الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي شرع لعباده مواسم الفرح والسرور، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد فاتقوا الله عباد الله.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، تحضر هذه الآية الكريمة بعد أن انطوت صفحة رمضان المشرقة، لتذكرنا بغايته العظيمة، وهي (التقوى)، التي لا تقبل محلاً غير القلب، ولا يعلم بحقيقتها إلا الرب، (التقوى) ثمرة الصيام فهل نلناها؟ لتُقبَل أعمالنا؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله، والله أكبر الله، أكبر ولله الحمد.
أيها الإخوة والأخوات، ها نحن قد ودعنا شهر رمضان بأيامه الفاضلة، ولياليه العامرة، وقد فاز في هذا الشهر من فاز بالرحمة والمغفرة والعتق من النيران، وخسر فيه من خسر بسبب الذنوب والعصيان، فيا ليت شعري! هل نحن من المقبولين؟ اللهم عفوك وكرمك..
ليس العيد أوقاتًا ضائعة في اللهو واللعب والغفلة، بل شُرع العيد لإقامة ذكر الله، وإظهار نعمته على عباده، والثناء عليه سبحانه بها، وشكره عليها، وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده عند إكمال العدة بتكبيره وشكره فقال سبحانه: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله، والله أكبر الله، أكبر ولله الحمد.
عباد الله: العيد هو موسم الفرح والسرور، وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدنيا إنما هي بخالقهم ومولاهم إذا فازوا بإكمال طاعته، وحازوا ثواب أعمالهم بفضله ومغفرته، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
فالعيد لمن أطاع الله، والحسرة لمن عصاه! العيد لمن أحسن في نهاره الصيام، وأحيى ليله بالقيام. العيد لمن سهر على تلاوة القرآن، وذكر الرحمن؛ قال بعض السلف: «ما فرح أحدٌ بغير الله إلا بغفلته عن الله، فالغافل يفرح بلهوه وهواه، والعاقل يفرح بمولاه». وقال الحسن: «كل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيدٌ، وكل يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكره وشكره فهو له عيد».
نظر بعض العلماء إلى الناس يوم الفطر وانشغالهم بما هم فيه من الطعام والشراب واللباس، فقال: «لئن كان هؤلاء أنبأهم الله عز وجل أنه قد تقبل منهم صيامهم وقيامهم، فقد كان ينبغي لهم أن يكونوا أصبحوا مشاغيل بأداء الشكر، ولئن كانوا يخافون أنه لم يقبل منهم، كان ينبغي لهم أن يكونوا أشغل وأشغل»!
ولذلك روى محمد بن زياد قال: كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا يقول بعضهم لبعض: «تقبل الله منا ومنك»، قال أحمد بن حنبل: إسناده جيد. فهمُّ القبول هو الذي يشغل بالهم، بعد أداء الأعمال، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، قال الحسن: «يُؤتُون الإخلاص ويخافون ألا يقبل منهم». وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ..}، قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: «لا يا بنت الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يُقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات» والحديث حسنه الألباني.
وقال الحسن: «لقد أدركنا أقوامًا كانوا من حسناتهم أن تردَّ عليهم أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها».
الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله، والله أكبر الله، أكبر ولله الحمد.
وفي العيد تزدان الحدائق ومدن الألعاب، ويخرج الناس للتنزه واللهو واللعب، فليس من مروءة عينين أدمنتا النظر في كتاب الله، أن تطيشا فتنظر فيما حرم الله تعالى، بله أن تكون سببًا في شيوع المنكرات، أو أن يكون من أهله وحريمه من يلبسون ما حرم الله، أو ينزعون عنهن لباسهن وسترهن وحجابهن، قال بعض أصحاب سفيان الثوري: خرجت مع سفيان يوم عيد، فقال: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا غض البصر»!! ورجع حسان بن أبي سنان من عيد، فقالت له امرأته: كم من امرأة حسناء قد رأيت؟ فقال: «ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت إلى أن رجعت».
اللهم ألهمنا حبك، وحب من يحبك، وحب طاعتك، وابتغاء رضاك، ومن علينا بصلاح ديننا ودنيانا، وعمارة آخرتنا، وحسن خواتيمنا.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
الخطبة الأخرى:
اللهم لك الحمد ما صام الصائمون وأفطروا، ولك الشكر ما لبى الناسكون واعتمروا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
عباد الله.. اتقوا الله والتمسوا الأجر في عيدكم كما التمستموه في شهركم المرتحل عنكم، التمسوه في صلة الأرحام، والصدقة على الفقراء، والتوسعة على العيال، وإشاعة الفرح، وإدخال السرور على قلب كل مسلم ومسلمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بفقهه ودرجاته، وكل عمل صالح يشرع فيه.
واعلموا -تقبل الله منا ومنكم- أنه يحرم صيام يوم العيد؛ لحديث أبي سعيد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر» متفق عليه. وفي هذا حِكَم عظيمة، من أظهرها: تعظيم شعائر الله تعالى، وإتمام مقام العبودية، فالذي أمر بالصيام أمس وحرّم فطره، هو الذي أمر بفطر اليوم وحرّم صيامه، والعبد يمتثل في الحالين؛ لينال الأجر والمثوبة من خالقه عز وجل.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله: إن العيد شكرٌ لله على تمام العبادة، لا يقولها المؤمن بلسانه فحسب، ولكنها تعتلج في سرائره رضًا واطمئنانًا، وتنبلج في علانيته فرحًا وابتهاجًا، وتُسفر بين نفوس المؤمنين بالبشر والأنس والطلاقة، وتمسح ما بين الفقراء والأغنياء من جفوة.
العيد يومُ الأطفال يفيض عليهم بالفرح والمرح، ويوم الفقراء يلقاهم باليسر والسعة، ويوم الأرحام يجمعها على البر والصلة، ويوم المسلمين يجمعهم على التسامح والتزاور، ويوم الأصدقاء يجدد فيهم أواصر الحب ودواعي القرب، ويوم النفوس الكريمة تتناسى أضغانها، فتجتمع بعد افتراق، وتتصافى بعد كدر، وتتصافح بعد انقباض، وفي هذا كله تجديدٌ للرابطة الاجتماعية على أقوى ما تكون من الحب، والوفاء، والإخاء.
وفي العيد تظهر شعيرة التراحم بين المسلمين، وكأنما العيد روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها، فيتذكّر المسلم صبيحة العيد، وهو يقبل على والديه، ويأنس بزوجته، وإخوانه وأولاده، وأقربائه، فيجتمع الشمل على طعام لذيذ، وشراب طيب، يتذكَّر يتامى لا يجدون في تلك الصبيحة حنان أب، وأيامى فقدن ابتسامة زوج، وآباءً وأمهاتٍ حُرموا أولادهم، وجموعًا كاثرة شرّدهم الظلم والطغيان، وأودعوا السجون والمعتقلات، فإذا هم بالعيد يشرقون بالدمع، ويكتوون بالنار، ويفقدون طعم الراحة والاستقرار، فيعمل على مواساتهم بماله، وذكرهم في دعائه، والله مفرّج الهموم والكربات.
بارك الله لكم عيدكم، ومكّن لدينكم الذي ارتضاه الله لكم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المجاهدين في سائر بلاد المسلمين. اللهم دافع عن المستضعفين المؤمنين في كل مكان.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح ولاة أمورنا ووفقهم لما فيه خير البلاد والعباد.
ربنا نسألك أن تبارك لنا في عيدنا وتتقبل طاعاتنا، وأن تعيننا على دوام طاعتك، وأن تتقبل ذلك منا إنك جواد كريم، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.