تجديد الهمة والقيام والاعتكاف في رمضان

الخطبة الأولى:

الحمد لله منَّ على عباده بمواسم الطاعات، وأكرمهم بجزيل الحسنات، ووعدهم رضوانه وروضات الجنات، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا..

أما بعد: فأوصيكم – عباد الله – ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وإن مما يكسب التقوى في القلب: إتمام الصوم كما شرع الله، الذي تعد التقوى مقصوده الأعظم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

أخي الصائم: ها قد تصرم الشهر منا، وذهب ثلثاه، وحين نحاسب أنفسنا عما فعلنا فيه سنجد أننا لم نقم إلا بقليل من كثير مما كنا نحدث أنفسنا بعمله والقيام به.

فلقد أخذت الراحة منا كل ما تشاء من الزمن، وأخذت ملذات الدنيا كل رغباتها المباحة.. وربما غير المباحة.. نسأل الله المغفرة، وأهدينا الأحاديث الودية والتسليات كل الساعات التي اختارتها بعناية من نهار أو ليل، ولكن الآخرة لم تأخذ إلا قليلاً من حقها، ومع ذلك فربما داهم الإعجاب قلوبنا بما صنعنا حتى ليخشى على أعمالنا من ذهاب أجرها؛ بسبب ذلك لا حرمنا الله وإياكم من كل بر.

وتكبر الأسئلة.. وتتشعب.. ويبكي التقي حينئذ ويبكي قلبه قبل عينيه.. ترى هل قرأت من القرآن ما كنت أريد؟ هل تصدقت بالقدر الذي كنت أحبه لنفسي من الأجر؟ هل أدركت كل الصلوات فرائض ونوافل، ولم تفتني تكبيرة مع الإمام كما عاهدت نفسي أول الشهر؟ هل أعنت محتاجًا، وفرّجت كربة، وبادرت بالمشاركة في مشروعات الخير؟ لماذا كنت نشيطًا أول الشهر ثم خفَّ نشاطي، حتى قل عملي.. حتى وجدتني في منتصف الشهر غيري أوله؟!

إن هذه – أخي المسلم – طبيعة النفس التي تمل إن لم تُذَكَّر بالثواب المذخور لها عند الله { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [النساء: 13]، وطبيعتها إن لم يتحول ما تفعله إلى محبوب من محبوباتها تقدمه لحبيبها الأعظم طوعًا ورغبة.. فتتجدد عزيمتها من أجله كلما خمدت جذوته بسبب مرور الزمن: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [آل عمران: 31]، وطبيعتُها إن لم تصفُ من الأكدار، وتخلص مما يميت نبضاتها، ويمرض عروقها، ويذهب إشراقاتها: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135- 136].

وإن داء الفتور هذا هو الذي يواجهنا بعد رمضان، فنرى أنفسنا نتراجع عن كثير من العبادات التي كنا نعشق أداءها فيه.

ولعل من أسباب ذلك كثرة اللغو الذي حذرنا منه ربنا بامتداح من يعرض عنه، فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } [المؤمنون: 3].

وكثرة الأكل والشرب حتى يصبحا همًّا ورغبة وشراهة، مما يغطّي جوانب من العقل والقلب، ويشغلهما عما هو عزيز وعظيم، وقد قيل: ((البطنة تُذْهِب الفطنة)).

وكثرة النوم الذي هو مظنة الغفلة والتفريط، وما عُرف نجباء البشرية بالغطيط، ولكن بمغالبة النعاس ومصارعته من أجل علم أو عبادة.

وكثرة مخالطة الناس بغير حاجة ولا منفعة، حتى تضيع الهيبة، وتتسرب الأوقات في غير ما فائدة، وتتعالى اللذة بالمخالطة فتغلب لذائذ المناجاة والعبادة.

وكل ذلك له آثاره السلبية على إيمان المؤمن وشفافية نفسه، وطهارة قلبه، ونشاطه للعبادة، ولذلك يبدأ نشيطًا حين يقلل من كل تلك العادات أول الشهر، فإذا اعتاده أيامًا معدودات عاد إلى الإفراط في تلك المباحات، فيحدث الفتور..

وإني لأذكر نفسي وأذكرك -أخي الصائم- بأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل في الدوام على الطاعة التي يطيقها، وقد قررت ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة)) رواه مسلم.

فانظر كيف جعل الرسول صلى الله عليه وسلم لنقص العمل بسبب عذر شرعي دواء ناجعًا وسريعًا وهو قضاء هذا العمل بعد زوال سبب عدم القدرة على أدائه، والنفس إذا اعتادت التفريط بأي سبب من الأسباب استلذته، واستساغته، واعتادته، ولكنها إذا تيقنت أنها ستقضيه حرصت على أدائه في وقته بعون الله.

وعائشة رضي الله عنها، وهي التي كانت تعايش المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي الفقيهة العالمة العاملة هي التي تروي الحديث الآخر: ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل )) متفق عليه.

