خطر الحوادث المرورية

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أهله، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد فاتقوا الله عباد الله، ممتثلين أمر بارئكم تعالى الذي قال في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

أيها الأحبة في الله..

كان عمر راجعًا من عمله، وكانت سرعته (حسب مايقول) لا تتجاوز السرعة القانونية. لم يكن قد مضى على حصوله الوظيفة شهور؛ لذا كانسعيدًا جدًّا وهو يستلم مرتبه إلى درجة أنه راح يعده مرارًا، كانت آخرها وهو يقود السيارة، كان واثقًا من نفسه، فهو يستطيع أن يعدالنقود دون أن يفقد سيطرته على السيارة، انفلتت ورقة من فئة الخمسمائة ريال من يده، إلى النافذة المفتوحة، خشي عمر أن تطير الورقة فحاول إمساكها بيده، انحرفت السيارة قليلاً، فوجئ بعمود لإحدى علامات الإرشاد أمامه، وبارتباك غير مجرى السيارة بسرعة حتى يتفادى العمود.. وكان هذا آخر ما يتذكره، فقد انقلبت مركبته عدةمرات، وتحطمتبالكامل، وأصيب عمر إصابات بليغة ظل بسببها في المستشفىأيامًا.

أصبحت الحوادث المرورية تمثل وبشكل كبير هاجسًا وقلقًا لكافة أفراد المجتمع، وأصبحت واحدة من أهم المشكلات التي تستنزف الموارد المادية والطاقات البشرية وتستهدف المجتمعات في أهم مقومات الحياة والعنصر البشري، إضافة إلى ما تكبّده من مشاكل اجتماعية ونفسية وخسائر مادية ضخمة، مما أصبح لزامًا العمل على إيجاد الحلول والاقتراحات، ووضعها موضع التنفيذ للحد من هذه الحوادث أو على أقل تقدير معالجة أسبابها والتخفيف من آثارها السلبية.

إن أسباب الحوادث المرورية تعود إلى المركبة والطريق والقائد البشري، الذي يتحمل خمسة وثمانين في المائة من الحوادث المرورية، وإن أكثر العوامل التي تؤدي إلى الحوادث المرورية هي: تجاوز السرعة المسموح بها، ونقص كفاءة السائق كصغره أو تناوله لمخدر أو إرهاقه وميله إلى النوم، ونقص كفاءة وتجهيز وسيلة النقل (المركبة)، والمخالفة المرورية، ونقص الانتباه والتركيز من السائق، والقيادة في ظروف مناخية غير مناسبة، والقيادة في حالات نفسية وانفعالية غير مستقرة، وكون السائق هو العنصر العاقل والمتحكم في كيفية التعامل مع المركبة والطريق، فإن المسئولية الأكبر تقع على عاتقه في تفادى أو الوقوع في حادث مروري، والأمر كله لله تعالى.

عشرون عزاء يقام يوميًّا في المملكة لصرعى الحوادث المرورية في المملكة، و28 % من جميع الحوادث المرورية – أو على الأقل 1,6 مليون حادث سنويًّا – تُعزى إلى انشغال السائقين بالجوَّالات والرسائل النصية أثناء القيادة. وذكر المختصون بأن خطر وقوع حادث أثناء التعامل مع الرسائل النصية يزيد بمقدار 23 ضعفًا، لأن قراءة رسالة نصية أو إرسالها تشغل عيني السائق عن الطريق لمدة 4,6 ثانية في المتوسط، فيصبح كمن يسوق سيارته معصوب العينين بسرعة تبلغ نحو 90 كيلو مترًا في الساعة، لمسافة تعادل طول ملعب لكرة القدم. بعد ذلك، وقد أصبح أحد الرجال مشلولاً تمامًا وتغيَّرت حياته تمامًا بسبب رسالة نصية قصيرة أثناء قيادة السيارة.

7153 قتيلاً سنويًّا في بلادنا، 73% من مجمل الوفيات دونالأربعين سنة، وأكثر من 39 ألف مصاب يشغلون أكثر من 30% من أَسِرَّة المستشفيات.. هذه ليست حصيلة حرب خاضتها البلاد لسنوات وهي بلد الأمن والأمان، وإنما حصيلة حوادث مرورية لعام 2011م فقط منمجمل 544179 حادثًا أي بمعدل 1537 يوميًّا، تكلف اقتصاد الدولة 20 مليار ريال (5,33مليارات دولار) سنويًّا.

أقسى أنواع الكسور في العمود الفقري سواء في منطقة الفقرات العنقية أو الفقرات الصدرية أو الفقرات القطنية بسبب الحوادث المرورية، وكثيرًا ما يصاحب هذه الكسور إصابات مختلفة الشدة في النخاع الشوكي والأعصاب الطرفية.

هذه الإصابات قد تكون على شكل شلل جزئي أو ضعف في أحد الأطراف أو قد تكون على شكل شلل كامل وهو ما يُعرف بالشلل الرباعي الذي يؤدي إلى ضعف وفقدان في الحركة والإحساس في كلتا اليدين والساقين أو من الناحية الأخرى الشلل النصفي الذي يؤدي إلى فقدان القدرة على الحركة والإحساس في الطرفين السفليين. وفي كلتا الحالتين يكون هناك أيضًا فقدان للتحكم في البول والبراز.

