الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بيده الحكم وهو أسرع الحاسبين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد.. فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
هناك سؤال قد يتبادر إلى الذهن؛ تأملاً وطلبًا للعلم، أو وسوسةً من الشيطان الرجيم: إلى أين مصيري؟
أإلى الجنة أم إلى النار؟
وبطريقة أخرى: هل أرجو الله تعالى فيكون أملي منصبًّا على دخول الجنة، حتى أظن بأنني من أهلها؟ أم أظل متخوفًا من النار حتى كأنها خُلقت لمثلي؟ عياذًا بالله منها ومن قربها؟
الرجاء أم الخوف؟
في صحيح البخاري عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ، فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ، فَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الْآيَةَ».
وأخرج الحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل أهل النار يرى مقعده من الجنة، فيقول: لو أن الله هداني، فيكون عليهم حسرة. وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار، فيقول: لولا أن الله هداني. قال: فيكون له شكرًا».
وهما دليلان في سياق الآيات القرآنية الكثيرة الدالة على أن الاختيار البشري الذي يجري تحت مشيئة الرب جل وعلا هو الذي سيأخذ بيد الإنسان إلى الجنة أو النار، يقول الله جل وعلا: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي الطريقين: طريق الله المستقيم، وطريق الشيطان، {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19].
فالمسلم يختار الخير لنفسه، ويحثّ خطواته إلى الجنة في كل لحظة من لحظات حياته، مبتعدًا بذلك عن النار، راجيًا من الله حسن الختام.
والمختار للعبد في حال صحته أن يكون خائفًا راجيًا، ويكون خوفه ورجاؤه سواء، وفي حال المرض والشدة يمحّض الرجاء، ففي الصحيحين أن رب العزة سبحانه يقول في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما يشاء». وهو حديث جليل القدر؛ لأنه من الله القادر الرحيم، فمن أحسن الظن بربه فلينتظر منه خيرًا وهو أرحم بالعبد من والديه، ومن ظن بالله سوءًا فلينتظر منه ما ظن فيه، ولا يعني ذلك أن يفعل الإنسان ما يشاء من الأعمال التي يمليها عليه الهوى والرغبات والنفس الأمارة بالسوء، ثم يقول: إنني أظن بربي خيرًا، فإن قواعد الشرع من نصوص الكتاب والسنة وغير ذلك متظاهرة على أن الإنسان له ما كسب من الحسنات بل تضاعف بإذن ربه، وعليه ما اكتسب من الآثام دون مضاعفة، بل تغفر بالمكفرات بإذن ربه، وبجناحي الرجاء والخوف يطير قلب المؤمن إلى الله تعالى، قال الله تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف: 99]. ويقول سبحانه: {إِنَّهُ لا يَيْأسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87]، وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) [القارعة: 6-9]. والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا. فيجتمع الخوف والرجاء في آيتين مقترنتين أو آيات أو آية، قال بعض العلماء: إذا كان في طاعة؛ فليغلب الرجاء، وأن الله يقبل منه، وإذا فعَل المعصية؛ فليغلب الخوف؛ لئلا يُقدم على المعصية، أو يستسهلها، فيكون قد استهان بقدر من عصاه جل وعلا، فيقع في محذور أعظم من المعصية ذاتها، والندم على المعصية جزء من التوبة منها.
والإنسان ينبغي له أن يكون طبيب نفسه، إذا رأى من نفسه أنه أمِن من مكر الله، وأنه مقيم على معصية الله، ومتمنٍ على الله الأماني، فليعدِل عن هذه الطريق، وليسلك طريق الخوف، وإذا رأى أن فيه وسوسة، وأنه يخاف بلا موجب؛ فليعدل عن هذا الطريق وليغلّب جانب الرجاء حتى يستوي خوفه ورجاؤه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع في الجنة أحد، و لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من الجنة أحد»، والمراد لو يعلم علم حقيقة وعلم كيفية؟ لا، أن المراد لو يعلم علم نظر وخبر؛ فإن المؤمن يعلم ما عند الله من العذاب لأهل الكفر والضلال، لكن حقيقة هذا لا تُدرك الآن، لا يدركها إلا من وقع في ذلك أعاذنا الله وإياكم من عذابه.كما ذكر ذلك الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى.
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك»؛ لأن الجنة ربما تحصل للإنسان بشق تمرة يقبلها الله منه، أو بكلمة صالحة يرفعها الله إليه، والنار مثل ذلك؛ مثل الرجل الذي كان يمر على صاحب معصية فينهاه ويزجره، ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه: «أَنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَ: أن رجلاً قال: واللهِ، لا يَغْفِرُ الله لِفُلان، وأَنَّ الله تعالى قال: مَن ذَا الذي يَتَأَلَّى عليَّ أن لا أغْفِرَ لِفُلان؟ فَإِني قد غفرتُ له، وأَحبَطتُ عمَلَكَ». قال أبو هريرة رضي الله عنه: «لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته». نسأل الله السلامة والعافية.
وصدق الله جل جلاله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167].
