الحج المبرور

الحج المبرور

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، امتثالا لأمر الله جل وعلا في محكم التنزيل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

أحبتي في الله.. وتتوالى مواسم الخير والعبادات، ويعود موسم الحج من جديد، الركن الخامس، والعبادة التي تجمع عبادات، وتؤدي مقاصد عظيمة، العبادة التي لا تجب إلا مرة في العمر على المستطيع، يقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [ آل عمران:97]. فهو فرض واجب لله تعالى على من استطاع -من أهل التكليف- السبيل إلى حج بيته الحرام الحجُ إليه”، ومن جحده فأنكره وكفر به، فإن الله غني عنه وعن حجه وعمله، وعن سائر خلقه من الجن والإنس”.

ومن يسر هذا الدين، وتخفيف الشرائع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يوجبه إلا مرة في العمر، جاء ذلك في خطبة رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا))، فقال رجل: أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت. حتى قالها ثلاثًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم)) رواه مسلم.

عباد الله.. والحج من أعظم العبادات وأجلها، فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)). قيل: ثم ماذا؟ قال: ((جهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)). متفق عليه.

والحج المبرور: هو الذي وُفِّيت أحكامه ووقع موقعًا لما طُلب من المكلف على الوجه الأكمل، ولم يخالطه إثم، مأخوذ من البر وهو الطاعة، وقيل: هو المقبول. ومن علامة القبول أن يرجع خيرًا مما كان ولا يعاود المعاصي. وقيل: هو الذي لا رياء فيه. وقيل: الذي لا يعقبه معصية. وهما داخلان فيما قبلهما.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، قال: ((لكُنَّ [ أو لكِنَّ على الاستدراك ] أفضل الجهاد حج مبرور)) رواه البخاري، ولِمَ لا وقد جعل ثوابه مغفرة الذنوب جميعًا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) رواه البخاري. والرفث اسم للفحش من القول، وقال الأزهري: هي كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. والفسوق هو جميع المعاصي القولية والفعلية يجب على الحاج تركها والحذر منها. وقوله: ((رجع كيوم ولدته أمه)) أي: بغير ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات.

وفي حديث آخر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) متفق عليه، قال النووي رحمه الله: “ومعنى: ((ليس له جزاء إلا الجنة)): أنه لا يُقْتَصَر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لا بد أن يدخله الجنة، والله أعلم.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله:”فجدير بأهل الإيمان أن يبادروا بحج بيت الله، وأن يؤدوا هذا الواجب العظيم أينما كانوا إذا استطاعوا السبيل إلى ذلك”.

وكيف يتوانى المستطيع عن أداء هذا الركن، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أديموا الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد)) رواه الدارقطني وصححه الألباني في صحيح الجامع 253.

وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الْحُجاج والعُمّار وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم.)) حسنه الألباني في صحيح الجامع3173.

قال المناوي: وفد الله أي: قادمون عليه امتثالاً لأمره، دعاهم إلى الحج والاعتمار فأجابوه، وسألوه فأعطاهم ما سألوه، ومقصود الحديث بيان أن الحاج حجًا مبرورًا لا ترد دعوته”.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما أهل مُهِلّ قط ولا كبّر مكبر قط إلا بُشِّر بالجنة” حسنه الألباني في صحيح الجامع5569. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، ورجل خرج غازيًا في سبيل الله تعالى، ورجل خرج حاجًّا” صححه الألباني في صحيح الجامع 3.51.

وهنا قد يقع تساؤل: هل التطوع بالحج [أي لمن قضى فرضه] أفضل أم الصدقة بالنفقة؟

قال أبو الشعثاء: “نظرت في أعمال البر، فإذا الصلاة تجهد البدن دون المال، والصيام كذلك، والحج يجهدهما فرأيته أفضل”.

وعن أبي موسى الأشعري: أن الحاج يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فقال له رجل: يا أبا موسى، إني كنت أعالج الحج، وقد كبرت وضعفت، فهل من شيء يعدل الحج؟ فقال له: هل تستطيع أن تعتق سبعين رقبة مؤمنة من ولد إسماعيل؟! فأما الحِلًّ والرحيل فلا أجد له عِدلاً أو قال: مثلاً. وعن طاوس أنه سئل: هل الحج بعد الفريضة أفضل أم الصدقة؟ قال: فأين الحل والرحيل، والسهر والنصب، والطواف بالبيت، والصلاة عنده، والوقوف بعرفة وجمع، ورمي الجمار؟! كأنه يقول: الحج أفضل”.

قال ابن رجب الحنبلي: “قد اختلف العلماء في تفضيل الحج تطوعًا أو الصدقة: فمنهم من رجّح الحج كما قاله طاوس وأبو الشعثاء وقاله الحسن أيضًا. ومنهم من رجّح الصدقة وهو قول النخعي. ومنهم من قال: إن كان ثَمَّ رحمٌ محتاجة أو زمنُ مجاعةٍ فالصدقة أفضل، وإلا فالحج أفضل وهو نص أحمد، وروي عن الحسن معناه، وأن صلة الرحم والتنفيس عن المكروب أفضل من التطوع بالحج”.