وعادة ما يتكلف علاج هذه الحالات سواء من ناحية تثبيت الكسر أو من ناحية التأهيل مئات الألوف، وقد يصل إلى الملايين في بعض الحالات. وعلاج هذه الحالات يتطلب وقتًا طويلاً ويضع ضغوطًا اجتماعية ومادية شديدة على الأسرة التي يكون فيها أحد هؤلاء المصابين. بل قد يتطلب العلاج الانتقال من مدينة إلى أخرى أو الذهاب إلى أحد المراكز المتخصصة في التأهيل.

أيه الإخوة -سلمكم الله من كل شر- لقد راح عدد من الباحثين يطالب بتجريم المتسببين في مثل هذه الإصابات الخطيرة، وبالتالي يتعرض للمساءلة والعقوبة بشكل أكبر بكثير من دفع غرامة أو إيقاف بضعة أيام أو ألا يتم عمل أي شيء له لمجرد أن لديه تأمينًا. فالتأمين ليس رخصة للتهور والاندفاع وأذية الآخرين. ويجب أن يكون مفهوم التأمين بأنه يغطّي الحوادث الصغيرة أو التي لا يكون فيها أداء إجرامي كالتهور وغير ذلك، ويجب على التأمين ألا يغطي التصرفات الإجرامية التي تتسبب في إيذاء الناس، فيجب أن يعاقب هؤلاء الأشخاص الذين يتسببون في مثل هذه الحوادث تحت قانون عقابي في عملهم كمجرمين، ومعهم كل الحق في هذه المطالبة؛ حقنًا للدماء، واحترامًا للإنسان.

إن التزام المسلم بقواعد المرور وآدابه، واجبٌ عليه لحفظ ثلاث من الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها، وهي: النفس والعقل والمال إلى جانب العرض والدين.

والقيادة بسرعة وتهور قتل للنفس وانتحار، وقتل للآخرين وعدوان عليهم، وقد توعدالله تعالى فاعل ذلك فقال: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَبِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِنَارًا وَكانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا} [ النساء : 29 – 30].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله أهل الثناء والحمد، وأشهد إلا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا بأن مصادر الشريعة الموثقة أكدت الأخلاقيات التي ينبغي أن يكون عليها السائر في طريقه، ماشيًا أو راكبًا، قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، فهم خلاصة البشر يمشون في الطريق هونًا، بلا تصنُّع ولا تكلف، ولا كبر ولا خيلاء، مشية تعبّر عن شخصية متزنة، ونفس سوية مطمئنة تظهر صفاتها في مشية صاحبها. وقارٌ وسكينةٌ، وجدٌّ وقوةٌ من غير تماوتٍ أو مذلة، تأسيًا بالقدوة الأولى محمد صلى الله عليه وسلم.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “السرعة المقيدة عند الجهات المختصة الأصل أنه يجب على الإنسان أن يتقيد بها؛ لأنها أوامر ولي الأمر، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء 59]”.

ومن سمات المتزنين في قيادتهم: كفّ الأذى عن الطريق ومن يمشي فيه، قال عليه الصلاة والسلام: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس)) رواه مسلم (1914).

وحينما طلب أبو برزة – رضي الله عنه – من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلّمه شيئًا ينتفع به قال: ((اعزل الأذى عن طريق المسلمين)) رواه مسلم (2618).

وروى حذيفة بن أسيد – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من آذى المسلمين في طرقهم؛ وجبت عليه لعنتهم)) رواه الطبراني في الكبير (3050) وصححه الألباني.

وحزام الأمان سبب في النجاة والاطمئنان: فكلنا موقنون أن السلامة والحفظ هي بيد الله عز وجل: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 64]، ولكن الشرع أمر بأخذ الأسباب والعمل على وَفْقها لا الاعتماد عليها، وقد ثبت بالتجربة القطعية أن حزام الأمان يخفّف من فداحة المصيبة أثناء الحادث ويحمي السائق من هول الاصطدام.

ولا ننسى أن هناك أحزمة معنوية أخرى تقي بإذن الله عز وجل أخطار كثيرة بشرط أن تطبق بصدق عقيدة وقوة يقين، مثل: دعاء الركوب ودعاء السفر وملازمة الأذكار أثناء قيادة السيارات.

عباد الله:

إن الأنظمة المرورية ملزمة شرعًا: فهذه الأنظمة وضعها الإمام لتنظيم سير الناس على هذه الطرق، وحفظ أرواحهم من الهلاك، وبناء على المصلحة العظيمة المترتبة عليها؛ فإن إلزام ولي الأمر بها مشروع جريًا على قاعدة (تصرفات الإمام بالرعية منوطة بالمصلحة)، والمصلحة هنا معتبرة فهي لم تخالف نصًّا من الكتاب أو السنة ومنفعتها لعموم الناس حقيقية لا وهمية، وهي إن لم تكن من الضروريات فلا تنزل أبدًا عن رتبة الحاجيات.

يقول سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: “لا يجوز لأي مسلم أن يخالف أنظمة الدولة في شأن المرور؛ لما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى غيره. والدولة -وفّقها الله- إنما وضعت ذلك حرصًا منها على مصلحة الجميع ورفع الضرر عن المسلمين، فلا يجوز لأي أحد أن يخالف ذلك وللمسئولين عقوبة من فعل ذلك بما يردعه وأمثاله”.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لكل خير، وأن يسلمنا ومن نحب والمسلمين من شرور الحوادث وأذاها، وألا يجعلنا سببًا في إيذاء أحد من المسلمين، إنه سميع مجيب.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم اجمع كلمة المسلمين على ما تحب وترضى، واكفهم شرارهم، وارزقهم حب خيارهم.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً