الاستعداد للقاء الله

الاستعداد للقاء الله

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهديه الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، اللهم نسألك الهدى، والعفاف والغنى، ونعوذ بك من دركات الشقاء، وسوء البلاء وشماتة الأعداء.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله في السر والعلن، فإنها المنجاة من نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، يقول الله جل وعلا: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

أخي المسلم… إنني إذ أخاطب اليوم قلبك فإنما أبدأ بقلبي أولاً، ذلك لأن الغفلة اليوم وجدت لها سوقاً رائجة في دنيانا وحياتنا، فقد قلَّ من يذكّرنا بالله واليوم الآخر، وكثُر ما يلهينا ويطغينا، حتى غدا ذكر الموت أمام الملأ أمر على نفوسهم من الصبر والعلقم، ولا عجب أن يجد الواعظ من يسكته، بدل أن يجد من يحمده ويشكره..

إن هناك أسئلة يسيرة في الورود، ولكنها عسيرة الجواب على نفس الغافل… هل فكرنا يوماً ما، لماذا خلقنا الله؟ وإلى أين نحن صائرون؟ وفي أي الدارين سنستقر؟ وهل حياتنا التي نعيشها تنهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لنقي أنفسنا ناراً وقودها الناس والحجارة؟ أم أننا تركنا نفوسنا تسيرها أهواؤها وملاذها وإن غضب الجبار؛ يقول الله جل وعلا: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 89-90].

إن المؤمن التقي إذا زلت به القدم فوقع فيما لا يرضي الله تعالى، تذكّر عظمة من عصى، فاقشعر جلده، وارتعدت فرائصه، وارتعش قلبه، وأقبل على التوبة إقبال الظمآن على الماء الزلال {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].

نعم حسب التقي أن شعلة الإيمان ما تزال حية في روحه لم تنطفئ، وأن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجفّ، وأن صلته بالله تعالى ما تزال نابضة لم تذبل، وأن يعرف أنه عبد يخطئ وأن له رباً يغفر.

إنه حريص على أن يتطهر من ذنبه قبل أن يفاجئه الأجل، فيلقى الله بخزي المعصية، يقرأ وعيناه تذرفان: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]، ثم يذرف دمعته وهو يقرأ: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].

يا راقد الليل مسـروراً بأوله              إن الحوادث قد يطرقن أسحـاراً 

لا تفـــرحـن بليل طاب أوله             فــــرب آخـــــر   الليــــــــل أجّج النارا 

أخي: حوادث الدهر كثيرة، وأنت بها مشغول، وعِبَر الأيام جمة وأنت عنها غافل، هل تذكرت من مات بغتة، وأُخذ فجأة، هل اعتبرت بمن تم أجله وانقطع عمله، إن الموت الذي تخطاك إلى غيرك سيتخطى غيرك إليك: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[ الرحمن: 26-27].

الموت لا والداً يُبقي ولا ولدا           ولا صغيراً ولا شيخاً ولا أحدا 

للموت فينا سهام غير مخطئـةٍ          من فاته اليوم سهمٌ لم يفتـه غدا 

إن اعتبارك بالموت له علامة، ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنه؛ يقول ابن عمر رضي الله عنهما: “ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل. وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنه يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك” والحديث متفق على صحته. 

فأنت بذلك دائم التذكار، مستعد للقاء الله في كل لحظة من ليل أو نهار، حاضر الجواب عن أسئلة ستواجهها حتماً بين يدي العزيز القهار، الودود الغفار، عن عمرك فيم أفنيته، وعن شبابك فيم أبليته، وعن مالك كيف اكتسبته وفيم أنفقته، وعن كتاب عملك ماذا سجلت فيه؟!

يا نفس توبي فإن الموت قد حانا              واعصي الهوى فالهوى ما زال فتّانا 

أما تــــــرين المـــــــنايا كيف تلقطنا                لقـــطــاً، فتلحق أخــــرانـــــــاً بــــأولانا

في كل يـــــــــــــــوم لنا ميت نشيعه                نرى بـــــمـــصـــرعه آثــــار مــــــــــوتـــــــــانا

الله أكبر كيف يطوي الموت سجل الحياة وكأنها لمحة بصر؟! كم من إنسان حِيلَ بينه وبين النطق بلا إله إلا الله؛ لأنه ما عاش عليها، وما عرف معناها، وما عمل بمقتضاها فتعسر عليه نطقها؛ لأن الإرادة في تلك اللحظات مسلوبة، فلا حول له ولا قوة إلا بالله!! {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، بارك الله لي ولكم في القرآن ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والبيان، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد فاتقوا الله عباد الله..

