الحوادث.. العرض والعلاج
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي سخّر لنا ما في السموات وما في الأرض جميعًا نعمة منه وفضلاً، أحمده تعالى على آلائه الجسيمة وأشكره على مننه الجزيلة، حمدًا يملأ السماوات والأرض وشكرًا يكافئ مزيده.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، لا خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذّرها منه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد.. فأوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، كما أمرنا بذلك الله جل وعلا؛ فقال في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]، وقال جل وعلا: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وقال تبارك وتعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5].
عباد الله، أيها الأحبة في الله:
جاءت عادتنا الاجتماعية اليوم بأنماط جديدة؛ فتحت مصاريع السفر، وعدّدت أشكاله وأسبابه؛ حيث تتسابق وسائل المواصلات بشتى أنواعها لاجتذاب أكبر عدد ممكن من الناس؛ لتنقلهم إلى حيث يقضون جزءًا من أوقاتهم في جو آخر، يجددون فيه نشاطهم، ويروّحون فيه عن أنفسهم، ويقضون فيها أعمالهم. والسيارة سيدة تلك الوسائل بلا منازع، جاءت لتختصر الزمان وتقرّب المكان، وتحمل المتاع، ولتضيف إلى رصيد الرفاهية والرخاء جزءًا كبيرًا ومهمًّا في حياتنا، ولاسيما أنها تزامنت مع الطفرة الاقتصادية في بلادنا، حتى غدا في مقدور أكثر فئات المجتمع أن يقتني واحدة أو أكثر، حتى اكتظت الخطوط البرية، وأصبحت كأنها شوارع داخلية.
ومن هناك نشأت المشكلة؛ حيث تضاعفت أعداد هذه السيارات في أيدي الناس، وصار الأب يشتريها لكل أولاده، منذ أن يستطيع الولد قيادتها ولو قيادة غير متقنة هديةً لنجاحه، أو مماثلة بأصدقائه، أو أحيانًا لحاجة هذا الوالد في قيادة ولده السيارة، حتى بلغت نسبة الأحداث الذين يقودون السيارة 20% من عدد الكبار المرخّص لهم، ومنهم تقع معظم الحوادث المرورية القاتلة.
ومن خلال البحوث الجامعية الموثقة تبين أن هناك من الخسائر البشرية والمادية ما يعادل خسائر حرب عسكرية طاحنة، وكأنما تدور رحاها في شوارعنا لا قدر الله، فبلادنا بلاد الأمن والإيمان، ولكن من نتائج عدم الوعي لدى عدد من أفراد المجتمع، ونتائج كفران النعمة لدى أفراد آخرين، ونتائج التصرفات العاطفية في بذل هذه السيارة إلى الأفراد المنحرفين سلوكيًّا، أو الذين لم يبلغوا السن التي تؤهلهم لقيادتها رسميًّا.
تقول الإحصاءات الرهيبة الرهيبة، والتي لم تحدث منذ مدة: إن حوادث المرور في المملكة تؤدي إلى إصابة خمسة أشخاص كل ساعتين، ووفاة شخص واحد كل ثلاث ساعات، وهو ما يزيد على المعدلات القياسية حتى في الدول الكبرى؛ حيث بلغ عدد الخسائر البشرية خلال 25 سنة خمسة وستين ألف شخص لقوا حتفهم، وأُصيب نحو نصف مليون، ومعظم سائقي السيارات المرتكبين للحوادث المرورية تتراوح أعمارهم مابين 18 و39 سنة، معظمهم من المتزوجين؛ إذ تبلغ نسبتهم 60% وغالبهم من المتعلمين، وثلث أَسِرَّة المستشفيات في المملكة مشغولة بمصابي الحوادث المرورية، وتبلغ تكلفة الحادث المروري في المتوسط ثمانية وخمسين ألفًا ومائة وثلاثة وستين ريالاً، ومجموع الخسائر بلغت ثمانية عشر مليار ريال!!
