رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء والأطفال

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء والأطفال

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب السماوات والأرض، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله امتثالاً لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [سورة آل عمران: 102]. 

وتستمر وقفاتنا مع النبي الخاتم، وهو يضع للدنيا منهجها الأسري الرائع، وبناءها الاجتماعي المتين، لقد اختار الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم الخيار الأول من قوله عز وجل: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [سورة الشورى: 49- 50]، فلم يبق له صلى الله عليه وسلم ولد حيًّا حتى يكبر، بل كانت ذريته إناثًا، وحين وُلد له إبراهيم قبضه الله وهو طفل رضيع، في مشهد عظيم رواه أنس رضي الله عنه فقال: ((دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين، وكان ظئرًا لإبراهيم عليه السلام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبَّله وشَمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) رواه البخاري.

ولكن هل تذمر، أو ضجر، أو فعل مثل يفعل بعض القوم من حوله في الجاهلية، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [سورة النحل: 58- 59]، لا، بل كان يحب بناته، ويفرح بهن ويكرمهن، ويتقرب منهن، تقول عائشة رضي الله عنها: “أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مرحبًا بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله”، أليس هو الذي يقول: “فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني” رواه البخاري. 

لقد كان يحب بناته، ويرقّ لبنات المسلمين، ويأمر بالإحسان إليهن، عن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ، مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي؛ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: “مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ” رواه البخاري.

فرعاية البنات في الإسلام ليس له جزاء إلا الجنة، فهن حائط الصدّ والحماية من النار يوم القيامة لمن أحسن إليهن. كما في حديث آخر قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جِدِته؛ كُنَّ له حجابًا من النار يوم القيامة” رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

لقد كان قدوة فيما يقول ويأمر، لك أن تتصور إمام المسجد، وهو يتناول بنتا صغيرة ويصلي وهو يحملها، فماذا سوف تكون رؤية المصلين؟ عن أبي قَتَادَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ فَصَلَّى، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا” رواه البخاري.

بل هل تصورت إمامَ الأمة وقائدها العظيم يستدعي طفلة ليلبسها ويلاعبها، هذا ما فعله أعظم إنسان صلى الله عليه وسلم؛ تحكي أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عن ذكريات الطفولة، عندما زارت النبي برفقة أبيها، “أتى النبي صلى الله عليه وسلم بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة، فقال: من ترون أن نكسو هذه؟ فسكت القوم: فقال ائتوني بأم خالد. فأُتِيَ بها تُحمَل فأخذ الخميصة بيده فألبسها، وقال أبلي وأخلقي، وكان فيها عَلَم أخضر أو أصفر، فقال: يا أم خالد! هذا سناه، وسناه بالحبشية حسن” رواه البخاري.. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي (أي منعني أبي من العبث). فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “دَعْهَا”.

انظر كيف تركَ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصبية الصغيرة حتى تَلعبَ معه، وتعبث بثوبه وجسمه كما يحلو لها، فلا ينهرها، بل تراه يمازِحُها، ويلاعبها، ويضحك إليها، ويخاطبها بلغتها لغة أهل الحبشة.. ويعلق على ثوبها، كما يقول المسلم لأخيه عندما يلبس ثَوْبًا جَدِيدًا: تُبْلِي وَيُخْلِف اللَّه..!

لقد أذهل تعامله صلى الله عليه وسلم يقول السير وليم موير [حياة محمد]: “وكان [صلى الله عليه وسلم] سهلاً لين العريكة مع الأطفال، لا يأنف إذا مر بطائفة منهم يلعبون أن يقرئهم السلام!”.

يقول أنس بن مالك: “مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم“رواه مسلم.

وقال بريدة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران [يتعثران في المشي] فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال: “صدق الله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [سورة التغابن: الآية15]، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما” رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني.

وعن شداد بن أوس قال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا. قال شداد: فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ، قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ. قَالَ: “كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ” رواه النسائي وصححه الألباني!

