. فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو رسول الله، ويتلقى عن الله، ولا أحد منّا يمكن حتى أن يقاربه، مع ذلك حين قال للسيدة عائشة رضي الله عنها: “لولا أن قومك حديثو عهدٍ بالإسلام، لبنيت الكعبة على قواعد إسماعيل” رواه مسلم. فدرءًا لهذه الفتنة أوقف صلى الله عليه وسلم هذا الحق والخير العظيم. إذن -وهذا ما يسمى بـ”الحكمة”- مطابقة السلوك والتصرف لمقتضى الحال هو ما نشرح به الصواب.

وكلمة عبادة بن الصامت رضي الله عنه تَصبُّ في هذا المعنى، فقد قال: “منذ بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلمتُ كلمة، إلا مزمومة مخطومة”. ويعني أنه كان قبل ذلك يتكلم كما يتكلم الناس، لكن مع مجيء الإيمان أصبح الكلام عملاً، وعليه ثوابٌ أو عقاب، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: “ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم” (رواه أحمد).

اللهم صن ألسنتنا عن كل ما لا يُرضيك عنا، واجعل عملنا في رضاك.

توبوا إلى الله واستغفروه، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله عدد كل شيء، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا بأنه لا وجود للكلمة الحرة مطلقًا؛ التي يمكن أن تخرج وحدها بدون ضابط وتفكير… فإذا كان العقل يسبق اللسان فلا خوف، وأما إذا كان اللسان يسبق العقل فهناك الخوف. ولذلك فالتسرُّع ليس من خصائص أتباع هذا الدين جملةً، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشجِ عبد القيس: “إن فيك خصلتين يحبهما الله عز وجل؛ الحِلْم والأناة” (رواه مسلم).

وإن نقطة “التمهل” راعتها الشريعة في مناسبات مختلفة؛ راعتها مثلاً في المشْي: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا}(الفرقان:63)، {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}(الفرقان:64)، راعتها في تسيير الأمور: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}(الإسراء:106)، أي وقسَّطناه تقسيطًا، كما يراعى هذا التمهل والتدرج في جميع الأمور. نعم، تأتي ظروف استثنائية تقتضي السرعة في التصرف، ولكن تلك الظروف استثنائية.

إن الدين خلُقٌ، وهكذا ينبغي أن نفهمه، كما أن هذه الفقرة من الحديث النبوي الشريف تبيّن ذلك بوضوح: “كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها” (رواه مسلم)، “القرآن حُجَّةٌ لك أو عليك” (رواه مسلم).

إذا تحوّل العلم إلى عمل صار حجةً للشخص، وإن لم يتحول إلى عمل صار حجةً عليه، ونرى الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: “اللهم انفعني بما علّمتني وعلّمني ما ينفعُني وزدني علمًا” رواه الترمذي.

إن العلم حقيقة يقتضي اليقين، وإنه لا ينفصل عن السلوك، وإذا لم يوجد سلوك وفق هذا العلم انتفى العلم. فإذا وصلت المعلومة إلى الذهن واستقرت في القلب، أنتجت درجة اليقين الذي ينتج الطاعة المطلقة: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}(الزمر:9). إذن الذي هو قائمٌ آناء الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، هو العالم حقًّا، وليس الذي يعرف كذا وكذا من الآيات والأحاديث، ويقرأ عددًا من الكتب.

المهم هو عملية التحويل من الجانب النظري إلى الجانب السلوكي. فأُثِرَ عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لم يكن يأخذ كثيرًا من الكلام من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يأخذ طرفًا قليلاً، ثم يذهب ليحوّله إلى عمل، ويأتي ليأخذ طرَفًا آخر.

وقد أُثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قضى ثماني سنوات وهو يتعلم سورة البقرة، أي يردها إلى واقع، ويجاهد نفسه في ذات الله سبحانه وتعالى لكي يحوّلها إلى واقع خاضع للتوجيهات الإلهية في القرآن العظيم.

العَمل بالعلم هو الطريق لنشر الإسلام، ولا قيمة لما يُعلم ما لم يحوَّل إلى عمل، وإن المسلم إذا أحسن العمل بما يعلم فقد مهَّد السبيل لنشر دين الله عز وجل، ومهّد السبيل كل التمهيد لجعل الناس يُقبِلون على الله وعلى دين الله سبحانه وتعالى وعلى كلمة الله سبحانه وتعالى.

وإذا أساء التطبيق فساء الخُلق، ومن ثَم أبعدَ الناسَ عن طريق الله سبحانه وتعالى؛ لأنه في هذه الحالة يكون قد مثّل ضربًا من اللبس والإشكال. فلذلك كانت أهمية الخُلق، الذي ألحَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزله تلك المنـزلة الرفيعة، فقال: “إن الرجل ليبلغ بحسن خُلقه درجة الصائم القائم” رواه أحمد.

إن الإحسان بصفة عامة هو رأس الإيمان، وأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلقًا، يحاول أن يجاهد نفسه في ذات الله تعالى لتزكو وتستقيم على أمر الله سبحانه وتعالى؛ تفكيرًا وتعبيرًا وتدبيرًا… ويحاول كفّ أذاه عن الخلق بصفة عامة، وهو يكفّ أذاه بجميع أشكاله عن الناس، ويصبر على أذى الآخرين، ثم ينتج الخير ما استطاع إليه سبيلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(الحج:77).

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارحم المستضعفين والمحتاجين من المسلمين، اللهم اهد أولياء أمورنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، اللهم أصلح لهم البطانة والمشورة، وجنّبهم ما تكره وتأبى. اللهم اجعلهم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.. يا ذا الجلال والإكرام.

ربنا اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا، وتقبل منا عملنا في رمضان، واجبر ما فيه من التقصير والنقصان.

اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.



اترك تعليقاً