الهجرة .. دروس وعِبَر

الهجرة .. دروس وعِبَر

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد

فيا عباد الله أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، امتثالا لأمر الله جل وعلا في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

أيها الأحبة في الله، في مطلع كل عام هجري تُطل علينا ذكرى الهجرة النبوية المباركة، ذلك الحدثُ المبارك الذي اختاره الفاروق عمر بن الخطاب t من بين الأحداث النبوية الكبرى؛ ليكون بدءًا لتأريخ الأمة الإسلامية، وذلك حين جمع الصحابة في السنة الثالثة من خلافته وقال لهم: إن الأموال قد كثرت، وما قسمنا منها غيرُ موقت، فكيف التوصلُ إلى ما يضبط ذلك؟ لقد رُفع إليَّ صكٌ موعده شعبان، فلا أدري أيَّ شعبان هو؟ آلذي مضى؟ أم الذي نحن فيه؟ أم الآتي؟ ضعوا للناس شيئا يعرفون به..

فأدلى بعض الحاضرين بآرائهم، فمن قائل: اكتبوا على تاريخ الروم، وقائل اكتبوا على تأريخ الفرس، فأبى عمر، t إلا أن يجعل تأريخ الإسلام متميزًا، وإشارة إلى حدث إسلامي كبير.. فالإسلام ليس تابعا لأية أمة أخرى من الأمم، ولا ضيفا صفيقَ الوجه على أية ثقافة أخرى وحاشاه وهو الدين الخاتم الأعظم الذي لن يُقبل دينٌ غيره عند الله تعالى بعد أن جاء، فلتكن له شخصيتُه التأريخيةُ المتميزة.

لقد أشار بعض الصحابة بأن يجعلوا مبدأ تأريخ الأمة الإسلامية مولد الرسول r، وأشار بعضُهم بأن يجعلوه وفاته، ولكن عليًّا t صاحبَ الرأي الثاقب والبصيرة المتوقدة، ربيبَ بيتِ النبوة، وأحدَ أهمِّ شخصيات الهجرة، ووزيرَ الفاروق ومستشارَه الخاص أشار أن يؤرخ من هجرته إلى المدينة، لظهوره لكل أحد، فإنه أظهرُ من المولِد، والمبعَث، فاستحسن عمرُ ذلك والصحابة، أي يومَ هجرته، ذلك لأن الهجرة هي أبرزُ حدثٍ في الإسلام كان له الأثرُ الأكبرُ في ظهوره على الدين كله، يؤرخُ به المسلمون أيامَهم وسنيَّهم، وكأنه يريد t أن يبقى في الخواطر المؤمنة ينبوعًا نقيًّا صافيًا رقراقًا، غزيرَ العطاء، متجددَ النفع، كلما استدار عامٌ ذكره المسلمون، ليستلهموا من سيرة صاحبه ضياءَ حياتِهم، وسبيلَ عزتهم.

وإذا كانت الهجرة قد حدثت في شهر ربيعٍ الأول، فإن عثمان t رأى أن تبدأ السنة بالمحرم؛ لأنه أولُ أشهر السنة العربية، ويوافق ذلك اليومَ السادسَ عشرَ من شهر يوليه تموز من عام ستمئة واثنتين وعشرين لميلاد المسيح عيسى عليه السلام.

لقد انصرف الصحابة عن الرأي القائل بمولد الرسول r على جلالة قدره؛ لئلا ينصرف الناس إلى ذات الرسول وشخصه عن هديه ورسالته، فلقد أرخ النصارى بمولد المسيح حتى ألهوه.

وانصرفوا عن التأريخ بالبعثة على عظم حدثها، لأن أثرها الحقيقي لم يظهر أمره إلا بعد الهجرة، ولم يكن للإسلام كيان إلا في المدينة. وكل المعارك الكبرى التي بدت أياما فاصلة في تاريخ الإسلام كبدر وفتح مكة كانت من ثمرات الهجرة.

 

أيها الأحبة في الله.. يا أتباع أعظم مهاجر في تاريخ البشرية.. ليست الهجرة قصة تروى للسمار، ولا مغامرةً تأخذُ بعقول الصغار، ولكنها تمثلُ الحدثَ الأعظم، الذي جعل للإسلام وطنًا آمنًا ومجتمعًا متعاونًا وسط صحراء تموج بالكفر والجهال آنذاك.

وسبقتها وتبعتها هجرات متتابعة وتضحيات عظيمة من الصحابة الكرام الذي كانوا مع نبيهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مكة، حيث تركوا الأرض والمال والأهل في سبيل العقيدة وحريتها، والدفاعِ عنها، وقوبلت بتضحيات صادقة من الأنصار، لا مثيل لها في تاريخ الإنسانية، خلده المولى عزّ وجل في كتابه العظيم فقال أعزُّ قائل: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

ولست بقادر على استحضار كل تفاصيل هذا الحدث المتشعب، المليء بالدروس والعبر، الذي خصص له العلماء والمؤرخون كتبًا كاملة، ولكني سأبدأ من حيث روت أم المؤمنين عائشة t: التي قالت: كان لا يخطئ رسول الله r أن يأتي بيتَ أبي بكر أحد طرفي النهار: إما بكرةً، وإما عشيًّا، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله في الهجرة وخروجه من مكة من بين ظهراني قومه، أتانا رسول الله r بالهجرة في ساعة كان لا يأتي فيها. قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله r في هذه الساعة إلى لأمر حدث. فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله r وليس عند رسول الله أحدٌ إلا أنا وأختي أسماء، فقال رسول الله r: أخرج عني من عندك، قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي. وما ذاك – فداك أبي وأمي -؟

قال: إن الله أذنَ لي بالخروج والهجرة. فقال أبو بكر: الصحبةُ يا رسول الله؟ قال: الصحبة.

قالت عائشة: فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي!! ثم قال: يا نبي الله إن هاتين الراحلتين كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أريقط – وهو مشرك – يدلهما على الطريق. ودفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.. وقد نظر الرسول r إلى الكفاية والخبرة في هذا الرجل ليستعين به وينتفع بموهبته، وخاصة أنه قد أمِنَ شرَّه.

قال ابن إسحاق: ولم يعلم -فيما بلغني- بخروج رسول الله r أحدٌ حين خرج – يقصد نوى الخروج – إلا عليٌّ وأبو بكر وآلُه. أما عليٌّ فإن رسول الله r أمره أن يتخلف حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. وكان رسول الله r؛ ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته.. مع أنهم كانوا يحاربونه في دينه..!!

 

وفي تلك الأثناء عزم الكفار على قتل الرسول r في فراشه بضربة واحدة من عدد من فتيان مجموعة من القبائل ليتفرق دمه بينهم، فوضع الرسول r خطته المشهورة، بأن تخير عليا t ليبيت في فراشه، ويخرج من بينهم برعاية الله، ثم يتجهون إلى غارٍ في جبل ثور؛ ويقعُ جنوبًا من جهة اليمن ليضللوا الطالبين، وتقوم أسماءُ بجلب الغذاء، وأخوها عبدُالله بتتبع الأخبار، والراعي عامرُ بن فُهَيْرة مولى أبي بكر t بمحو آثارهما بأظلاف الأغنام. وتلك هي الحَيطةُ البالغة التي تفرضها الضرورات، والأسباب التي يأخذ بها أهل الإيمان، مع توكلهم الدائم على الله تعالى.

وسارت الأمور كما توقعا، وانطلق المشركون بعد أن رأوا التراب على رؤوس شبابهم الواقفين على باب محمد r، وشعروا بالخيبة حين اكتشفوا أن النائم عليٌّ وليس مطلوبَهم، فانطلقوا يتتبعون الأثر، ويرصدون الطرق، وينقبون في جبال مكة ووهادها وكهوفها، حتى وصلوا قريبا من غار ثور، وأنصت الرسول r وصاحبُه إلى أقدام المطاردين تخفقُ إلى جوارهم، فأخذ الروعُ أبا بكر، وهمسَ يُحدِّثُ الرسول r: “لو أنَّ أحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، قالَ: ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا”. [رواه البخاري].

إن الله تعالى هو الحافظ وحده لا شريك له، تجاوز المشركون كل الوسائل التي وضعها الرسول r وصاحبُه، ونجحوا في تخطي كل الاحتياطات، لكنهم وقفوا عاجزين أمام إرادة الله تعالى. {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ} [المدثر:31]، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} [التوبة: 40].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الأخرى :

الحمد لله أعز دينه، وخذل عدوه، وأقام عدله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد.

فاتقوا الله عباد الله، ولنقطف من سيرة حبيبنا – صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه أينع الثمرات وأنضرها، فقد كان من أول المهاجرين أبو سلمةَ وزوجُه وابنُه رضي الله عنهم وأرضاهم، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسُك غلبتَنا عليها، أرأيتَ صاحبتَنا هذه؟ علام نتركُك تسير بها في البلاد؟ وأخذوا منه زوجتَه. فغضبُ آلُ أبي سلمةَ لرجلِهم، وقالوا لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم، فخلعوا يده وذهبوا به وأمُّه تنظرُ إليه، وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة، فكانت أم سلمة ـ بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها ـ تخرجُ كلَّ غداة بالأبطح، تبكي حتى تمسي نحو سنة، فرقَّ لها أحدُ ذويها وقال: ألا تُخرجون هذه المسكينة؟ فرَّقتُم بينها وبين زوجها وولدها؟ فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئتِ، فاسترجعتْ ابنَها سلمة من عصبتها، ووضعتْه في حجرها، وهاجرت إلى المدينة وحدها ما معها أحد من خلق الله، حتى لقيت أحد الصحابة فصحبها من التنعيم إلى المدينة ثم رجع عنها إلى مكة، فما أعظم هذا الإيمان الذي خالط قلبها فسكب فيه الطمأنينة فاستسهلت به مشاق الطريق، وظلمة الصحراء، وبعد المسافة.

ولما أراد (صهيب بن سنان) رضي الله عنه الهجرة قال له كفار قريش: أتيْتَنا صُعْلوكًا حقيرًا، فكثُرَ مالُكَ عندنا، وبلغْتَ الذي بلغْتَ، ثُمَّ تريدُ أنْ تخرجَ بمالِكَ ونفسِكَ، واللهِ لا يكونُ ذلِكَ، فقال لهم صهيبٌ: أرأيتم إِنْ جعلْتُ لكم مالي أتُخلُّون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإِنَّي قَدْ جعلْتُ لكم مالي. فبلغ ذلِكَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: ربِحَ صهيبٌ. [حيث صحيح].

لقد انتهت الهجرة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا هجرة بعد الفتح”، أي لا هجرة جسدية من مكة إلى المدينة، لأن مكة صارت دارَ إسلام وسوف تبقى كذلك إلى قيام الساعة بإذن الله تعالى، ولكن الهجرة مستمرة، لا من أرض إلى أرض، بل هجرة من الجهل إلى العلم، وهجرةٌ من الغفلة إلى الذكرى، وهجرةٌ من البعد عن الله تعالى إلى الصلة به سبحانه، هجرةٌ من البخل إلى البذل والعطاء، وهجرة من حياة اللغو والعبث إلى حياة الهمة والعزيمة، هجرة من الرذائل إلى الفضائل، ومن الشر إلى الخير، ومن البطالة إلى العمل.

 

فهل استشعر كل منا هذا الدرس في نفسه وولده وأهله؟

ما أحوجنا – أيها المؤمنون ـ إلى كل درس من دروس سيرة سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله الذي أمرنا الله جل وعلا بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنو ا صلوا عليه وسلموا تسليما} اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، أخص منهم الخلفاء الراشدين المهديين من بعده؛ أبا بكر الذي صحبه في هجرته، وعمرَ الذي جعلها منطلقًا لتاريخنا الإسلامي المجيد، وعثمانَ الذي رأى أن يبدأ التاريخ بمحرم، وعليًّا الذي ضحى بنفسه يومها، رضي الله عنهم وعن بقية الآل والصحب وأرضاهم، وجمعنا بهم في مستقر رحمته.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين على ثغور بلادنا، وفي جميع ثغور المسلمين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيد بالحق إمامنا خادم الحرمين الشريفين، ووليَّ عهده، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، يا ربَّ العالمين.

اللهم اجعل عامَنا هذا عام خير وبركة وصلاح وأمان للبلاد والعباد، اللهم وفقنا فيه لما ترضى، وجنبنا فيه الفتن ما ظهر منها وما بطن، واجمع اللهم فيه كلمة المسلمين على الحق المبين.

 

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً