التحرش الجنسي بالأطفال

التحرش الجنسي بالأطفال

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي المقصّرة بتقوى الله، فإن التقوى خير لباس، ولباس التقوى ذلك خير، وإنها خير الزاد، وإن خير الزاد التقوى.

أيها الإخوة الكرام:

كثيرًا ما نؤخر الحديث عن بعض المشكلات في حياتنا الاجتماعية على المنابر خوفًا وحذرًا وحياء. ولكن سكوتنا عن الخوض فيها لن يكون نافعًا، بل ربما يكون كإهمال الجرح، والصدود عن مرض مُعْدٍ، وكفاك بهما قاتلين للفرد والمجتمع.

حديثي اليوم مما يجب أن يعيه الآباء والأمهات، والمعلمون والمعلمات، بل والشباب والفتيات، بل الصبية والبنيات؛ كل بحسب سنّه وقدرته على الفهم والاستيعاب؛ لا أن نستمر في الكتمان والصمت والتجاهل؛ إنها قضية التحرش الجنسي بالأطفال؛ بدءًا بكشف العورات بقصد الإثارة الجنسية، وانتهاء بالاعتداء الكامل عليهم. فهذه الظاهرة تُعدّ إحدى المعضلات النفسية التي يعاني منها الطفل وأسرته ربما مدى الحياة؛ فيكونوا ضحية جريمة ليس لهم فيها يد.

وحينما نتحدث عن التحرش الجنسي بالأطفال، فإننا نتحدث عن أحزان وآلام ونتائج سيئة لبدايات وسلوكات خاطئة؛ وبالطبع عن أسر تصدَّعت، ومجتمعٍ تأثَّر ويخشى أن ينتكس تحت وطأة هذا الأمر. وأطراف المتأثرين بالتحرش الجنسي بالأطفال عديدة: المتحرَّش به، والمتحرِّش، وأسرة المتحرَّش به، وأسرة المتحرِّش. وتزداد القضية تعقيدًا حينما يكون أطراف المشكلة من الأقارب أو المحارم.

وأسباب التحرش كثيرة، منها تجاوز الأسر المسلمة للحدود الشرعية في التعامل القولي والفعلي والخلوات، والانفتاح على صور الرذيلة بكل وسائط الاتصال التي أصبحت في جيوب الناس وبين أناملهم ليل نهار. ومنها إهمال الوالدين والمربين واستبعادهم وقوع هذه الكارثة الشنيعة في بيوتهم، وعلى أطفالهم، ومنها سوء تربية المتحرِّشين، أو أصحاب السوء الذين أحاطوا بهم.

كما علينا أن نقر بدور الجو العام الذي أصبح يعجّ بالمثيراتٍ والمرغِّبات، في حين لا يزال المجتمع يضع العوائق في طريق الزواج الشرعي، ولم يعالج بلية البطالة وشبح العنوسة، وإذا أضفت إلى ذلك خفوت صورة القدوة المثلى أمام شبابنا وأطفالنا في المنزل والمدرسة.

ولكن هل الحل أن نضع أطفالنا قمقم لنحميهم من التحرش الجنسي؟ وهل العقوبات الموجهة ضد المتحرِّش جنسيًا كافية من أجل ردعه؟ حتى يكون عبرة لأمثاله من المقدمين على هذا الفعل المشين، وهل ننتظر حتى تقوم الأدلة على الفاعل لنقيم عليه الحد أو التعزير؟ وهي القضية التي تغطى بالصمت غالبًا خشية الفضيحة، فيسلم المجرم، ويتجرع الضحية مرارة القهر والظلم والانطوائية والهوس ربما طوال الحياة.

الوقاية خير من العلاج، والحذر يبدأ بتوعية الأسرة بكيفية تربية الأولاد وإرشادهم، وذلك بأن تتسلح للقيام بهذا الدور المتعاظم الأهمية بكثير من الحكمة والاطلاع، والتعرف على الخصائص المختلفة للمراحل النمائية المختلفة لأبنائها، وتنهض بالتوعية الجنسية لهم، هذه المساحة التي ظلت لسنين طوالٍ منطقة محظورة الاقتراب؛ فكانت سببًا رئيسًا في وقوع حالات التحرش الجنسي بالأطفال؛ وتفاقمها؛ إذ غالبًا ما يستغل المتحرِّش جهل وبراءة الطفل أو الطفلة، ليوقعه في براثنه تحت خدعة أنها لعبة من الألعاب كالتي يمارسها الأطفال مع بعضهم، فينقاد الطفل في براءة لما يحدث، وتكون الكارثة بعد ذلك.

وما يزال هناك عدد من المربين والآباء والأمهات يتساءلون: هل يجوز للمربي أن يحادث ابنه أو ابنته في المسائل الجنسية؟ وإذا كان هذا جائزًا فما السن المناسب لذلك؟ إن الحديث عن الجنس أمام الأولاد يجب أن يكون مناسبًا لأعمارهم، وبما يحتاجون إليه فقط؛ دون تقصير فيضطرون ليأخذوا المعلومة ممن لا خلاق لهم، فيستغلوهم، أو يعطونها لهم بقدر زائد عن الحاجة، ولا زيادة مفرطة؛ فتضر بهم.

لا بد من التحذير من الاقتراب من الكبار اقترابًا جسديًّا مريبًا في داخل البيت أو خارجه، أو قبول دعوتهم لركوب سيارة، أو مشاهدة تفحيط، أو أخذ مال، أو طعام أو شراب، فضلاً عن الذهاب معهم إلى استراحة أو مطعم ونحوه.

كما أن الأسرة مسئولة عن وقوع ابنها في هذا المستنقع الآسن حين تلبسه ملابس ضيقة تبرز مفاتنه أمام الشاذين ومرضى النفوس مما يثير الآخرين، أو تدعه يتميع في حركاته ونبراته؛ يقول الله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32].

فلا بد من تربية الأبناء على الخشونة ونبذ الميوعة والتخنث، وتربية البنات على الستر وتعويدهن على الحجاب قبل سن البلوغ، فإن من أهم أسباب جرأة من يعتدي على الطفل، مظهر الطفل نفسه خاصةً إذا كان الطفل وسيم الطلعة، ممتلئ الجسم، فيعوده الأب على الخشونة في المأكل والملبس، ويعوده ممارسة الرياضة القوية التي تبني جسمه وتخشّن جلده، ولا بأس بحلاقة رأسه إذا كان شعره هو سبب جماله، اقتداءً بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في التعامل مع الرجل الجميل الذي افتتنت به النساء.

كما يراعى عدم التساهل في ملابس البنت خاصة إذا ظهر عليها جمال الوجه والجسم منذ وقت مبكر، فتعوّد على الملابس المحتشمة بعيدًا عن العاري أو الضيق جدًا الذي يبرز مفاتن جسدها ويغري بها من لا خلاق لهم- رغم صغرها-، ويستحب تعويدها على ارتداء الحجاب بشكل غير إلزامي وهي بعد صغيرة، حتى تألفه، وفي نفس الوقت حتى تربى على الصيانة والستر وتتشكل نفسها على ذلك، وهذه التربية من شأنها أن تحمي الأبناء من الاعتداء وتصد الطامعين الآثمين في الوقت نفسه.

لا بد من زرع الوازع الديني في الأطفال منذ الصغر، والاستمرار في ذلك حين يصبحون شبابًا، وتعليمهم أنه لا علاقة جنسية شرعية تتم في ديننا الإسلامي الحنيف إلا عن طريق الزواج الشرعي، وكل ما وراء ذلك هو حرام، ويعاقب عليه الإنسان من قبل الله سبحانه وتعالى.

لا بد من تعليمهم عدم كشف العورة إلا للضرورة كالطبيب مثلاً، وتعليم الابن الحفاظ على المسافة الجسدية المناسبة بينه وبين الآخرين، وعدم الملامسة في أماكن غير مقبولة من الجسم، وعدم أخذ الهدايا من أناس غرباء، ونأخذ بمبدأ من أين لك هذا، وإذا تعرض لذلك من أي شخص فلا بد أن يخبر والديه، لذلك يجب أن تكون هناك علاقة ثقة بين الابن ووالديه، وأن تكون هناك علاقة خاصة بين الأم وابنتها بحيث تتيح لها البوح بمكنوناتها الداخلية، وعدم الخجل من اطلاع الأم عما يواجهها من مشكلات.

ويكون ذلك في هدوء نفسي بين الطرفين، وفي جو من المحبة والود والألفة، فلن يسمع الصغير، ويعير نصائح المربين اهتمامًا ما لم تكن الصداقة والمحبة هي جسر التواصل يما بينهما، كما أن الكلام والحديث في مثل هذه الأمور الحساسة (التربية الجنسية) تحتاج إلى اختيار البيئة والزمان والمكان الملائمين، وعدم التهرب من تساؤلاته، بل يجب أن يكون المربي كنز المعرفة الأمين، فإحساس الطفل بالأمان والطمأنينة يلعب دورًا كبيرًا في قدرته على البوح بما داخله. لقطع الطريق أمام الطفل أن يكتشف ويعرف ويدرك خارج نطاق الأسرة، حتى لا تتلقفه أيادي غير أمينة قد توقعه في براثن الانحراف، وحتى لا يتشبع بمعطيات جنسية تتساقط عليه من كل حدب وصوب، فالمعلومات التي يتلقاها الأبناء على غزارتها الكمية، مجتزأة، مبعثرة، ناقصة، كما إنها تضفي على “الجنس” طابعًا دنيئًا، بعيدًا عن وظيفته الأساس المتمثلة في إعمار الكون، وإشباع الحاجات الجسدية بصورة سليمة وشرعية.

لقد قال الله تعالى، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم في التربية الجنسية كثيرًا جدًّا، ولكن بلغة راقية، وبأسلوب ميسر، لا إفراط فيه ولا تفريط؛ لأنه جزء من الحياة اعترف به الإسلام ووضع له الأطر الصحيحة للتعامل معه، وكانت أموره تناقش علنًا في مجلس الرسول الكريم، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر7].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله عدد كل شيء خلقه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله:

إن من مسئولية الآباء والمربين ألا تغفل عيونهم عن مراقبة أولادهم وتلاميذهم وملاحظتهم حتى بين أفراد الأسرة الواحدة؛ فقد يقع العدوان من أحدهم على الآخر، ولا يعني ذلك حرمانهم من حرية الحركة والتعبير عن الذات، لكنها عيـن الحارس والمتابع، كما ينبغي أن يلاحظوا أية تغيرات تظهر عليهم، فإن بدا من ذلك شيء وجب علاجه قبل أن يكبر ويستفحل ويستشري، وهذه هي المسئولية التي كلَّف الله تعالى بها كل أبٍ ومربٍّ، روى أبو داود في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم وهو مسئول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) وأخرجه البخاري ومسلم.

والاعتداء الجنسي على الأطفال خطرٌ محدقٌ، وإذا كان هذا الاعتداء من قريب أو جار أو زميل في المدرسة، فإنه عادة ما يصاحبه تهديدٌ ووعيدٌ حتى لا يفشي الصغير السر، كما أن الاعتداء غالبًا ما يكون متكررًا، نظرًا لسهولة تواجد هذا الشخص في محيط الطفل، وبذلك قد يستمر الخطأ ربما لوقت طويل، وتظهر آثاره على حالة الطفل النفسية؛ من اضطرابات سلوكية، وكوابيس، وضعف شهية، وميل للعزلة، وتبول لا إرادي، وضعف وتراجع دراسي، وأكثر من ذلك تتشوه شخصيته تشويهًا قد يلازمه طوال حياته، ويصعب علاجه والتخلص تمامًا من آثاره، وقد يستمر الطفل في ممارسة الخطأ نفسه حتى يكبر، بل قد يتعود عليه، ويطلبه بنفسه.

فإذا تعرض الطفل للتحرش الجنسي فيجب طمأنته، ومحاولة استدراجه لمعرفة ما حدث له بالضبط، دون توبيخ له، ولا اتهام بالضعف، ولا لوم له أنه لم يدافع عن نفسه، بل يساند نفسيًّا حتى يهدأ، ويمتص المربي كل التفاعلات النفسية التي حدثت له، ويرسم له طريقًا للخلاص مما هو فيه من ارتكاس نفسي شديد، ويفتح له أبواب الرجولة والقدرة على الدفاع عن نفسه في المستقبل، ويأخذه في يده في غدوه ورواحه ليؤمنه نفسيًّا.

وأما التعامل مع المتحرِّش فيجب أن يكون بحزم شديد، وإبلاغ الجهات المختصة لإقامة الحد أو التعزير عليه علانية، لإيقاف هذه الجرائم المتتابعة، وهذا السلوك المدمر الذي يدمر الأطفال نفسيًّا ومعنويًّا، وإذا لم يبلغ الأمر إلى الجهات المختصة، وأراد الذي وقع في التحرش بمجهول ما التوبة إلى الله، والعودة عن طريق الغواية، فيجب أن نتلقفه بالقبول، ونسعى لعلاجه نفسيًّا وشرعيًّا؛ حتى يشفى من مرضه العضال، ففي ذلك حماية له وللمجتمع كله.

اللهم يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية في الدنيا والآخرة، اللهم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت به لنا، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك.

اللهم اجعل رزقنا رغدًا، ولا تشمت بنا أحدًا، اللهم رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، واهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه، اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام، وملكك الذي لا يُضام، وبنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به، وأن تعيذنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

اللهم وفق حكام المسلمين لما فيه خير لشعوبهم، ونصرة دينهم، وتحرير مقدساتهم، ووحد على الخير صفوفهم، إنك أنت السميع العليم.

اللهم وفق وليّ أمرنا إلى ما تحبه وترضاه، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة، التي تعينه على الخير، وتدله عليه.

ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً