جريمة الرشوة

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته؛ امتثالاً لأمر الله جل وعلا في محكم التنزيل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

أيها الأحبة في الله:

الأمن هو روح المجتمع التي يحيى بها، فإذا فقد فقدت الحياة طعمها، فلم يعد فيها للجمال رياض، ولا للعمل والرزق قيمة، ولا للعلاقات البشرية استقرار. ولذلك قال نبي الله إبراهيم عليه السلام: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126] فالأمن أولاً ثم الرزق.

والأمن ليس محصورًا على سلامة المجتمع من جرائم القتل والسرقة والزنا وأمثالها فقط، ولكنه يشمل سلامة المجتمع من كل الجرائم الظاهرة والخفية مهما كانت صغيرة.

وإن من يدقق النظر في العالم الإسلامي بعد أن وُجّهت له سهام الأرض والفضاء، وحُورب في عقيدته وأخلاقه، ليجد أن سلسلة من الجرائم بدأت تطل برأسها بعد أن كانت قليلة الحدوث مستترة عن العيون، ومن بينها جريمة الانتحار، وجريمة الاغتصاب، وجريمة اللواط، وجريمة شرب الخمور، وجريمة ترويج المخدرات وتعاطيها، وجريمة الرشوة، ولكل من هذه الجرائم وقفات يجب أن يقفها أهل العلم وأهل الحل والعقد، وأكتفي اليوم بواحدة منها، وهي جريمة الرشوة.

هذه الجريمة التي تبيض وتفرخ حين تتيبس العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع؛ حتى لا يخدم أحد أحدًا إلا بمقابل، حين تضعف الصلات الحميمة التي حث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» متفق عليه.

تختبئ بين مكاتب المؤسسات الحياتية التي تتعلق بها مصالح الناس، فتهدد كيان المجتمع، وتضيع الحقوق بين أفراده، وتنشر الفساد فيه، وتزرع بذور الفرقة والخلاف والعداوة والبغضاء بين صفوفه.

وتبدو هذه الجريمة في أثواب زاهية مغرية، تجتذب لها القلوب الضعيفة، فتقبلها أول مرة على أنها هدية من محب ليس لها علاقة بمصلحة، ثم تكبر الهدية وتقترب من المطالب المختزنة مسبقًا، ثم تنهمر الرشوة مصحوبة بطلب صريح من المرتشي الأنيق، الذي اعتاد على هذه الهدايا الأنيقة جدًّا، وسلبت لُبَّه، وارتفعت بمستواه المادي، فأصبح يلبس أفخر الملبوسات، ويركب أفخم السيارات، ويختال بين أقرانه المبهورين بتطوره المادي المفاجئ، الذي لا يتناسب مع دخله العادي الذي يتقاضاه على عمله.

لقد حافظ الإسلام على حقوق الأفراد والجماعات من الضياع بتشريعاته وتوجيهاته، فحرم الكسب الحرام، وحرم مال المسلم، وجعله مثل حرمة دمه وعرضه، «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» رواه البخاري وأحمد.

والرشوة من أكثر الأساليب الملتوية التي يأكل بها بعض الناس أموال بعض، وتضيع بها العدالة بينهم؛ ولذلك حرمها الشرع المطهر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم» وهو حديث صحيح أورده الألباني برقم (5093) في صحيح الجامع.

وخشية أن تضيع معالم الرشوة داخل أسماء براقة يحرص الراشون على إقناع المرتشين الجدد بها؛ مثل: مجرد هدية متواضعة! أو هذه عمولتك؛ وهي ليست عمولة مقررة نظامًا، أو أتعابك؛ وهو يأخذ راتبًا على أتعابه، أو إكراميات، أو بقشيش، أو هذه للفطور، أو على شانك، أو هذه للعيال، وغيرها، فإني أحدد معنى الرشوة المحرمة شرعًا، مما أنقله عن بعض العلماء: «هي دفع المال في مقابل قضاء مصلحة يجب على المسئول عنها قضاؤها بدونه. ويشتد التحريم إن كان الغرض من دفع هذا المال إبطال حق أو إحقاق باطل أو ظلما لأحد».

وفي تعريف ميسر: الرشوة ما يعطيه شخص لشخص آخر من مال أو منفعة أو عقار أو سيارة أو نحو ذلك ليقضي له ضد غيره في قضية ما، أو يحمله على ما يريد، أي يحقق له رغبته ومقصده؛ سواء أكان ذلك حقًّا أم باطلاً. مهما كانت وظيفة هذا الشخص صغيرة أم كبيرة.