قيل للإمام الشافعي رحمه الله وهو في مرض موته كيف حالك؟ قال: ( لقد أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله تعالى واردًا، ولا أدري أروحي تصبر إلى الجنة فأهينها، أم إلى النار فأعزيها، ثم أنشأ قائلاً:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي         جعلت رجائي نحو عفوك سُلّما

تــعـاظــــــمني ذنـــبي فلما قـــــرنته            بعـفـوك ربي كان عفوك أعظما

فما زلت ذا عفو عن الذنب لم          تزل تجود وتعفو مِنَّة وتكرما

ثم فاضت روحه الطاهرة رحمه الله، إنه الخوف والرجاء، لقد كان الإمام الشافعي إماماً في الزهد والورع والتقوى، قضى ليله في القيام والمراجعة، ونهاره في الصيام وطلب العلم والتعليم، ومع ذلك هذا خوفه وذاك رجاؤه، وحُقَّ له أن يرجو رحمة ربه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمةََ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 218].

     يا من بدنياه اشتغل        وغـــــره طــــــــول الأمـــــل

      الموت يأتي بغتة           والقبر صندوق العمل

كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن القبر أول منزلة من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشد منه).

ثم ماذا بعد القبر؟.. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “تُحشرون حفاة عراة غرلاً”. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: الأمر أشد من أن يهمهم ذاك”. رواه البخاري.

تأهب للــــذي لا بد منه            فإن الموت ميعاد العباد

أترضى أن تكون رفيق قوم        لهم زاد وأنت بغـير زاد؟!

ثم ماذا بعد الحشر؟ بعده منزل الإقامة الخالدة بإذن الله {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].

تصور نفسك أخي في تلك اللحظات الحالكة لا تدري مع أي الفريقين؟ {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12]. توبة بعد فوات الأوان!!

ولكن ما شأن الفريق الآخر؟ {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:82].

أخي وقد عرفت المخرج، وعلمت الحقيقة وشملتك المهلة، فأعلن توبتك الصادقة، احذر أن يراك ربك حيث نهاك، أو أن يفتقدك حيث أمرك، تمسك بدينك كله، وعَضَّ عليه بالنواجذ، ولا تترك منه شيئاً تستطيعه، فإن من أعرض عن شيء من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستطيعه لا يأمن الضلالة، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النــور: 63].

ولتكن ممن أثنى الله تعالى عليهم بقوله: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النــور: 37].

فيا أخي الحبيب افتح قلبك للقرآن الكريم، وتدبر نداءات الله فيه، فإذا قال: {يا بني آدم} فأنت منهم، وإذا قال: {يا أيها الناس} فأنت أولاهم، وإذا قال: {يا أيها الذين آمنوا} فأرع لها سمعك، وأصغ لها قلبك، فإنها تخصك أنت أيها المؤمن.

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36]، أسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه ويصرفها إلى طاعته، وأن يرزقنا بعد كل ذنب توبة نصوحاً، حتى نلقاه بيض الوجوه والصحائف نؤتى كتبنا بأيماننا إنه سميع مجيب..

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين واحم حوزة الدين، ودمر أعداء المسلمين من كل ذي نهج ودين، اللهم من أراد الإسلام وأهله بسوء فاجعل تدبيره تدميراً له، ورد كيده في نحره، ولا تبلغه مأمله، اللهم دافع عن عبادك المؤمنين في كل أرض يُذكر فيها اسمك، ويُتلى فيها كتابك، اللهم أعد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عزها ومجدها، وهيئ لها أمراً رشداً، يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين في كل مكان إلى تحكيم شرعك، وإقامة سنة نبيك صلى الله عليه وسلم واجعلهم جنوداً لدينك، عزهم من عزه، وذلهم بتركه، اللهم هيئ لهم بطانة صالحة تذكرهم إذا نسوا وتعينهم إذا ذكروا، وجنبهم بطائن المكر والسوء بحولك وقوتك.

اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لكل ما تحب وترضى، واجعل له من أمره يسرًا، وأعز به دينك وأمتك وعبادك الصالحين، وإخوانه وأعوانه في الخير إنك سميع الدعاء.

اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.



اترك تعليقاً