الخطبة الأولى:
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مقدّر الأقدار، ومصرّف الأمور على ما يشاء ويختار، ومكور الليل على النهار، الواحد الأحد، الفرد الصمد، العليم الحكيم، الذي أيقظ مِنْ خلْقِه من اصطفاه، فأدخله في جملة الأخيار، ووفّق من اختار من عبيده فجعله من الأبرار، وبصَّر مَن أحبه للحقائق فزهدوا في هذه الدار، واجتهدوا في مرضاته والتأهب لدار القرار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأبرار.
وبعد فإن من أعظم الوصايا الربانية التي بها فلاح الإنسان تقوى الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن تقوى الله: طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، ذلك هو ما يجعل بيننا وبين عذاب الله وقاية، ويجعلنا في حصن حصين من نارٍ تلظى، للكافرين فيها زفير وشهيق.
عباد الله:
لا شيء أفسد للقلب من التعلق بالدنيا والركون إليها؛ فإن متاعها قليل، والبقاء فيها مستحيل، ومنادي الموت ينادي كل يوم: يا عباد الله الرحيل.. الرحيل.
وإن التطلع إلى الدنيا يقعد بالمؤمن عن التطلع إلى الآخرة والعمل لها، وهيهات لقلب فاسد مريض أن يقوى على العبادة الحقة، والدعوة التي تحتاج إلى صبر ومصابرة.
يقول من خلق هذه الدنيا وفطرها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5].
وإذا تُركت النفس وشأنها زاد تعلقها بالدنيا، وزاد التصاقها بها؛ حتى تصبح هي كلَّ غايتها، ومنتهى أملها، ومبلغ علمها، قال الله جل وعلا: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 29-30].
ولكي نتقي شر هذه الدنيا المتقلبة، دعونا أيها الأخوة في الله نستمع إلى من خبرها وعرفها معرفة حقة من أهل التقى والصلاح؛ لنزداد معرفة بها:
يقول الفضيل بن عياض: “الدخول في الدنيا هيّن، ولكن الخروج منها هو الشديد”، إذن ربما تستدرج الدنيا أحدنا حتى يقع في أحضانها، فيكون أحد المدمنين؛ الذي يعجزون عن التخلص من شباكها.
وقال آخر: “عجبًا لمن عرف أن الموت حق.. كيف يفرح؟! وعجبًا لمن عرف النار وأنها حق.. كيف يضحك؟! وعجبًا لمن رأى تقلب الدنيا بأهلها.. كيف يطمئن إليها؟! وعجبًا لمن يعلم أن القدر حق.. كيف ينصب”؟!
قال مالك بن دينار: “اصطلحنا على حب الدنيا، فلا يأمر بعضنا بعضًا، ولا ينهى بعضنا بعضًا، ولا يدعنا الله على هذا، فليت شعري أيَّ عذاب الله ينزل علينا؟!”.
وقيل لبشر: “مات فلان، فقال: جمع الدنيا وذهب إلى الآخرة، وضيّع نفسه”.
أرى طالب الدنيا وإن طال عمره
|
|
ونال من الدنيا سرورًا وأنعما
|
كبانٍ بنى بنيانه فأقامه
|
|
فلما استوى ما قد بناه تهدما
|
وقال آخر -يعظ أخًا له في الله ويخوفه بالله-: “يا أخي إن الدنيا دَحَضٌ مَزَلَّة، ودار مذلة، عمرانها إلى الخراب صائر، وعامرها إلى القبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار، فافزع إلى الله، وارض برزق الله، لا تتسلف من دار فنائك إلى دار بقائك، فإن عيشك في الدنيا فيءٌ زائل، وجدار مائل، أكثر من عملك وأقلل من أملك”.
وقال يحيى بن معاذ: “العقلاء ثلاثة: من ترك الدنيا قبل أن تَتْرُكَهُ، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه”.
وقال بُنْدار: “إذا رأيت أبناء الدنيا يتكلمون بالزهد فاعلم أنهم في سخرية إبليس”.
وذكر أناسٌ الدنيا، وأقبلوا على ذمها عند رابعة العدوية، فقالت: “اسكتوا عن ذكرها، فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها، إن من أحب شيئًا أكثر من ذكره”.
وقيل لإبراهيم بن أدهم كيف أنت؟ فقال:
نُرقِع دنيانا بتمزيق ديننا
|
|
فلا ديننا يبقى ولا ما نُرقع
|
فطوبى لعبد آثر الله وحده
|
|
وجاد بدنياه لما يتوقع
|
وقال لقمان لابنه: “يا بني! بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعًا، ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرها جميعًا”.
قال عبدالله بن مسعود: “اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم على حصير فأثَّر في جلده، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، لو كنت آذنتنا ففرشنا لك عليه شيئًا يقيك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أنا والدنيا، إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها” رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
وبعدُ: فما العلاج لمن يرى نفسه أنه منغمس في الدنيا بعيد عن الآخرة؟
العلاج هو تخليص القلب من أسرها، ومن أسباب زيادة شأنها في نفسه، وتصحيح النية في جميع الأمور المتعلقة بها، كالوظيفة، والتجارة، والصناعة، ونحوها.
وأن يجعل زوال الدنيا نُصب عينيه، ويتيقن لقاء الآخرة وبقاءها، وما فيها من النعيم المقيم، ويتدبر قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 18 – 19].
وقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].
وأن يسخّرها في طاعة الله تعالى؛ كما فعل أغنياء الصحابة رضي اللهم عنهم؛ نصرةً لدين الله عز وجل، وإطعامًا وبذلاً في سبيل الله، وإعمارًا لبيوت الله، وإسهامًا في كل وجوه الخير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله واعظ القلوب المؤمنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير من عبد الله على بصيرة.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، تقوى الله التي ما جاورت قلبًا إلا وصلته بقيوم السموات والأرض، وباعدت بينه وبين الذنوب والمعاصي والنيران ما شاء الله لها ذلك.
عباد الله.. مضى رجال من هذه الأمة، كانوا يخشون ربهم خشية العارفين الموقنين، لذلك كانت أقوالهم وأفعالهم موزونة بما للشرع من موازين، كانوا يزنون كلامهم قبل أن يتلفظوا به؛ لأنهم يوقنون بقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
كانوا إذا أظلم الليل يقفون في محاريبهم باكين متضرعين، لهم أنين كأنين المرضى، ولهم حنين كحنين الثكلى، إذا مروا بأية من كتاب الله جعلوا يرددونها بقلب حزين، وصوت خاشع، تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، فيا أسفا على من ضعُفت تلك الخشية في قلبه، وأعقبتها قسوة أذهلت العباد عن طاعة الله، فصاروا يأتون ما يأتون، ويدعون ما يدعون، دون سؤال عن سخط الله ورضاه، وغدت جوارحهم مطلقةً فيما يُغضب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، العين والأذن، واليد والقدم، واللسان والبنان، والبطن والفرج.
أين هؤلاء الضائعون في متاهات الذنوب، من قوم يقومون إذا نام الناس في وقت التجلي الأعظم، يناجون ربهم راغبين في رضوان الغفور الرحيم، خائفين من سطوة الجبار المنتقم، متفكرين في سرعة انقضاء الآجال، موقنين أنهم محاسبون على أصغر الأعمال وأدنى الأقوال، في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، مكلفون بواجبات العبودية التي لم يقوموا إلا بالقليل منها وهم عنها مسئولون، وعلى ما قدموه من خير أو شر قادمون، والسعيد من حاسب نفسه قبل أن يحاسب.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الصالحين المجاهدين في كل مكان.
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا، وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لطاعتك، وامتثال أمرك، اللهم نوّر قلوبنا بنور الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، ووفقنا لعمل الصالحات واجتناب السيئات، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتطبيق شرعك كما تحب وترضى، والاهتداء بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، واجعلهم سندًا للإسلام والمسلمين، حربة في صدور أعداء الدين.
اللهم أيد ولاة أمرنا بالحق، وأيد الحق بهم، ووفّقهم لإصلاح بلادهم ورعاياهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم، ولمن لهم حق علينا من المسلمين، وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية الصحابة والتابعين، وعنا معهم بعفوك ورضاك يا أرحم الراحمين.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.