النفس المتسامحة .. عطاء بلا حدود

النفس المتسامحة عطاء بلا حدود

الخطبة الأولى:

اللَّهُمَّ، لَكَ الْحَمْدُ لِمَا بَسَطْتَ رِزْقَنَا، وَأَظْهَرْتَ أَمْنَنَا، وَأَحْسَنْتَ مُعَافَاتِنَا، وَمِنْ كُلِّ مَا سَأَلْنَاكَ أَعْطَيْتَنَا، فَلَكَ الْحَمْدُ بِالإِسْلامِ، وَلَكَ الْحَمْدُ بِالأَهْلِ، وَالْمَالِ، وَلَكَ الْحَمْدُ بِالْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ.

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، وصفيه من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله امتثالاً لأمره، وحبًّا لذاته، ورغبة في عطائه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[سورة الأنفال: 29].

عباد الله .. إن النفس المؤمنة المتسامحة من أصفى النفوس وأسعدها، تحمل روحًا محبة للخير، تبذل الإحسان للخلق، بين جوانحها قلبٌ يحب السعادة للآخرين، ويرجو الخير لكل المسلمين، يتألم لآلام إخوانه، ويسعد بفرحهم، ويتمنى التوفيق للجميع، يتبسم في الوجوه، ويدخل إلى القلوب، لا يبخل بمال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، يحنو على اليتيم، ويخاف الله في الأرملة والمسكين، وفي الحديث القدسي: “وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ” [مسلم: 2865].

فما أعظمها نفس تسعى في منافع الناس، يفرح عندما يوسع الله على إخوانه، ويسعد عندما تمتد يده بالعطاء، ويهنأ عندما يطعم مسكينًا، أو يكسو فقيرًا، يبذل الإحسان لا يرجو بذلك إلا وجه الله، مستحضرًا قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]. وهذه النفس هي التي يُقابَل صاحبها بالإحسان يوم القيامة، فـ{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك، فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ» [صحيح مسلم 1561].

فرق بين هذا، وبين من يلقي بأسرة على الرصيف؛ لأنها لم تسدَّ له إيجارًا، مع أن هذا الإيجار لا يمثل إلا فضول أمواله، أو من يدفع بعائل فقير في السجن؛ لأنه لم يستطع أن يفي بدين لا يتجاوز قيمة سياحة له، فيحرم أسرته من طعام عزيز، ومأوى كريم، وأب حفي.

وصورة أخرى من صور التسامح: كان الصحابي مخرمة رجلاً في خُلقه شدة، ولا يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُغضبه، بل يعامله بشيء فيه عطف وحنو بالغ، وكان رجلاً كفيف البصر، سمع بقدوم أثواب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف عامله النبي صلى الله عليه وسلم وكيف أرضاه، وهذا ليس بواجب عليه، بل يعلمنا كيف تكون النفس المتسامحة، وكيف تعطي الجميع بلا حدود، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُهْدِيَتْ لَهُ أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ، فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، فَقَامَ عَلَى الْبَاب فَقَالَ: ادْعُهُ لِي، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ، فَأَخَذَ قَبَاءً فَتَلَقَّاهُ بِهِ، وَاسْتَقْبَلَهُ بِأَزْرَارِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ! يَا أَبَا الْمِسْوَرِ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شِدَّةٌ. [البخاري 3127]، وفي بعض الروايات صار يعرض عليه محاسن هذا الثوب، حتى رضي مخرمة، وكل هذا ليس بفرض ولا واجب، ولكنها النفس العظيمة، المحبة لهداية الخلق، الرحيمة بهم، صلى الله عليه وسلم.

وعن سَهْل بْن سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ، -قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ فَقِيلَ لَهُ: نَعَمْ، هِيَ الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ فِي حَاشِيَتِهَا- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا، وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اكْسُنِيهَا. فَقَالَ: نَعَمْ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ! سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلاً، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِتَكُونَ كَفَنِي يَوْمَ أَمُوتُ، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ” [البخاري: 2093]. وعلى ذات الدرب سار أبو بكر الصديق، فسامح مسطحًا وقد تحدث في عرضه، وعفا عمن آذوه، فرضي الله عن الصديق أبا بكر.

وعلى خطى النبي صلى الله عليه وسلم مضى الصحابة والتابعون يسامحون ويعفون ويحسنون، فسامح الإمام أحمد من آذوه في المحنة، حتى قال ابنُه: وسمعت أبي يقول: لقد جعلت الميتَ في حلٍّ من ضربه إياي.. ثم قال: وما على رجل أن لا يُعذبَ اللهُ بسببه أحدًا). [سير أعلام النبلاء: 11/257].

وكان يقول: “كل من ذكرني ففي حلٍّ إلا مبتدعًا – يعني ابن أبي دؤاد -، وقد جعلت أبا إسحاق – يعني: المعتصم – في حلٍّ.. ثم قال أبو عبد الله: وما ينفعك أن يُعذبَ اللهُ أخاك المسلم في سببك”. [سير أعلام النبلاء 11/261]. وقال له إسحاق بن إبراهيم: اجعلني في حلٍّ من حضوري ضربك. فقلت: قد جعلت كل من حضرني في حلٍّ. [سير أعلام النبلاء 11/266].

ولما أمر الواثق بقطع قيود الإمام أحمد، فلما قطعت، ضرب بيده إلى القيد ليأخذه، فجاذبه الحداد  عليه، فقال الواثق: لِمَ أخذتَه؟ قال: لأني نويتُ أن أوصيَ أن يُجعل في كفني حتى أخاصم به هذا الظالم غدًا. وبكى، فبكى الواثق وبكينا. ثم سأله الواثق أن يجعله في حلّ، فقال: لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم؛ إكرامًا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ لكونك من أهله.

فقال له: أقم قِبَلنا فننتفع بك، وتنتفع بنا، قال: إن ردك إياي إلى موضعي أنفع لك، أصير إلى أهلي وولدي، فأكفّ دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك، قال: فتقبل منا صلة؟ قال: لا تحل لي، أنا عنها غني. [سير أعلام النبلاء 11/ 315]. رحم الله هذا الإمام الكبير، فما كانت أعظم نفسه المتسامحة، ورضي عنه.

اللهم اعف عنا وسامحنا، وارزقنا مثل هذه القلوب الكبيرة؛ حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا.

توبوا إلى الله واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الأخرى:

اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولكم الحمد على حمدنا إياك، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 أما بعد، فاتقوا الله وأطيعوه.

عاش ابن تيمية –رحمه الله- يحمل نفسًا متسامحة، عزيزة كريمة، لا تتشفى من مؤمن، ولا تسعى إلى انتقام، ولذلك كان يشعر بالطمأنينة والسعادة، وقد وضع شيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة للتسامح في حياته السلوكية والعملية، تتلخص هذه القاعدة في قوله: (أحللت كل مسلم عن إيذائه لي) وتفصيلها ما جاء في مجموع الفتاوى قال: (فَلَا أُحِبُّ أَنْ يُنْتَصَرَ مِنْ أَحَدٍ بِسَبَبِ كَذِبِهِ عَلَيَّ أَوْ ظُلْمِهِ وَعُدْوَانِهِ؛ فَإِنِّي قَدْ أَحْلَلْت كُلَّ مُسْلِمٍ، وَأَنَا أُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ، وَأُرِيدُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْخَيْرِ مَا أُحِبُّهُ لِنَفْسِي، وَاَلَّذِينَ كَذَبُوا وَظَلَمُوا فَهُمْ فِي حِلٍّ مِنْ جِهَتِي) [مجموع الفتاوى: 28/ 55] .

وقد كان هذا المنهج في حياة الشيخ عملاً يتمثله، حتى قال تلميذه ابن القيم -رحمه الله-: (وما رأيت أحدًا قط أجمع لهذه الخصال – يعني خصال الفتوة- من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه. وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم. وجئت يومًا مبشِّرًا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا الكلام، فسُرُّوا به، ودَعوا له، وعظّموا هذه الحال منه. فرحمه الله ورضي عنه) [مدارج السالكين جـ2/345].

سبحان الله، أية نفس تلك التي تتمكن من عدوها الذي أراد بها الهلاك فتسامحها، يقول ابن تيمية: (وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها، وإقامة كل خير، وابن مخلوف [يعني أحد مناوئيه من علماء عصره]، لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله له، ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هذه نيتي وعزيمتي، مع علمي بجميع الأمور فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين، ولن أكون عونًا للشيطان على إخواني المسلمين) [مجموع الفتاوى 3/271].

إن التسامح عندما يستحكم في النفس تعتاد الإحسان في كل الأمور، في العبادات والمعاملات، في صغائر الأمور وعظائمها، فيحسن المرء في عبادة ربه، ومعاملة خلق الله، فيحسن إلى الوالدين، والزوجة والبنات، والإخوة والأخوات، والجيران والأصدقاء، بل قد يصل به الإحسان إلى مَن يبغضه، فيقابل إساءته بالإحسان، ويمتد الإحسان ليشمل الحيوان والنبات فـ(في كل ذات كبد رطبة أجر) [صحيح البخاري: 2466]، وهذه مرتبة عظيمة في دين الله. نسأل الله أن يرزقنا التسامح والإحسان في أعمالنا وأخلاقنا، والإخلاصَ في الأقوال والأعمال، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.

إنها مدرسة التسامح، والحب، والسلام، مدرسة محمد – صلى الله عليه وسلم- ، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك  ومنّك يا أكرم الأكرمين، وارض اللهم عن آله الطاهرين، وصحابته أجمعين، وعنا معهم برحمتك إلى يوم الدين.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة التي تذكّرهم إذا نسوا، وتعينهم إذا ذكروا، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسر المأسورين، واقضِ الدين عن المدينين، واهد ضال المسلمين، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

(المصدر الأساس لهذه الخطبة من: (النفس المتسامحة.. عطاء بلا حدود للأستاذ عبد العزيز مصطفى الشامي)



اترك تعليقاً