الخطبة الأولى/ رمضان وتدبر القرآن/
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عِوَجًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خاتمَ رسلِ الله وأنبيائه، صاحبَ لواء الحمد، والمقامِ المحمود، والحوضِ المورود، وسيدَ كل مولود. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين، أما بعد فيا عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله وطاعته، استجابة لأمر الله تعالى، يقول الله جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18].
واحد من الأسئلة الكبرى التي تُنبئ عن همِّ المؤمن الصالح في شهر رمضان المبارك بالذات: كيف أنجح في استثمار الشهر إلى أقصى ما تبلغ طاقتي؟ ما الطريق إلى تحقيق أعلى إنتاجية في أيامه ولياليه؟ كيف أحقق تلك الغاية الكبرى {لعلكم تتقون}؛ في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) } [البقرة]؟ والنفوس التي تطرح هذه الأسئلة الملحة على أصحابها، هي النفوس الحية المؤهلة لتلك النجاحات، وأضر ما على الإنسان أن تُسلب الرغبة في الاستكثار من الخير من قلبه ومشاعره في مثل هذه المناسبات العبادية، والمواسم العظيمة.
لقد عرض لنا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان وذكر لنا بأنه كان: “أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضانَ” [رواه البخاري]، فما السِّرُّ في زيادة جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان بالذات؟ ولماذا كانت تلك الزيادة كبيرة ومدهشة للدرجة التي كان فيها صلى الله عليه وسلم “أجْوَد بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ “، فقال: “ حِينَ يَلْقاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ يَلْقاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضانَ فيُدارِسُهُ القُرْآنَ”، فأبان لنا عن السر الباعث لهذا العمل في حياته الرمضانية صلى الله عليه وسلم، لدرجة يكون فيها جودهُ أشبهَ بالريح المرسلة، أنها تلك اللقاءات التي كانت تجري مع جبريل عليه السلام في رمضان بالذات حول كتاب الله تعالى في ذلك الحين، والمدارسة هي ما يقع بين اثنين فأكثر، وقد ألمح صلى الله عليه وسلم إلى بركتها وأثرها فقال صلى الله عليه وسلم: “وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ، يَتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويَتدارسونَهُ بينَهُم، إلَّا حفَّتهمُ الملائِكَةُ، ونزَلت عليهمُ السَّكينةُ، وغشيتهمُ الرَّحمةُ، وذَكَرَهُمُ اللَّهُ فيمن عندَهُ” (صحيح)، ومادة هذه المدارسة كتاب الله تعالى قراءةً وتفسيرًا وتدبرًا، فكأن القارئ لكتاب الله تعالى المتدبر له يكتسب من المعاني الروحية والمفاهيم القرآنية ما يجعله مولعًا بالتطبيق لما قرأ، بعد تلك الأوقات التي قضاها مع كتاب الله تعالى، وعلى هذا المنهج كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون عشر آيات فلا يجاوزونها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، وفي رحاب هذا المعنى قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، وإذا تقرر هذا المفهوم فينبغي أن نتوجه إلى هذا القرآن في كل وقت وفي هذا الشهر على وجه الخصوص بشرط أن يشترك في هذا التوجه التلاوة والمدارسة التدبرية التي تُحدث الإيمان، وتشعل القلب بالرغبة في التطبيق والعمل.
كم يُسَرُّ القلب المؤمن بذلك التحلّق على كتاب الله تعالى في هذا الشهر بالذات في المساجد وفي البيوت الصالحة، والحرص على ختمه عددًا من المرات وصرف الأوقات له، وغاية تلك الروضات الإيمانية هو التقرب إلى الله تبارك وتعالى، والحصول على أكثر قدر من الحسنات، والترقي بالقرآن أعلى درجات الجنة، وليجعل كتاب ربه المصدر الوحيد لحياة قلبه، وبناء حياته، وتصحيح تصوراته.
فإن قلت: كيف ذلك؟ كيف أتدبر القرآن؟ مع من أتدارسُه؟ ما الطريق إلى هذا المعنى الكبير؟ فيقال لك: اجعل لنفسك ختمة أو أكثر تسرد فيها المصحف دون أن تُخل بتلاوته، وختمة تدبرية خاصة، تحلَّق فيها مع جزء من أجزاء القرآن، أو سورة من سوره، قرر بأن يكون التدبر جزءًا من يومك وبعضًا من منهجك، وعادة من عاداتك في التعامل مع كتاب الله تعالى وسترى كم هو أثر هذا القرار عليك في مستقبل الأيام.
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد 24]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الأخرى/
الحمد لله أهل الثناء والحمد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين أما بعد
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا بأن تدبر القرآن الكريم هو عملية تأمل عميقة في معانيه ومقاصده لاستخلاص توجيهات الهداية الربانية منه. ولكي تظفر بالأجر العظيم بتدبرك لكتاب ربك، فعليك أن تبدأ بنيتك، اجعلها خالصة لله تبارك وتعالى، واطلب منه التيسير والفهم والهداية، وجاهد نفسك ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69). ولا تتعجل القراءة، بل حاول أن تقرأ ببطء مع التركيز على المعاني، والمقاصد العامة، التي أراد الله ـ تبارك وتعالى ــ أن يبينها لنا في هذه الآيات، حاول أن تربطها بالواقع الذي تعيشه، والحياة اليومية التي تمارسها، واعرض حالك على ما تقرأه، فإن رأيت خيرًا فاحمد الله واستزد، وإن رأيت تقصيرًا فهذا أوان التوبة والاستغفار، فإن القرآن إنما أنزل لهداية الخلق، قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ …} [البقرة من آية: 185]. حاول أن تفكر كيف تنطبق الآيات على حياتك، وما الدروس التي يمكن أن تستفيد منها لتغيير نفسك وسلوكك، وتحمل مسؤولياتك تجاه من تحت رعايتك.
وحتى لا تقع في المحظور، ولا تقول في القرآن ما لا تعلم، فعليك بالاستفادة من التفاسير الميسرة، مثل: مختصر تفسير ابن كثير، والتفسير الميسر، وتفسير السعدي، فإن فهم الكلمات يُعين على الفهم الإجمالي للآية.
ومما يعينك على التدبر الأمثل، التأمل في أسباب النزول والسياق الذي نزلت فيه الآيات، فإنه يساعد على إدراك المعنى بصورة أعمق، ويمكن الرجوع إلى تلك التفاسير المذكورة ونحوها، وإلى الكتب المختصة في أسباب النزول أو التطبيقات المتخصصة في القرآن وعلومه.
ومما يوثق علاقتَك بكتاب الله العظيم، حفظُ آياته، وتَكرارُها، فإذا وجدتَ أن آياتٍ بعينها لها أثرٌ في قلبك، فاحفظها، وكررها في صلاتك، وابكِ أو تباكَ وأنت تتلوها في خلواتك، كما أن الاشتراك في حلقات تدبر للقرآن مع الآخرين يعزز الفهم ويضيف أبعادًا جديدة للتأمل.
وعليك بالدعاء بسؤال الله الفهم، فقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما فقال: “ اللَّهمَّ فقِّهْهُ في الدِّين، وعلِّمْهُ التَّأويلَ” [صحيح]. وفي الحديث الصحيح أيضًا: “أن رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقولُ اللهمَّ إني أسألُك علمًا نافعًا وأعوذُ بك من علمٍ لا ينفعُ” [حسن]، فاسأل الله دائمًا أن يفتح عليك أبواب التدبر والفهم.
ومن ثمار التدبر أنه يُرقِّق القلوب، ويزيدها خشيةً لله تعالى، ويقوِّي الإيمان، ويهدي إلى العمل بالقرآن الكريم وتطبيق تعاليمه في كل ناحية من نواحي الحياة؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 9]
والقرآن ـ أيها المسلم الصائم ـ ليس مجرد كتاب للقراءة، بل هو هدي رباني لحياة المسلم كلها، فعليك أن تطبق ما تعلمته في عبادتك، وأخلاقك وسلوكك وتجارتك وعلاقاتك.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ ]فاطر: 29].
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين على ثغورنا وفي كل مكان، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك حربا على أعدائك.
اللهم وفق وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين ووليَّ عهده وأعوانهم لكل ما فيه الخير للبلاد والعباد.
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ووالديهم ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.