فالملعون الأول على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الجريمة النكراء هو: الراشي، وهو الذي يبذل المال أو المنفعة ليقوم له المرتشي بقضاء مصلحة يجب عليه أداؤها، أو يقوم له بمصلحة غير مشروعة، سواء أكانت عملاً أم امتناعًا عن عمل.

والملعون الثاني: هو المرتشي وهو الذي يتقاضى المال ليحقق المنفعة.

والملعون الثالث: هو الرائش وهو الوسيط بينهما؛ وقد ورد في حديث ضعيف، ولكنه يبقى مجرمًا؛ لأنه اشترك في تدبير الجريمة.

وعد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الهدايا التي يأخذها العاملون في الدولة غُلولاً، أي خيانة للأمانة، إذ رُوي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «هدايا العمال غُلول» وهو حديث صحيح برقم 7021 في صحيح الجامع للألباني، ولهذا أنكر قبول بعض العاملين على جباية أموال الزكاة من المصَّدِّقين ما أُهديَ إليه بصفته جابيًا لهذه الأموال، إذ روى أبو حميد الساعدي عن رسولنا صلى الله عليه وسلم: «أما بعد، فما بال العامل نستعمله فيأتينا فيقول: هذا من عملكم وهذا أهدي إليّ، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر هل يهدى له أم لا؟ فو الذي نفس محمد بيده لا يغل أحدكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه؛ إن كان بعيرًا جاء به له رغاء، وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار، وإن كانت شاة جاء بها تَيْعَر فقد بلَّغْت» والحديث صحيح برقم: 1357 في صحيح الجامع للألباني.

ويكفي الرشوة أنها تعطل أمرًا عظيمًا وهو قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} وتحث على مغاضبة الله تعالى وهو ينادينا: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله ولي الحمد وأهله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله تعالى حذر فقال” {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188]. والرشوة من أشد أنواع أكل الأموال بالباطل؛ لأنها دفع المال إلى الغير لقصد إحالته عن الحق.

واللعن من الله هو: الطرد والإبعاد عن مظان رحمته، نعوذ بالله من ذلك، وهو لا يكون إلا في كبيرة، كما أن الرشوة من أنواع السحت المحرم بالقرآن والسنة، فقد ذم الله اليهود وشنع عليهم لأكلهم السحت في قوله سبحانه: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]. قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: قال الحسن وسعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42] هو الرشوة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به» والحديث صحيح برقم: 4519 في صحيح الجامع للألباني. 

وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له»؟!

فلنتق الله أيها الإخوة المسلمون، ولنحذر سخطه، وأسباب غضبه فإنه جل وعلا غيور إذا انتهكت محارمه، ففي الحديث الصحيح: لا أحد أغير من الله. وجنبوا أجسادكم وأجساد أهليكم المال الحرام والأكل الحرام، نجاة بأنفسكم وأهليكم من النار التي جعلها الله أولى بكل لحم نبت من الحرام.

إن في الرشوة ظلمًا للضعفاء وهضمًا لحقوقهم أو إضاعتها أو تأخرًا لحصولها بغير حق، بل من أجل الرشوة، ومن آثارها أيضًا فساد أخلاق من يأخذها من قاضٍ وموظف وغيرهما وانتصاره لهواه، وهضم حق من لم يدفع الرشوة أو إضاعته بالكلية مع ضعف إيمان آخذها وتعرضه لغضب الله وشدة العقوبة في الدنيا والآخرة، فإن الله سبحانه يمهل ولا يغفل، وقد يعاجل الظالم بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» وهو حديث صحيح برقم 5704 في صحيح الجامع للألباني.

ثم صلوا وسلموا على الحبيب محمد بن عبد الله فقد أمركم الله جل وعلا بذلك في كتابه الكريم، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك ورضوانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر كل عدو للإسلام والمسلمين.

اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين وكشمير والفلبين والشيشان، وفي كل مكان، واحم حرمات المسلمين في كل مكان، وارحم ضعفاءهم، وأطعم جائعهم، واكس عاريهم، واحفظ عليهم دينهم وأعراضهم وأموالهم.

اللهم اجعل غدونا إليك مقرونًا بالتوكل عليك، ورواحنا عنك موصولاً بالنجاح منك، اللهم أعذنا من جشع الفقير، وريبة المنافق، وطيشة العجول، وفترة الكسول، وحيلة المستبد، وتهور الغافل، ورقبة الخائف، وطمأنينة المغرور.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. واغفر لنا ولوالدينا ولمن لهم حق علينا من المسلمين، ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



اترك تعليقاً