أقول: وقد ذكر بعض أهل العلم في هذا الزمن بأن المسلم إذا أدى فريضته، ولم يكن لذهابه نفعٌ متعدٍّ إلى غيره، كطالب علم، أو طبيب، أو من يُحْسِنُ أيَّ أمر من الأمور التي يحتاجها الحجاج، فإنه إذا نوى بعدم ذهابه تخفيف الزحام، وترك المجال لغيره من المسلمين، فإنه مأجور على نيته، فإذا تصدق بنفقته على المحتاجين، فهو لا شك على خير عظيم، تقبل الله من الجميع كل بر وخير.

عباد الله: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واستغفروا الله إنه الله غفور رحيم.


الخطبة الأخرى:

الحمد لله ولي الحمد وأهله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد. فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله تعالى حين شرع الحج فقد شرعه تعبدًا له عز وجل، وجعل له حِكمًا ومنافع: قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج:28 ،29].

أي: ليحضروا منافع لهم، أي: ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة… فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى”.

قال ابن باز رحمه الله: وأعظم هذه المنافع وأكبرها شأنًا ما يشهده الحاج من توجّه القلوب إلى الله سبحانه، والإقبال عليه والإكثار من ذكره بالتلبية، وغيرها من أنواع الذكر، وهذا يتضمن الإخلاص لله في العبادة، وتعظيم حرماته، والتفكر في كل ما يقرّب لديه ويباعد من غضبه.

ومن منافع الحج وفوائده العظيمة: أنه يذكّر الآخرة، ووقوف العباد بين يدي الله يوم القيامة؛ لأن المشاعر تجمع الناس في زيٍّ واحد، مكشوفي الرؤوس من سائر الأجناس، يذكرون الله سبحانه ويلبون دعواته، وهذا المشهد يشبه وقوفهم بين يدي الله يوم القيامة في صعيد واحد حفاةً عراةً غرلاً خائفين وجلين مشفقين، وذلك مما يبعث في نفس الحاج خوف الله ومراقبته، والإخلاص له في العمل.

وفي الحج إعلاء شعار التوحيد والبراءة من الشرك: فالتلبية أول ما يأتي به الحاج والمعتمر يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، يعلن توحيده وإخلاصه لله، وأن الله سبحانه لا شريك له.

وفيه دربة على البذل في سبيل الله: فتحمل المشاقّ فيه، وبذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيق الحج دليل واضح على تعويد الإنسان على تحمل المشاق في سبيل الله. وينزع مادة الشحّ عن صدر الشحيح، فإن المبتلى بالشح إذا خرج إلى هذا السفر لا يمكنه أن يبخل على نفسه، لخوف التلف، فيعتاد الجود على نفسه، فتتعدى عادته منه إلى غيره، فينال محمدة الأسخياء، وهذا أمرٌ معتاد، أن من كان من أبخل الناس، متى خرج في هذا السفر يعتاد الجود.

وهو ميدان خصب للدعوة إلى الله: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على القبائل في منى يدعوهم إلى توحيد الله ونصرة دينه. وتكون دعوتهم بالأساليب الحسنة التي يرجى منها قبول الحق وترك الباطل، قال الله جل وعلا: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [النحل:125].

والحج – كذلك – مؤتمر عالمي للمسلمين:من جميع أجناس البشر، يتعارفون فيه، ويتشاورون فيه، ويتناصحون ويأتمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر؛ مما يجعل المسلمين أمة واحدة وصفًا واحدًا فيما يعود عليهم بالنفع في أمر دينهم ودنياهم.

كما أن في الحج إظهارًا للعبودية؛ لأن الحاج في حال إحرامه، يظهر الشعث، ويرفض أسباب التزين والارتفاق، ويظهر بصورة عبدٍ سخط عليه مولاه، فيتعرض بسوء حاله لعطف مولاه.

كما يذكّر الحجّ المؤمن بماضي الإسلام التليد، وبجهاد النبي صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح، الذين أناروا الدنيا بالعمل الصالح. ويوطن القلب على فراق الأهل والولد؛ إذ لا بد من مفارقتهم، فلو فارقهم فجأة يلزمه أمرٌ عظيم عند صدمة الفراق.

كما في الحج فوائد اجتماعية: فهو يؤدي إلى تعارف أبناء الأمة على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأوطانهم، ويحسّ الناس أنهم حقًّا متساوون، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى.

أسأل الله تعالى أن يحمي حجاج بيته، وأن يتقبل منهم، إنه سميع مجيب.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضال المسلمين، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 



اترك تعليقاً