ومع أن النظم تأخذ في زيادة الصرامة في الأخذ على أيدي المخالفين، والحزم في معاقبتهم، إلا أن الزيادة المطردة في عدد السكان من مواطنين ومقيمين، إلى جانب زيادة الاستهتار من قبل الشباب الذي يقلد ما يراه على شاشات القنوات التلفازية المضللة، ويفاخر بين زملائه على ما يقوم به من بطولات عنترية فارغة، وزيادة نسبة السفر بين المدن، كل ذلك ومعه العوامل الطبيعية في وقوع الحوادث كإهمال تغيير العجلات، وعدم مراقبة الأجزاء الرئيسة في السيارة، وتجوّل الحيوانات بجانب الخطوط الخارجية؛ ولاسيما الجمال، أدى ذلك كله إلى زيادة مخيفة لا تزال في ازدياد.
وهذه الخسائر البشرية الفادحة تنعكس سلبًا على اقتصادنا الوطني، لاسيما أن الشريحة العظمى من ضحايا تلك الحوادث المرورية هم من الفئة العمرية المنتجة، أي من تلك الشريحة التي تنتظرها أمتنا، وينتظرها وطننا، وينتظرها الإنسان في كل مكان، وتصور معي هذه الأعداد التي تموت! كم تركت من الآثار الاجتماعية السلبية في مجتمعنا! كم تركت من أرملة في ربيع الشباب تمزقها الحسرة! وكم تركت من أيتام ربما لم يجدوا من يربيهم وينشئهم نشأة لائقة صالحة؛ فيعيشوا محرومين من حنان أب أو أم! ولذلك آثار سلبية أيضًا على نفسياتهم وسلوكهم في المستقبل، مما يعود بالآثار الخطيرة على المجتمع، وكم حُرقت من قلوب على فقد عزيز حبيب! وكم تركت من فجائع حين تخسر الأمة عالمًا كبيرًا أو طبيبًا مجيدًا أو داعيًا مخلصًا أو نحو ذلك، ممن هي في أمسّ الحاجة إليهم، وهي تعيش هذه المرحلة الحرجة!!
إن الأمر جدُّ خطير، ويحتاج من كل واحد منا حزمًا مع نفسه في عدد من الاحتياطات اللازمة في التفاعل مع السيارة، وبدءًا بالعناية بإصلاح أي عطل منها، واستبدال أي جزء غير موثوق بأداء وظيفته، فالأرواح أغلى من أن تُفدى بالأموال.
ثم بالتقليل قدر المستطاع من السفر إلا لمصلحةٍ لا يمكن أن تُقضى في البلاد التي يقيم فيها، ثم باتباع أسباب السلامة، واستصحاب آداب السفر، وعدم القيادة والنوم يداعب عينيه، فإن غفوة واحدة قد تحرم أسرة كاملة من عائلها، وتحرم أُمًّا من وحيدها، وتحرم امرأة من زوجها، وتحرم مسلمًا من الاستزادة من العمل الصالح، وتحرم عاصيًا من فرصة التوبة، كل ذلك بعد تقدير الله عز وجل، فهل يحب أحدنا أن يكون سببًا في شيء من ذلك؟!
والحذر كل الحذر من السرعة، فهي أبرز أسباب الحوادث المروعة التي تذهب ضحيتها النفوس أو تؤدي إلى حالات مرضية مقعدة مستديمة.
ولمن أحب السرعة في السفر مشغوفًا بمتعتها الخطيرة أقول: إذا وثقت في قيادتك فلا تثق في قيادة الآخرين؛ فكم قائد سيارة تفاجأ بانحراف السيارة التي في الشارع المقابل ومواجهتها له في سرعة جنونية فلا تسل بعد ذلك عن أشلاء البشر الممزوجة بأشلاء الحديد.
وإذا وثقت في سيارتك فلا تثق في مفاجآت الطريق! ومن أين لقائد السيارة أن يتحكم في وقود سيارة تطير من سرعتها، وإذا كنت حريصًا على الوصول في أقرب وقت ممكن فالزم التأني، ففي التأني السلامة، وكم مستعجل لزم السرير الأبيض سنوات بسبب تهوره وإنه الخطأ الذي لا يفيد معه الندم.
يقول الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، وأقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الأخرى:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
في الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والجلوس على الطرقات»، فقالوا: ما لنا بُدّ، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها؛ قال: «فإذا أبيتم إلا المجالس، فأعطوا الطريق حقها»، فقالوا: وما حق الطريق؟ قال: «غض البصر، وكفّ الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر».
