الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله:
أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته؛ استجابةً لقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
أيها الإخوة المسلمون.. وقد بعُد العهد بنا عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإننا اليوم في حاجة إلى مراجعة كثير من عاداتنا الاجتماعية، وأنماط حياتنا المعيشية، لنرى مدى قربها أو بُعدها من منهجه العظيم، ولكي تتحول هذه العادات إلى عبادات؛ حين تصدق فيها نياتنا، وتسير وفق شرع الله المطهر، وسنة حبيبه صلى الله عليه وسلم.
ومن تلك العادات التي هي سمة من سمات مجتمعنا الطيب: إكرام الضيف، هذا الإنسان الذي لا يخلو من إحدى حالتين؛ إما أن يكون غريبًا عن البلاد، ليس له بيت يأوي فيه، أو أن يكون من أهل البلد، ولكنه حل ضيفًا على صاحب دار، ولكل منهما حق الضيافة، الذي يراه الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله حقًّا واجبًا له، يؤجر فاعله، ويأثم الممتنع عنه إذا كان قادرًا.
ففي الصحيحين وغيرهما عن أَبي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ..» الحديث.
بل وأوجب على المسلمين نصرة الضيف الذي حل في دار بخيل لم يؤدّ له حق الضيافة، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ ضَافَ قَوْمًا، فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا، فَإِنَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ نَصْرَهُ حَتَّى يَأْخُذَ لَهُ بِقِرَى لَيْلَتِهِ مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ» أخرجه أحمد وضعفه الألباني.
إنها مكارم الأخلاق التي يدعو لها دينٌ جاء ليعزز شأنها، وينشرها في البشرية؛ لتسعد في حياتها الدنيا، ولتتوثق علائقها، ولتكون في مجموع أفرادها كالفرد الواحد، فأي غربة ستبقى للغريب حين يشعر وهو في طريقه إلى هذه البلاد أن له بيوتًا سوف يأوي إليها وكأنها ملك له، وأن له أهلاً سوف يأنس بهم وكأنهم أهله، فيشعر حينئذ بالأمن والاطمئنان، والراحة والحبور، ويفرغ لما جاء من أجله، أو يفرح بقدومه إذا كان لمحض الزيارة ورعاية الصلات.
إنه الدين الذي عرف لأهل الكرم قدرهم، وإن كانوا كفارًا، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن ابنة حاتم الطائي الكريم العربي الشهير حين أُسرت: «أطلقوها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق» والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان وضعفه الألباني.
فأي تكريم أعظم من أن تُحرر ابنة الكريم من رقّ العبودية من أجل إكرامه لضيوفه.
وصور الكرم لم تتوقف عند حاتم، ولكنها ازدادت تألقًا ورفعة حين جاء رسول الإسلام والأخلاق بشريعته العظيمة، فكان أجود الناس بأبي هو وأمي، فما عرف عنه أن رد سائلاً، ولا عبس في وجه ضيف، بل كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وإذا أعياه المال والطعام ولم يجد منهما شيئًا، التفت إلى أصحابه يطلب منهم أن يستضيفوا ضيفه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ مَا مَعَنَا إِلَّا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا»؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فَعَالِكُمَا» فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والحديث رواه البخاري وغيره.
إنها لوحة من لوحات الإنسانية الكريمة، التي تتضاءل أمامها كثير من لوحات الكرم الحاتمي، فماذا بعد أن يؤثر المرء ضيفه على نفسه وعلى أطفاله حتى يبيتوا جائعين ليشبع ضيفهم، بل يوهموه أنهم يأكلون معه، ويطفئون السراج حتى لا يكتشف هذا النبل والكرم العظيم.
ولكن ذلك ليس غريبًا على جيل تربى في المحضن التربوي النبوي، أولم تفعل عائشة ما أعظم من ذلك، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَتْ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا، فَسَأَلَتْ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ» أخرجه الترمذي في سننه وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وإذا رحنا نستنطق تلك النصوص لتروي لنا أخبار كرم سلفنا الصالح فلسوف يطول بنا المقام، ولكن دعونا لنتعرف على بعض آداب هذا الكرم، ولنبدأ بصاحب الدار المضيف.
إن أول ما ينبغي أن يستقر في نفوس المؤمنين أن علاقة المضيف بضيفه هي علاقة عبادة، فليست استضافته تطبيقًا لعرف من الأعراف، ولا جريًا لعادة اجتماعية سائدة، وإنما ليستشعر أنها عبادة من العبادات العظيمة، يؤديها ليؤجر عليها. ولذلك فينبغي أن يرعى فيها حقوق الله تعالى.
ولعل أول اللقاء هو تلك التحية التي تُفَتِّحُ القلوب، وتملأ الوجوه بالبشر، وإذا كان الضيف هو الذي يبدأ بها عادة، فلتكن تحية المضيف أجزل منها، يقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86]، وهو شأن الصالحين من عباد الله، فهذا نبي الله إبراهيم حين دخل عليه أضيافه وقالوا: {سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69]، قال علماء البيان: هذا أحسن مما حيوه به؛ لأن الرفع يدل على الثبوت والدوام، فاختار خليل الله الأفضل والأكمل.
ويمكن أن تكون بأي عبارة حسنة أخرى متضمنة تحية الإسلام السلام.
ثم له بعد ذلك أن يجتهد في إكرام ضيفه قدر طاقته، ويتجمل معه، حسب استطاعته، فلا داعي أن يستدين ويرهق نفسه وأولاده من أجل أن يظهر أمام الضيف بغير حقيقته، أو من أجل ألا يعاب من عشيرته، فإن مثل هذا البلاء قد استشرى، وإن جريرة الديون على المعسرين أعظم خطرًا من حديث الناس الوقتي الذي يذهب مع الزمن، وعلى الضيف أن يعذر صاحبه، وألا يحمله أكثر من طاقته، فلا يحقرن منه شيئًا مهما قل، ولو كان مذقة لبن، أو كأس عصير، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقد أحسن من قال:
إذا الضيف جاءك فابسم له وقرِّب إليه وَشِيك القِرَى
ولا تحقر المزدرى في العيون فكم نفع الهين المزدرى
وأما الأثرياء فلهم أن يقدموا ما يشاءون من أصناف الطعام القادرين عليها، ولهم في الخليل إبراهيم أسوة حسنة، فقد جاء ضيوفه بعجل سمين شواه لهم على الحجارة، وأقبل هو وامرأته يخدمانهم، بل إن من تمام إكرامه لهم أنه لم يُطل انتظارهم للطعام، ولم يذهب بهم إليه، بل كما قال تعالى: { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الذاريات: 26 – 27].
ولكن ينبغي أن نتنبه إلى أن إكرام الضيف نفقة من النفقات، فينالها ما ينال غيرها من أحكام الإسراف والتقتير والاعتدال، فمن أسرف فقد وقع تحت طائلة قوله تعالى: { وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26 – 27]، والآية في معرض الإنفاق على الآخرين.
وعليه بعد ذلك أن يحفظ نعمة الله التي تبقت، فيأكلها أو يُطعمها أهله أو المحتاجين.
ولعلنا نجد ذلك الإسراف الوبيل يتضاعف في الولائم العامة والأعراس، وربما انتقل إلى طبع دائم في البيوت، فيستأصل كالمرض الذي لا يجدون فكاكًا منه.
وإن من صور الإسراف عند بعض الفئات من مجتمعنا: تخصيص كل ضيف من الضيوف بذبيحة خاصة، مع تواجدهم في زمن واحد، بحجة أن لكل منهم حقًّا خاصًّا به، بل إن من أكبر أسباب الطلاق المنتشرة في بعض المناطق هو الضيافة العنجهية، التي يقسم فيها صاحب الدار أن ذبيحة الضيف ميتة، وأنه إذا لم يقبل ضيافته فزوجته طالقة، وربما أبى الضيف لأي سبب ربما كان خارجًا عن إرادته، فإذا بصاحب الدار يضيق به ذرعًا ويتحول إلى عدو من ألد أعدائه، أليس هو الآن – في نظره- سببًا من أسباب هدم بيته، وفراق زوجته، وإذا به بعد ذلك يناشد العلماء أن يجدوا له مخرجًا فيطوف الديار، ويطرح نفسه أمام هذا وذاك، فربما وجدوا له مخرجًا، وربما وجد المجتهد في مسألته أليس له إلا فراقها فإن الدنيا تضيق به، ويندم ساعة مندم فيا ليت شعري ما ذنب امرأة في دارها تخرج منه ذليلة حسيرة، تفارق حبيبها وأولادها، وتبقى ضحية كلمة مسعورة أطلقها مسكون بعادات لم ينزل بها الله من سلطان، قالها ليأمن عواقب العار الذي يخشى أن يلحق به، وما أخسر من هدم داره استجابة لداع من دواعي القبلية أو الأعراف، فلتدع ضيفك بإصرار فإن رضي فله الإكرام التام، وإن أبى فلينصرف مرحومًا مغفورًا له بإذن الله دون تحرجه أو يحرجك، ولتأمن أنت على أهلك وبيتك.
وللمضيف أن يفرق في مقدار كرمه وطريقته بين أصناف ضيوفه إذا لم يكونوا في مجلس واحد، فعنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ أَنَّ عَائِشَةَ مَرَّ بِهَا سَائِلٌ فَأَعْطَتْهُ كِسْرَةً، وَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ فَأَقْعَدَتْهُ فَأَكَلَ، فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» والحديث أخرجه أبو داود وغيره وضعفه الألباني.
وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عددًا من أصحاب الهيئات الذين تراعى منازلهم في الحديث الذي رواه أَبو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» رواه أبو داود وحسنه الألباني.
وروى ابن ماجه وحسنه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ» وهم أصحاب الوجاهات والمسئوليات.
وأقصى مدة للضيافة ثلاثة أيام، هي حق للضيف، عليه أن يرحل بعدها حتى لا يحرج مضيفه، روى البخاري أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَا أُنْفِقَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ» وَمَعْنَى قَوْلِه: «لَا يَثْوِي عِنْدَهُ» يَعْنِي الضَّيْفَ لَا يُقِيمُ عِنْدَهُ حَتَّى يَشْتَدَّ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ وَالْحَرَجُ هُوَ الضِّيقُ، إِنَّمَا قَوْلُهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ يَقُولُ حَتَّى يُضَيِّقَ عَلَيْهِ.
وليست الضيافة بالطعام والشراب فقط، بل إن من أجمل القِرَى وأكمله الحديث مع الضيف والترحيب به، وإزالة الوحشة عنه:
أضاحك ضيـفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف كثرة القرى ولكنما وجـه الكريم خصيب
إنه الكريم حقًّا ذاك الذي يتناسى كل همومه أمام ضيفه، ويشعره بالراحة معه وحب لقياه، مهما كانت ظروفه وعسرها؛ حتى لا بنكد عليه حلاوة اللقاء:
انظر إلى حسن صبر الشمع يظهر للر ائين نورًا، وفيه النار تسـتـعر
كذا الكريم تـراه ضـاحـكًا جذلاً وقلبه بدخـيـل الـهم منـفطر
حقًّا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» والحديث رواه أحمد وصححه الألباني.