توبوا إلى الله واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الأخرى:
الحمد لله {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3]، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أول داخل إلى جنات النعيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.. أما بعد:
فإن المؤمن الموحد المحسن، حبّه لله تعالى مقرون بالإجلال والتعظيم، إنه حب المملوك لمالكه، حب العبد لسيده، حب المخلوق المفتقر لله الواحد القهار. ولذلك فإن المحبين الصادقين يتنعمون في مقام المحبة، وفي مقام موزون بين الرجاء والخوف؛ فرجاؤهم معلّق برحمة الله تعالى ولا يخافون إلا الله، بل هم أشد الناس خوفًا من الله تعالى، وقد جمع الله تعالى أركان هذا المقام الإيماني الإحساني الرفيع في وصفه للملائكة المقربين والأنبياء المرسلين والصالحين العابدين، فقال جل جلاله: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }[الإسراء: 57]؛ لكي يبقى المسلم مطمئنًا ومتيقظًا، يحدوه الأمل والرجاء في رحمة الله ومغفرته، وهو كذلك يخشى ويخاف من الله سبحانه، وهذا هو المنهج الوسط العدل.
فالرجاء منزلة عظيمة من منازل العبودية وهي عبادة قلبية تتضمن ذلاً وخضوعًا، أصلها المعرفة بجود الله وكرمه وعفوه وحلمه، ولازمها الأخذ بأسباب الوصول إلى مرضاته، فهو حسن ظن مع عمل وتوبة وندم، والخوف كذلك منزلة عظيمة من منازل العبودية وهو من عبادات القلوب التي لا تكون إلا لله سبحانه، وصرفها لغيره شرك أكبر؛ إذ إنه من تمام الاعتراف بملكه وسلطانه، ونفاذ مشيئته في خلقه.
أيها المسلم المؤمن.. إليك طرفًا من الأسباب الباعثة على الخوف من الله والرجاء له جل جلاله: أول تلك الأسباب -وهو الجامع لكل ما يليه-: تدبر كلام الله تعالى وقد بيّن الله سبحانه هذا المنهج القويم حينما ذكر مجموعة من صفاته فقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الحجر: 49]، ثم ذكر في المقابل {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} [الحجر: 49].
ومن الأسباب الباعثة على الخوف من الله والرجاء له سبحانه: تحقيق الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، فهو الحليم والغفور والغفار، والعفو والتواب والكريم، كما أن من أسمائه جل جلاله: القوي، والمتين، والقادر، والمقتدر، والقدير، والقاهر، والقهار، والعزيز والجبار والعليم.
وهذه الأسماء وغيرها تدعو المسلم أن يكون خائفًا عالمًا باطلاع بارئه عليه ومراقبته له، راجيًا ما عنده سبحانه إن هو أطاعه وتقرب إليه وإن هو تاب وأناب إليه.
في الصحيحين أن الله سبحانه عذَّب امرأة حبست هرة فلم تطعمها، وتجاوز عن امرأة زانية بغي سقت كلبًا رحمةً به، وفي صحيح مسلم أن الله تعالى جعل لأبي طالب نعلين من نار في جهنم يغلي منهما دماغه، وهذا أهون عذاب أهل النار نعوذ بالله منها، وجعل لبلال رضي الله عنه نعلين يمشي بهما في الجنة جزاء عمله الصالح.
ومن الأسباب الباعثة على الخوف من الله والرجاء له سبحانه: التفكر في أمر الذنوب والمعاصي، وخاصة الكبائر منها، فمن تاب وأناب فربنا جل جلاله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها».
لكن من أصر على المعاصي وخاصة الكبائر منها فقد توعده الله بالعذاب، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آكل الربا: «لعن الله آكل الربا وموكله»، وأخرج أبو داود وصححه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شارب الخمر: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه».
وقال صلى الله عليه وسلم في تصديق الكاهن والمنجم: قال: “من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد” رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
أيها المسلم الكريم: إن الخوف والرجاء كجناحي الطائر، كما ذكر أهل العلم، متعاضدان مقترنان، فالمسلم يرجو ما عند الله ولكن يخافه ويخشاه. قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء90]. اللهم اجعلنا ووالدينا والمسلمين منهم.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، واحم المسجد الأقصى الشريف من أيدي أعدائه، وكن عونًا لأهله على طرد البغاة المعتدين من أكنافه، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، واحقن دماء إخوتنا في سوريا واليمن وليبيا والصومال وأفغانستان والعراق والأحواز وفي كل مكان، اللهم كن لهم ناصرًا ومعينًا يا رب العالمين، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، وألّف ذات بينهم، اللهم أغث إخوتنا في الصومال، وسد جوعتهم، واحمل حفاتهم، واكسُ عاريهم.
اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وبارك لنا في دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، وارزقه البطانة الصالحة التي تعينه على الخير وتدله عليه، واجعله حربًا على أعدائك، سلمًا لأوليائك، ووفقه إلى ما تحبه وترضاه، إنك جواد كريم.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم على الخلفاء الأربعة الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن بقية الآل والصحب أجمعين.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.