حادثة عرعر
(قتل الضباط السعوديين)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله وطاعته فقد أمركم بذلك الله جل وعلا فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102].
أيها الإخوة، يومًا بعد يوم تكثر الفتن، وينزع إليها ناس، وينزع عنها آخرون، يقول حذيفة رضي الله تعالى عنه: “عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ كَمَا قَالَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَنَا، قَالَ: إِنَّكَ لَجَرِيءٌ، وَكَيْفَ قَالَ؟ قَالَ: قُلْتُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» فَقَالَ عُمَرُ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، إِنَّمَا أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا لَكَ وَلَهَا، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ: أَفَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ: ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ لَا يُغْلَقَ أَبَدًا، قَالَ: فَقُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: هَلْ كَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ مَنِ الْبَابُ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ، إِنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ، قَالَ: فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ: مَنِ الْبَابُ؟ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: عُمَرُ” (أخرجه الإمام مسلم 144).
وقُتل عمر -رضي الله عنه-، وكُسر الباب، وتتابعت الظلماء، وبلغ منها ما نراه اليوم، ما بين مستحلين لما حرم الله، يجاهرون بمعاصيه بل بكبائره ويدعون إليها، وبين من يغلون في دين الله تعالى، فيهاجموا – باسمه- بلاد الإسلام الآمنة ليزعزعوا أمنها، ويقتلون أنفسًا معصومة استحلوا دماءها، كما حدث مرات عديدة، وآخرها ما وقع في شمال المملكة؛ حيث تسلل مجموعة من الإرهابيين عبر الحدود فتصدى لهم رجال الأمن بارك الله فيهم، وأحبطوا مرادهم، وقتلوهم، قتل عدد من رجال الأمن تقبلهم الله في الشهداء الأبرار هذا ما نرجوهم لهم عند ربنا جل وعلا.
وهكذا يستمر مسلسل الإجرام، باسم الإسلام والإسلام منهم براء.
إن من أهم أهداف المسلم الذي يرجو رضا الله –تعالى- في هذه الحياة هو تعبيد الخلق لله –تعالى-، والأخذ بأيديهم إلى سبيل النجاة في الدنيا والآخرة، فهذا الدينُ مَتينٌ مُحكَم، يجب أن يُوغِل المسلم فيهِ برِفقٍ وتأنٍ وحكمة ورحمة، ولا يُبَغِّض نفسَه ولا دينه للناس، فإنَّ المُنبَتَّ لا أرضًا قطَع، ولا ظهرًا أبقَى؛ إذ ما فائدة أعمال همجية وحشية لا تفرّق بين كبير وصغير، ولا بين رجل أو امرأة، ولا بين مسلم أو مشرك، ولا بين مسالم ومحارب، فإن فاعلها لا هو بالذي إلى دينه دعا، ولا هو بالذي أخذ بأيدي الناس برفق إلى شريعة الرحمة.
ومن تأمل في شريعة الرحمة، يجد أنها تريد سَوْق الناس إلى ربهم برفق ورحمة، ففي يوم خيبر سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عليّ بن أبي طالب، وأَعطَاهُ الرايةَ، فقال عليٌّ: يا رسولَ اللهِ، أُقَاتِلُهُمْ حتى يكونوا مثلَنا؟ فقال: “انْفُذْ على رِسْلِكِ حتى تنزلَ بساحتِهِم، ثمَّ ادعُهُمْ إِلى الإسلامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليْهِم مِنْ حقِّ اللهِ فيه، فواللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بكَ رجلًا واحدًا، خيرٌ لَكَ مِنْ أنْ يَكُونَ لَكَ حمرُ النَّعَمِ” (صحيح البخاري 3701). فكيف بمن يقتل الموحدين، الساهرين على ثغر هو من أعظم ثغور الإسلام، وبلاده.
إن الرفق بالناس يفتح لهم بابًا واسعًا لمعرفة الحق والإقبال عليه، وفي المقابل فإن الغلو والقسوة يولّدان جهلاً وانحرافًا عن الجادة، وكم يُعمي هذا المسلك أناسًا ويصمهم عن الحق!! وكم منح أهل الغلو منافقي الداخل وأعداء الخارج من الصد عن الدين، والدعوة إلى منع سلطانه عن الناس!! بذرائع شتى.
لقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- الناسَ من فتن آخر الزمان، وأمر المسلم بالاعتصام بحبل الله ودينه، وعدم الانسياق خلف الأهواء والفتن، فقال –صلى الله عليه وسلم-: “وإنَّ أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها. وسيُصيبُ آخرها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها، وتجيءُ فتنةٌ فيُرقِّقُ بعضها بعضًا.. فمن أحبَّ أن يزحزحَ عن النارِ ويدخلَ الجنةَ، فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، وليأتِ إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يُؤْتَى إليهِ” (رواه مسلم 1844)، فإذا أراد أن يُرْحَم فليرحمْ هو خَلق الله، وإذا أراد أن يُحسن الناسُ به الظن؛ فليحسن ظنه بالناس، وإذا أراد أن تُصان أمواله ونفسه، فليبدأ هو وليسلم الناس من لسانه ويده.
وعن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ قالَ في حَجَّةِ الوداعِ: “هذا يومٌ حرامٌ وبلَدٌ حَرامٌ، فدماؤكم وأموالُكم وأعراضُكم عليكم حرامٌ مثلُ هذا اليومِ وهذا البلدِ إلى يومِ تلقونَهُ وحتَّى دَفعةٌ دَفَعها مسلِمٌ مسلِمًا يريدُ بها سوءًا، وسأخبرُكم: مَنِ المسلمُ؛ من سلمَ النَّاسُ من لسانِهِ ويدِهِ، والمؤمنُ من أمِنهُ النَّاسُ على أموالِهم وأنفسِهم، والمهاجرُ من هجرَ الخطايا والذُّنوبِ والمجاهدُ من جاهدَ نفسَهُ في طاعةِ اللَّهِ تعالى” (مختصر البزار 1/464، وقال ابن حجر العسقلاني: إسناده صحيح، فهذا هو التعريف النبوي للمسلم والمؤمن والمهاجر يا عباد الله، فهل نعي ونتدبر ومن ثَم نمتثل ونعمل؟!
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [سورة الأنفال: 24].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الأخرى:
الحمد لله وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد فاتقوا الله عباد الله، واعلموا بأن من صور الغلو الممقوتة: الاجتراء على دماء المسلمين المعصومة، وسفك الدم الحرام، وترويع الآمنين، وزعزعة الأمن في الأوطان، ونشر الخوف والفتن فيها، وقد حفلت النصوص الشرعية بالنصوص المتواترة التي تحذر المسلم التحذير الشديد من الدماء المعصومة، فقال رب العالمين: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93]، وهذا وعيد شديد لمن اجترأ على الدم الحرام فسفكه، واعتدى على أرواح آمنة، وأنفس مطمئنة، فقتلها، فويل له يوم يقوم الناس لرب العالمين!!
قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ” لا يَزَالُ العبدُ في فُسْحَةٍ من دِينِه ما لم يُصِبْ دَمًا حرامًا” (صحيح الجامع 7691)، وتأمل في هذا الحديث، يظل العبد في سعة، إذا أذنب استغفر، وإذا ذلّ في معصية تاب، وإذا أطاع ربه قَبِل الله منه، حتى يقع في ورطة عظيمة وداهية شديدة، بأن يلوث يده بالدماء المعصومة، عندها يضيق عليه دينه، ويعظم عند الله جُرْمه، وتسود صحيفته، وتضيق عليه نفسه، وتظلم روحه، ويجد الهمّ في قلبه، ولِمَ لا، وقد هدم بنيانًا شيّده الله، وأمر بصيانته وعدم أذاه؟!
ومما جاء من التحذير الشديد من الاعتداء على المسلمين، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- طاف يومًا حول الكعبة ونظر إليها فقال: “ما أطيبَكِ وأطيَبَ ريحَكِ ! ما أعظمَكِ وأعظمَ حُرمتَكِ (يَعني الكعبةَ) والَّذي نفسُ محمَّدٍ بيدِهِ لحُرمةُ المؤمنِ أعظَمُ عندَ اللَّهِ حرمةً منكِ مالِهِ ودمِهِ ، وأن يُظنَّ بهِ إلَّا خيرًا” (صحيح الترغيب: 2441).
وسياق هذا الحديث كأنه يقول: إذا كان المسلم يعظّم بيت الله الحرام، ويشد إليه الرحال، وينفق من أجل زيارته الأموال؛ فإن أخاه المسلم بجواره وبالقرب منه، أعظم حرمةً وأجلّ مكانةً من بيت الله الحرام، فهل يعني مسلمو هذا الزمان هذا التوجيه النبوي الكريم؟!
وقد فهم الصحابة هذه النصوص، وقدّروها حق قدرها، فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ –رضي الله عنهما- أنه قال: “إن مِن وَرَطاتِ الأمورِ، التي لا مَخْرَجَ لمَن أَوقعَ نفسَه فيها، سفكَ الدمِ الحرامِ بغيرِ حلِّه” (صحيح البخاري: 6863).
إننا بحاجة إلى أن نتكاتف ونتراحم فيما بيننا، لا أن نهجم على الدماء المعصومة ونهدد الآمنين، ونروّع المسلمين، ولنكن على حذر من صورة من صور العقاب الشديد أخبرنا بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن ابن عبَّاس –رضي الله عنهما، وقد سُئل عن توبة القاتل- فقال: سمِعتُ نبيَّكم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يقولُ: “يأتي المقتولُ متعلِّقًا رأسُه بإحدَى يدَيْه، متلبِّبًا قاتلَه باليدِ الأخرَى، تشخُبُ أوداجُه دمًا حتَّى يأتيَ به العرشَ فيقولُ المقتولُ لربِّ العالمين: هذا قتلني، فيقولُ اللهُ -عزَّ وجلَّ- للقاتلِ: تعِستَ، ويُذهبُ به إلى النَّارِ” (صحيح الترغيب: 2447)، نعوذ بالله من سوء المصير، ومن خزي يوم القيامة، ونسأل الله السلامة والعافية.
هذا، وإن تحقيق الأمن لا يكون بنبذ الغلو والتطرف فحسب، بل بنبذ التفريط في دين الله تعالى وإهمال الشريعة وأحكامها، ولن تُمكن الأمة إلا بعد أن تستقيم على شريعة الله تعالى، وتقيم حدودَه، وهي مسؤولية كل فرد فينا بحسب الأمانة التي علقها الله في عنقه.
فعن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» قَالَ: – وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ – «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (صحيح البخاري 893).
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، اللهم من أرادنا وأراد بلادنا وسائر بلاد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم رد عنا كيد الكائدين، وعدوان المعتدين، واقطع دابر الفاسدين والمفسدين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.
اللهم انصر إخواننا في كل مكان، وبارك لهم في عتادهم وأرزاقهم واحفظ عليهم أمنهم وأعراضهم ودينهم، وردهم إلى بيوتهم سالمين غانمين، ومكّنهم من عدوك وعدوهم.
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.