عباد الله توبوا إلى واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الأخرى:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن من حق المسلم على المسلم أن يجيب دعوته، ومن كرم الضيف أن يأتي في موعده الذي حدده له، وإذا لم يستطع أن يأتي أو نسي موعده -وكل ذلك من طبع البشر- فعليه أن يعتذر منه، ويحسن الاعتذار، وإذا استطاع عوضه زيارة أخرى دون إحراج له.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا دُعي أحدكم فليجب، فإن كان صائمًا فليدعُ، وإن كان مفطرًا فليطعم» رواه أبو داود وصححه الألباني، على أنه إذا كان صائمًا صيام سُنّة فإن له أن يفطر إكرامًا لمضيفه، وجبرًا بخاطره، وهو إن شاء الله على أجره؛ لأنه العمل الصالح، بل وشرع فيه.
وعلى الضيف أن يراعي حق الضيافة من جانبه، فيغض بصره عن محارم المضيف، ولا يطلع إلا على ما أذن له فيه، ولا يفشي له سرًّا، ولا يتحدث بما حدثه إلا ما يعود بالخير عليه، فبئس الضيف اللئيم الذي يقابل كرم مضيفه بالكيد له أو الإساءة إليه، فإن المجالس بالأمانة.
وعليه ألا يتقدم على صاحب المنزل في دابته، ولا مكان جلوسه، ولا يتقدمه في صلاة إلا بإذنه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ قَالَ: أَتَيْنَا قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي بَيْتِهِ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنِ لِلصَّلَاةِ، وَقُلْنَا لِقَيْسٍ قُمْ فَصَلِّ لَنَا، فَقَالَ لَمْ أَكُنْ لِأُصَلِّيَ بِقَوْمٍ لَسْتُ عَلَيْهِمْ بِأَمِيرٍ، فَقَالَ رَجُلٌ لَيْسَ بِدُونِهِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ بْنِ الْغَسِيلِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرَّجُلُ أَحَقُّ بِصَدْرِ دَابَّتِهِ، وَصَدْرِ فِرَاشِهِ، وَأَنْ يَؤُمَّ فِي رَحْلِهِ» قَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عِنْدَ ذَاكَ يَا فُلَانُ لِمَوْلًى لَهُ: قُمْ فَصَلِّ لَهُمْ. والحديث رواه الدارمي وصححه الألباني.
وللضيف أن يكون له دور الإصلاح إذا وقعت عينه على عيب دون قصد، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذا رأى أن لذلك مكانًا، كما أن المضيف له أن يكرم ضيفه بعلم نافع يذكره له، أو يهدي له كتابًا نافعًا أو نحوه.
روى البخاري بسنده أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ نَمْ فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: «إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ سَلْمَانُ».
ومن كرم الضيف لمضيفه أن يدعو له، وتلك سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ قَالَ: «أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ، فَإِنِّي صَائِمٌ، ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ فَصَلَّى غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ، فَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لِي خُوَيْصَّةً. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَتْ: خَادِمُكَ أَنَسٌ، فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلَا دُنْيَا إِلَّا دَعَا لِي بِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالاً وَوَلَدًا، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ، فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الْأَنْصَارِ مَالاً وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ حَجَّاجٍ الْبَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ».
وليس للضيف أن يُحضِر معه ضيفًا آخر إلا بإذن صاحب المنزل، فعنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا شُعَيْبٍ، فَقَالَ لِغُلَامٍ لَهُ قَصَّابٍ: اجْعَلْ لِي طَعَامًا يَكْفِي خَمْسَةً، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْجُوعَ، فَدَعَاهُمْ فَجَاءَ مَعَهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا قَدْ تَبِعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ، فَأْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ يَرْجِعَ رَجَعَ» فَقَالَ: لَا بَلْ قَدْ أَذِنْتُ لَهُ. رواه البخاري.
أسأل الله تعالى أن يبصّرنا بديننا، وأن يعيننا على اقتفاء آثار رسوله الذي أمرنا بالصلاة والسلام عليه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، أخص منهم الخلفاء الراشدين المهديين من بعده؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها .
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، وهيء لهم بطانة صالحة تذكّرهم إذا نسوا، وتعينهم إذا ذكروا، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.