الحمد لله على إفضاله، والشكر له على إنعامه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا كثيرا .. أما بعد
فأوصيكم عباد الله بتقوى الله وطاعته، كما أمركم الله بذلك جل وعلا، فقال في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)} [آل عمران]، وهي علامة الصدق ودليله؛ قال سبحانه:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة]، وهي شرط القبول: قال عز وجل: {… إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27} [المائدة]، وإذا كنا في شهر رمضان المبارك، فإن من أعظم حكم صيامه نيلَ درجة التقوى؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة].
أيها الأحبة في الله: إن من نعمة الله تعالى علينا أن بلغنا ثلثي هذا الشهر الكريم، راجين رحمته ومغفرته، مؤملين منه تعالى أن يجعلنا من عتقائه من النار، فاللهم ربنا لا تحرمنا من رحمتك، واغفر لنا بفضلك ومنتك، وبشر قلوبنا بالعتق من نيرانك، يا من إليه يلجأ الخائفون، وبكريم جوده يتعلق الراجون.
وإذا كان الفضل يكتنف الشهرَ كله، والبركةُ تعم كل لحظاته، فإن العشر الأواخر تفضل العشرين الأول بلا شك، بل إن لياليها تفضل سائر ليالي العام كله، نسأل المولى عز وجل أن يبلغنا إياها، وأن يوفقنا فيها لجليل الطاعات، إنه جواد كريم.
ها حثت العشرُ خطاها سريعا.. تحمل البشائرَ للموفقين في الأعمال الصالحة، وتنوءُ بالإنذار للغافلين عن طاعة الله، المفرطين في مواسم الأجر.
ورد في الحديث الشريف الذي صححه ابن حبان رحمه الله تعالى: أنه: “كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا دخَل العَشْرُ الأواخرُ مِن رمضانَ أيقَظ أهلَه وشدَّ المِئزرَ وأحيا اللَّيلَ”، وكان صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، كما روى ذلك مسلم في صحيحه، وروى الترمذي من حديث زينب بنت أم سلمة قالت: “لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه”.
ولو لم يكن في هذه العشر إلا ليلة القدر لكانت كافية أن تكون رجاء القانتين، وأمنية العباد الصالحين، وأن يتحروها كل ليلة من ليالي العشر وكأنها هي بعينها، فمن يدري فلعلهم يدركونها، فيدركوا بها سعادة عظيمة، وأجورا مضاعفة، وعبادة وقربى من الرحمن الرحيم، لا يدرك مثلها في ألف شهر، ألم يقل الله تعالى: { إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ (1) وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ (2) لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡرٞ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرٖ (3) تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرٖ (4) سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ (5)}.
وإذا كان من السنة أخذ الزينة عند حضور المساجد، امتثالا لأمر الغفور الرحيم: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف]، فإنها تتأكد في مثل هذه الليالي المباركات، بل الغسل والطيب ولبس أحسن الثياب، ولكنَّ زينةَ الظاهر لا قيمة لها إلا إذا كان معها زينة الباطن، يقول المولى جل وعلا: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)} [الأعراف].
ومن السنن التي شاعت ـ ولله الحمد والمنة ـ في بلادنا في العشر الأواخر صلاة التهجد، أو ما نسميها صلاة القيام، التي تؤدى فرادى وجماعات في البيوت والمساجد، وهي سنة طوال السنة، وقد امتدح الله أصحابها فقال في محكم التنزيل: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} [الذاريات].
وإذا كنا قد قصرنا في أدائها خلال السنة، فلا أقل من أن نقوم بشيء منها خلال رمضان، ولا سيما في العشر الأواخر منه، وإذا كان القيام في بدايته ثقيلا على النفس، فإنه يخف بتذكر الأجر الوافر الذي أعده الله للقائمين، ولا سيما في رمضان، فـ”من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” [رواه البخاري]، ويخف بالاعتياد، والصبر والاحتساب، والمجاهدة، فعند ذلك ينشرح الصدر، وينفتح باب الأنس بالله تعالى، وتلذ له المناجاة، وهناك لا يشبع المسلم من هذه العبادة الجليلة، يقول بعض السلف: “أهل الليل في ليلهم (يعني في صلاتهم وذكرهم) ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم، ويا بُعد ما بين الحالتين”.
إنك أيها المسلم ستشعر بطعم آخر للعبادة، وستذوق لذائذ المناجاة، وستحوز حلاوة الطاعة بإذن الله، حين تتحرر من كل ثواقل الأرض، ومثبطات الشهوات، وبهارج الدنيا وزينتها الزائفة، وترحل مع آيات كريمات، وسجدات نقيات، وركعات خاشعات إلى عالم الطهر والصفاء، مع الله تعالى، فتتذكر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ” يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها” [صحيح]، وتتمثل قوله: “وجُعلت قرةُ عيني في الصلاة” [صحيح”، حيث طُمأنينةُ القلب، وانشراح الصدر، وكمال اللذة، وتمام السعادة، فلا شيء عنده أحبُّ منها، فلا يستطيل فيها وقتا، ولا يستشعر تعبا، ولا يستعجلها إلى غيرها. ومن أسرار ذلك خلوص القلب من الأكدار والرياء وحب السمعة، وحياتُه وسلامتُه مما يمرضه أو يميته، وبراءته مما يطفيء أنواره، ويذهب إشراقه.
أخي المسلم، إن من هدي رسولك صلى الله عليه وسلم المداومة على العمل الصالح، كما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “ كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكانَ إذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ مَرِضَ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً. قالَتْ: وَما رَأَيْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قَامَ لَيْلَةً حتَّى الصَّبَاحِ، وَما صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إلَّا رَمَضَانَ” [رواه مسلم]، فانظر كيف يقضي رسولنا صلى الله عليه وسلم وتره من الليل في النهار ليدوم على هذا العمل، وأنت قد بدأت شهرك بنشاط، فلا تفتر، وبدأته بشوق فلا تطفيء مواقد شوقك، وبدأته برغبة أكيدة في الأجر، فهذه أعز مواسمه قادمة إليك، فاعمل تغنم، وجاهد نفسك فقد وعدك من لا يخلف الميعاد فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الأخرى /
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا من شرائع دينه، ما يصلحنا بها، ويقربنا إليه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما بعد
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا بأن من العبادات التي شرعها الله تعالى لعباده، عبادةَ الاعتكاف، وهو من العبادات التي غفل عنها كثير من المسلمين مدة من الزمن، مع ما فيها من الفضل العظيم، وأحياها بعضهم في هذا الزمن.
وهي سنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما” [رواه البخاري]، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم “كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده” متفق عليه.
وإذا كانت عبادة الاعتكاف تعني: اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية الطاعة لله تعالى، فإن هذه العبادة تحصل بنية التقرب إلى الله تعالى، وإن لم يعمل المعتكف شيئا من النوافل والقربات؛ لأن عمل النوافل في الاعتكاف من مستحباته، والله ذو الفضل العظيم.
وللاعتكاف فوائد كثيرة؛ منها: تصفية النفس وتزكيتها بالبعد فيه عما يخوض الناس، وبالإقبال على الله تعالى بالخلوة في أحب البقاع إليه وهي المساجد، قال ابن القيم رحمه الله: “ولما كان صلاح القلب واستقامتُه على طريق سيره إلى الله.. فإن شَعَثَ القلب لا يلمُّه إلا الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثا، اقتضت رحمة العزيز الرحيم، بعباده أن شرع لهم من الصوم…، وشرع لهم الاعتكاف، الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق، فيعدُّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة، في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم”.
ومن فوائده: تعويد المعتكف نفسه على الإكثار من النوافل؛ كقراءة القرآن الكريم والذكر والصلاة والصيام مما يقوم به المعتكف.
ويشترط ـ أيها المسلم الحريص على طاعة ربه لصحة الاعتكاف ـ تحقيق النية الخالصة للاعتكاف، وأن يكون في مسجد وما يتصل به كالساحات والسطوح والغرف التابعة له مما أُعِدَّ للصلاة لا للمستودعات والسكن. وينقطعُ الاعتكاف المستحب بالجماع والإنزال بالمباشرة بقبلة ونحوها وبالخروج لغير حاجة، وله استئناف اعتكاف آخر.
ويباح للمعتكف اتخاذ مكان يخلو فيه وينام دون تضييق على المصلين، وتناول الطعام والشراب دون إيذاء للمسجد، والخروج من المسجد لمرض شاق، وتناول الطعام والشراب أو جلبُهما دون تطويل، وقضاء حاجة الإنسان، ويجب الخروج للغسل من الجنابة، أو غسل نجاسة طرأت عليه، وحضور جمعة واجبة دون تبكير ولا تأخير بعدها، ويباح عند الخروج لذلك عيادة المريض وتعزية المصاب إذا كانا على طريق المنزل ولم يطل الجلوس.
ويكره له الصمت إلى الليل، والضحك والتكلم المباحان حين انتظار الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أحدكم ما قعد ينتظر الصلاة في صلاة، ما لم يُحْدِث تدعو له الملائكة: اللهم اغفر له اللهم ارحمه”، وهذا عام في كل مصل معتكف وغيرِه.
أخي الحبيب هذه نبذة مختصرة عن هذه العبادة العظيمة التي اختص الله بها من شاء له الخير من المسلمين، فلتكن من أهلها، وممن يحييها في أمة الإسلام ولو يومًا وليلة.
اللهم فكما بلغتنا رمضان، فبلغنا فيه الصيام والصدقة والقيام، وسائر الأعمال الصالحة، وتقبلها منا. اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين في كل مكان وعلى ثغورنا خاصة، وألف ذات بينهم، وأهلك عدوك وعدوهم، واخلفهم في أهليهم وذويهم، واحقن دماءهم، واقبل شهداءهم، وداوِ جرحاهم، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك حربا على أعدائك.
اللهم وفق وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين ووليَّ عهده وأعوانهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا بسوء فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، وافضح أمره.
اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا ـ جميعا ـ من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.