ومن أجل أن ندفع أنفسنا للمداومة على العمل الصالح نعرض أمامها آثار تلك الاستدامة، ومنها: أنها سبب للنجاة من الشدائد والكربات بإذن الله ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة)) رواه أحمد وصححه الألباني.

وإنها سببٌ لمحو الخطايا والذنوب، كما قال الله تعالى: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [هود: 114]. وإنها سبب لحسن الختام، ووجه ذلك أن المؤمن يصبر على أداء الطاعات كما يصبر عن الوقوع في المحرمات؛ محتسبًا الأجر على الله تعالى، فيقوى قلبه على هذا، وتشتد عزيمته على حب فعل الخيرات، فلا يزال يجاهد نفسه حتى يوفقه الله للثبات على هذا الخير العميم حتى يأتيه اليقين، قال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت: 69].

ومنها: أن من فضل الله على العبد المداوم على طاعة ثم انقطع عنها بعذر شرعي أنه يجزل له العطاء وكأنه فعلها، قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا)) رواه البخاري، قال ابن حجر رحمه الله: ((هذا في حق من كان يعمل طاعة فمُنِعَ منها، وكانت نيته لولا المانع أن يدوم عليها)).

وفي حديث آخر ((ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه)) أخرجه النسائي وأحمد ومالك وغيرهم.

والدوام على الطاعة من سمات المؤمنين الصادقين، يقول الله تعالى: { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]. فالمنافق أضعف قلبًا من أن يحتمل وطأة المداومة وشدة المجاهدة، وأبعد من أن يتلذذ بحلاوتها، أو يشتاق إلى أجرها بعكس المؤمن التقي.

ولكن لتدوم النفس على العمل، فلا بد من عدم الإثقال عليها، ففي الحديث: ((خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا)) متفق عليه، والأخذ بمنهج التدرج في تعويد النفس على العمل.

عباد الله { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، توبوا إلى الله واستغفروه لعلكم ترحمون.


الخطبة الأخرى:

الحمد لله أعز من أطاعه وأذل من عصاه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وهيّئوا نفوسكم لاستقبال العشر الأواخر من رمضان، خير ليالي العام كله، فقد ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان ((إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ شد المئزر)) رواه مسلم.

ولو لم يكن في هذه العشر إلا ليلة القدر لكانت كافية أن تكون رجاء القانتين، وأمنية العباد الصالحين، وأن يتحروها كل ليلة من ليالي العشر، وكأنها هي بعينها، لعلهم يدركوا بإدراكها سعادة عظيمة وأجورًا مضاعفة أضعافًا كثيرة.

عباد الله.. ما أرقّ القلوب المؤمنة حينما تقبل على الله في مثل هذه الليالي العشر، وقد اغتسلت بالصيام خلال النهار، وتهيأت للقيام في الليل، تركت كل ملذاتها لتقف بين يدي الله في خشوع طالما اشتاقت إليه في سائر العام، وراحت تنشد في همس:

ألا يا عين ويحك ساعديني       بطول الدمع في ظُلَم الليالي

لعلك في القيامة أن تفوزي       بفضل الله في تلك العلالي

إنها كلما دبّ الكسل إليها تذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) رواه أحمد وصححه الألباني، وتذكرتْ أقوامًا كانوا يدخلون المسجد للعشاء فما ينصرفون إلا قبيل الفجر.. يركضون للسحور قبل فوات وقته. مؤتمرين بقول الله تعالى: { قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2]، الذي امتدح المؤمنين العاملين، الذين { كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 – 18]. وكان ذلك شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه.

أولئك أقوام كان القيام جزءًا من ليلهم طوال العام لا يستغنى عنه، حتى ورد في صحيح البخاري أن أبا عثمان النهدي نزل ضيفًا على أبي هريرة رضي الله عنه سبعة أيام، فرأى أبا هريرة وزوجه وخادمه يقتسمون الليل أثلاثًا.

يقول أبو سليمان الداراني: ((والله لولا قيام الليل ما أحببت الدنيا، ووالله إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل النهار في لهوهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طربًا بذكر الله، فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه من النعيم إنهم لفي نعيم عظيم)).

ها أنت ذا – يا أخي الحبيب – سمعت ما كان يفعله القوم، فهل اشتهت نفسك نعيمهم، وهل اشتاقت روحك إلى مثل خلوتهم مع ربهم وبارئهم.. لا شك أنك إن شاء الله حدثت نفسك بمثل ذلك، ولكن لتعلم أن نفوسهم خفت إليه حينما خفت طهروها من الذنوب والمعاصي، حينما اشتكى رجل للحسن البصري فقال: يا أبا سعيد: إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ أجابه بكلمتين: قيدتك ذنوبك.

أولئك قوم لا ينامون إلا وقد غرسوا نبتة الأمل في قلوبهم: نية وعزيمة على القيام، فاحتسبوا نومهم كما يحتسبون قيامهم، وما أن يفتحوا للحياة عيونهم من جديد في الثلث الأخير من الليل، حتى يصدحوا بالدعاء فرحين: ((الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره)). ونهضوا نشيطين وتوضئوا وتسوكوا، ولبسوا أحسن الثياب، ثم وقفوا بين يدي خالقهم، يستحضرون نزوله جل وعلا وهو يقول: هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من تائب فأتوب عليه؟! هل من داع فأستجيب له؟! فتفيض عيونهم بالدموع، وقلوبهم بالخشوع، وألسنتهم بالدعوات الخالصة {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64].

إن من يتذوق حلاوة هذه العبادة فلا ينبغي له أن يدعها، قال عبد الله بن قيس رضي الله عنه: دخلت على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقالت: ((يا عبد الله! لا تدع قيام الليل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يدعه)) رواه أبو داود وصححه الألباني.

ما كان يدعه يا أخي المسلم.. فلا تدعه ما استطعت.. ولو ثلاث ركعات تضيء بهن حلكة كل ليلة من ليالي الدهر.. ثم تنام قرير العين بمناجاة حبيبك ومولاك..

ومما يعين على قيام هذه العشر، وإدراك فضل ليلة القدر سنة مؤكدة كانت شبه مهجورة عند أكثر المسلمين، مع ما فيها من فضل عظيم، وهي سنة الاعتكاف، وأجد – ولله الحمد أنها بدأت تحيا- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا)) رواه البخاري.

والاعتكاف يعني اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية طاعة الله، ومجرد المكث بنية التقرب إلى الله دون عمل معين من الصالحات يكفي أن يكون عبادة؛ لأن عمل النوافل من مستحبات الاعتكاف، ولكن لهذا الوقت أهمية خاصة فلا يفوته المعتكف في الحديث الفارغ، والنوم الكثير، والتمتع بلذائذ المأكولات، بل يحرص على استغلال كل دقيقة فيما يزيد موازينه عند مولاه.

ولا شك أن لسنة الاعتكاف أثرًا بالغًا في تربية النفس على طاعة الله، ويكفي فيها ترويض النفس على مجرد المكث في المسجد، وطول الجلوس فيه. حتى لا تستوحش ذلك في سائر العام، بل تأنس بالمسجد، حتى تحب التبكير فيه لأداء الفرائض، والتأخر بعدها للتسبيح والتهليل، بل وانتظار الصلاة التي بعدها، كما ورد في مسلم والموطأ عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: ((أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ)) رواه مسلم.

كما أن المكث في المسجد يعني الانقطاع عن الدنيا ومفاتنها، وفراغ القلب لله تعالى وما والاه.

وما أحوجنا أن ننتزع أنفسنا من قبضة الدنيا ولو لفترة قصيرة؛ كي نرتاح من سلطتها على رقابنا، وتغلغلها في دواخلنا، وتحكمهما في أعصابنا.

كم نحن في حاجة فعلاً إلى الهروب من روابط الدنيا إلى روضات المساجد في اعتكاف نغتسل فيه من أدران المعاصي، وضواغط الحياة، وهموم العيش، لما هو طب لقلوبنا، وراحةٌ لأرواحنا ولأبداننا، لنتعافى من كل أمراضنا بإذن الله، ونعود وقد تبدلت أحوالنا، وانتعشت نفوسنا، وتعرفت لذة التنعم بطاعة الله، لتقبل عليها في كل حال، بعد أن تدربنا على الإكثار من قراءة القرآن والصلاة والذكر والدعاء.

يقول ابن القيم رحمه الله عن حكمة مشروعية الاعتكاف: ((روحه عكوف القلب على الله تعالى فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعدُّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم)).

أخي الصائم القائم..

إن الاعتكاف في رمضان سنة نبوية كريمة، ينبغي أن تدخل مدرستها – تطوعًا لله – ولو يومًا من حياتك؛ لتنهل من معينها النقي ما تجدد به إيمانك، وتقوي به صلتك بخالقك، وتحيي به سنة تكاد تندثر من سنن نبيك صلى الله عليه وسلم. وفقنا الله جميعا لمرضاته، والفوز بجناته.

اللهم كما بلغتنا رمضان فبلغنا العشر الأواخر منه، وبلغنا فيها ليلة القدر الشريفة، وارزقنا فيها العمل الصالح الخالص، وتقبلها منا، واحمنا واحم بلادنا وأمة الإسلام من كل حاقد يريد بها الشر والفتنة.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم وحد صفوفهم، واجمع كلمتهم، وسدد رميهم، ودافع عنهم، وأيدهم بجنود من جندك، ونصر من عندك، وتقبل شهداءهم، اللهم ارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم اهدهم واهد بهم، واجعلهم عزًّا للإسلام والمسلمين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن مدينيهم، واهد ضالهم، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.



اترك تعليقاً