أيها المؤمن المحب لرسوله صلى الله عليه وسلم تعالى معي نعرض تصرفات بعضنا على هذا الحديث العظيم إذا ركبنا السيارة، لا شك أن هناك من يطبق كل حقوق الطريق أو معظمها، فهو يغض بصره عن محارم المسلمين، ويكفّ أذاه عنهم، ويسلم ويرد السلام، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولكن هناك من إذا ركب سيارته نسي الله، وأخذته نشوة العجب والخيلاء، فيا لمحارم المسلمين من نظراته المريضة، وألفاظه البذيئة، ومغازلاته السمجة، بتفحيطاته التي تثير الإشفاق على عقله، وربما يودي بحياة أحدهم غير مكترث به ولا ينسى أن يثير الغبار على الناس، ويزعجهم بأصوات الغناء المحرم دون مراعاة لدين أو مروءة.
وأما السلام في قاموسه فهو السباب والشتائم والصراخ الطفولي، وإذا كان لا بد فملؤه الكبر والغطرسة، متناسيًا قول الله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء: 37]، {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]، {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].
أين المفحطون من هذه التحذيرات القرآنية، وقد أضروا بغيرهم وأضروا بأنفسهم؛ حيث الإتلاف الشديد الذي يلحق بالسيارة والممتلكات والشوارع، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27]، ويقول سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].
ومن آداب الطريق اليوم: احترام أنظمة المرور وإشاراته؛ فهي لم توضع إلا من أجل المصالح العامة، لا يجوز مخالفتها؛ لكونها مما أمر به ولي الأمر، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]، إلى جانب ما في قطعها من إيذاء للمسلمين وتعريضهم للترويع وربما الخسائر المادية والبشرية.
ثم اعلم -حماك الله من كل مكروه- أن السيارة نعمة عظيمة، فاشكر الله تعالى عليها، وإن من شكرها خدمة الأهل والأصحاب بها، واستعمالها فيما يرضي الله تعالى، فلا تسر بها إلى معصية، فتستخدم نعمة الله في معصيته، ولا تكن ممن يعق والديه ويبر صديقه، فأنت تذهب بأصدقائك إلى كل مكان فلا تبخل على والديك، أما سمعت بشاب طلبت منه والدته أن يذهب بها إلى منزل إحدى صديقاتها، فأبى، فلما ألحت عليه اشترط عليها أن تخرج بمجرد سماع صوت جرس السيارة لمرة واحدة، وإلا فإنه سينصرف ويتركها، وحدث ذلك وتباطأت الأم قليلاً؛ فانطلق الشاب تاركًا أمه المسكينة محتارة، حرجة في بيت صديقتها، ولكنه بمجرد أن انطلق مسرعًا إذا به يقع في حادث أليم يودي بحياته.
وفي السيارة مجال رائع لاستماع القرآن الكريم والدروس النافعة عبر إذاعات القرآن الكريم، وغيرها، والأشرطة النافعة الموثوقة، بل يمكنك أن ترتب برنامجًا منوعًا مفيدًا إذا كنت مسافرًا مع مجموعة من أهلك أو أصدقائك.
بل ألا تحيي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تصلي نافلة وأنت على كرسيك إذا لم تكن قائد السيارة، فقد كان الرسول صلى عليه وسلم يتنفل وهو على بعيره دون أن يشترط استقبال القبلة. والمؤمن المحبّ لشريعته لا يدع سُنّة إلا عمل بها ولو مرة واحدة ليكون من أهلها.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعًا من أهل الإيمان، وأن يقينا وجميع المسلمين من كل شر، وأن يحفظنا بحفظه ويكلأنا برعايته.. إنه سميع مجيب.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين واحم حوزة الدين، ودمر كفرة اليهود والنصارى والوثنيين، والملحدين، وكل من عادى دينك ونبيك محمدًا صلى الله عليه وسلم وكتابك العزيز.
اللهم انتقم لكتابك الكريم ونبيك العظيم وشريعتك السمحة من كل من حاول النيل منهم، والاستهزاء بهم، واجعلها بداية نهاية الظلمة عما قريب يا منتقم يا جبار السماوات والأرض.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك اللهم من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وأيد بالحق ولاة أمرنا، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه الطيبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.