اللهم ارزقنا حب نبيك حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا، واجعله لنا شافعًا مشفعًا، وأرونا من كفّه الشريفة شربة كوثرية هانئة.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله تعالى حمدا يكافئ نعمه ومزيده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله فلنتق الله تعالى، ولنتأس بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع شأنه، ومن ذلك انبساطه مع الأطفال، والنساء والبنات، وعدم التثريب عليهم، أو التوحيش منهم، فعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُؤتَى إليه بالصبيان “فيبرّك عليهم”– أي يدعو لهم بالبركة، “ويحنكهم” رواه مسلم– أي يضع في أفواههم التمر اللين الذي مضغه في حنكه الشريف. وعن أسامة بن زيد عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ وَيَقُولُ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا” رواه البخاري.

لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم يسلّم على الأطفال في الطرقات، ويمسح على رءوسهم ووجوههم، عن جابر بن سمرة قال: ((صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهم واحدًا واحدًا، قال: وأما أنا فمسح خدي، قال: فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار)) رواه مسلم.

هذه رحمته بعموم الأطفال، فكيف رحمته بالأيتام؟

عن سِهْلِ بنِ سَعْدٍ قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “أنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ في الْجَنّةِ كَهَاَتَيْنِ، وأَشاَرَ بإِصْبعَيْهِ يَعْنِي السّبّابَةَ وَالوُسْطَي” رواه البخاري.

وكان يواسي الأرامل في مصابهم، ويسأل عن أيتامهم، فمن أخباره صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب، أنه عندما قُتِل جعفر أمهل آل جعفر ثلاثاً، ثم أتاهم، يقول عَبْد اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تبكوا على أخي بعد اليوم”. ثم قال: “ادعوا لي بني أخي”. فجيء بنا كأنَّا أفرخ فقال: “ادعوا لي الحلاق” فأمره فحلق رءُوسنا” رواه أبو داود وصححه الألباني.

ثم لما رجع رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى أهله، قال لهم: “إن آل جعفر قد شُغِلُوا بشأن ميتهم، فاصنعوا لهم طعاماً” رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.

وبلغ من تبجيله للأرملة التي تنقطع لتربية أولادها أن قال صلى الله عليه وسلم:” أنا أول من يفتح باب الجنة فأرى امرأة تبادرني [أي تسابقني] تريد أن تدخل معي الباب، فأقول لها: من أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي” صحيح رواه أبو يعلى الموصلي وضعفه الألباني.

مات زوجها فأبت الزواج مع حاجتها إليه، وابتعدت عن مواطن الشبهات والريبة، وعكفت على تربية الأبناء. هذه المرأة مكانتها- في الإسلام- أنها تسابق النبي صلى الله عليه وسلم لتدخل معه الجنة!!

وحذر صلى الله عليه وسلم من الاعتداء على مال اليتيم داعيًا ربه: “اللهمَّ إنِّي أحرِّج حقَّ الضعيفينِ؛ اليتيم والمَرأة ” رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وحسنه الألباني. ومعنى الحديث: أي أُلحق الإثم بمن ضيَّع حقهما، وأحذّر من ذلك تحذيرًا بليغًا.

وعدّ أكل مال اليتيم من الموبقات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : “اجتَنبوا السَّبعَ الموبقَات”، قيلَ يَا رسولَ الله ومَا هنَّ ؟ فذكرهن إلى أن قال: “وأكلُ مالِ اليَتيم” رواه الشيخان.

هذا هو ديننا العظيم، أيها العالم، فمتى تؤمن بأنك أحوج ما تكون إليه؟

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضال المسلمين، اللهم انصر أهل الحسبة على من ناوأهم، واحفظهم من كل ضالّ مضلّ، وافضح من أضمر الشر لهم، وارزقهم الحكمة والموعظة الحسنة في عملهم، وآجرهم على أعمالهم.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً