رمضان والتغيير .. ومصارع الظلمة

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.

عباد الله اتقوا الله كما أمركم ربكم عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة 9/119].

أهنئكم بحلول شهر رمضان المبارك، شهر الرحمات والنفحات والعطايا الربانية، شهر النصر والثبات والسنن النبوية.

أحبتي في الله .. إن من رحمة الله U أن جعل لنا في هذا الشهر العظيم محطة نقف فيها ثلاثين يومًا، نقف مع أنفسنا نحاسبها على تقصيرها، ونفتش عن منابع الإيمان في قلوبنا، فنجلو الصدأ عنها لنصل إلى التقوى، التي هي ثمرة الصيام وغايته المرجوة. وليصبح العبد من المتقين الأخيار، ومن الصالحين الأبرار. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فقوله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }. تكشف أعظم حكمة من فرض الصيام: وهو الحصول على التقوى، إذن فالتقوى: هي الهدف الذي نصبه المولى أمام أعين عباده في هذا الشهر العظيم، ومن هنا ينبغي أن نسعى جميعا إلى الوصول إليه بتحويل الهدف إلى مشروع، له وسائله وغاياته. وإحداث هذا التغيير في حياتنا يتطلب استعدادا وتشميرا، وصحبة تساند ذات قوة وعزيمة تعين ولا تفتر، وتضحية بالملذات والشهوات المسيطرة، وصبرا ومصابرة حتى نصل إلى النجاح، وتخطيطا دقيقا مكتوبا، واستعدادا لدحر خطوات الشيطان وكيده وكل مقاومة من داخل النفس وخارجها وتفاؤل ببلوغ الهدف العظيم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة))(صحيح 6970).

ونتذكر دائما أن ثمن هذا التغيير معجل بالحصول على طعم الإيمان، وأن يكون الله عز وجل راضيا، معينا، حافظا: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك}، وثمن آخر مؤجل بدخول الجنة من باب (الريان)، وربما ينادى المرء من أبواب كثيرة، نسأل الله من فضله:

نبهت فينا أنفسا وعـقـــــــولا

وحللت للخير العميم رسولا

رمضان يا روض القلوب تحية

خطرت تجر إلى حماك ذيولا

قد جئت مرجوا لأكرم نفحة

تذر الفـؤاد بسحرها متبولا

أيامك الغراء طاهـرة الرؤى

مثل الحمائـم تستحم أصيلا

منذ أن يهل رمضان ومنادي الله ينادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر. إنه نداء خاص بشهر رمضان، يخاطب كل من شهده خطابا منفردا وكأنه موجه له، وهو خطاب مزدوج الطلب، ينادي  في المرء جانب الخير أن أقبل فهذا موسمك الذهبي، كل بذرة تضعها اليوم ستحصدها سبعين ضعفا ويزيد، وينادي جانب الشر فيه أن أقصر فكل أعوانك قد صفدوا، ولن يخلصوا إلى ما كانوا يخلصون إليه من قبل.

كل ابن آدم خطاء، وليس من الشجاعة بمكان الثبات على الخطأ، والإصرار على التشبث به، فإن ذلك ليس علامة رجولة ولا ذكاء ولا أريحية، بل هو عكس ذلك كله تماما، إنه زيادة طغيان واسترسال في الطريق المهلك.

لا بد من الإصرار على تغيير الحال، ومجاهدة النفس على ترويضها على ما يرضي الله وحده لا شريك له، ومراقبته في السر والعلن، والإخلاص له، ولعل من أبرز الوسائل العملية لإرغام النفس على ذلك، أن يعوِّد المسلم نفسه كتم حسناته وإخفاءها عن عيون الخلق كما يخفي عيوبه وسيئاته. فلا دواء للرياء مثل الإخفاء، وأن يجعل له خبيئة من عمل صالح لا يعلم به إلا الله تعالى؛ من عمل صالح، أو صلاة في جوف الليل، أو دمعة توبة واستغفار في وجه السحر، أو صدقة بيمينه تجهلها شماله، ولعل ذلك يشق في بداية المجاهدة، ولكنه إذا صبر عليه فترة بالتكلف، هان عليه ـ بعد ذلك بالمواصلة، وليعلم أن الله سبحانه يمد أمثاله بالتأييد والتسديد، فهو الذي يقول { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }، وأنه تعالى لا يقبل إلا من المتقين، فليتق الله ما استطاع إلى ذلك سبيلا .

أيها الأخ الحبيب.. أيتها الأخوات الكريمات.. لقد هبت نفحات رمضان على قلوبنا كالنسائم الطرية فأنعشتها، وأحدثت فيها تغييرا سريعا لم نستطع أن نتعرف سره، ولكننا نعيش نعيمه، أحسسنا بقربنا من الله أكثر من ذي قبل بمجرد أن شعرنا بقرب إطلالة الهلال، وشعرنا بالنداء الحبيب يحرك قلوبنا الساكنة، يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر. واستجابة لهذا النداء الرقيق نرى في رمضان إقبال الناس على الله تعالى، والحرص على الطاعات بشتى وجوهها، والإقلاع عن كثير من المعاصي والخطايا، مستروحين شذا المغفرة، راجين الله تعالى أن يكونوا من عتقائه من النار.

ولا شك أن رمضان هو شهر التوبة، وشهر المغفرة، فرسولنا صلى الله عليه وسلم يحكي عن جبرائيل عليه السلام أنه جاءه فدعا فقال: (( من أدركه شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله.. قل آمين ))، فقال الرسول: (( آمين )). رواه أحمد وهو صحيح.

كل شئ يتغير من أجل رمضان، ولكن السؤال يصارحنا: هل هذا التغيير يمثل استجابة عادة أم استجابة عبادة؛ حيث يدخل الشهرُ أجواء أرواحنا فيكتسح ما في داخلها من لغط الأيام وسفه الشباب وعناد الشيوخ، ويبدلها كما تبدل الثياب للصلاة ؟! إن التغيير يبدأ من الإنسان ذاته، يقول الله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من البيان، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الأخرى

الحمد لله قاصم الجبابرة، وأشهد ألا إله إلا الله تفرد بالبقاء والكبرياء، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين    أما بعد

فاتقوا الله عباد الله

سبعة عشر شهرا والكبير المتعالي يمهل طاغية الشام فيتمادى في سفك الدماء، وهتك الأعراض، وهدم البيوت على ساكنيها، سبعة عشر شهرا من العذاب يصبه المجرم على شعبه أمام نظر العالم وسمعه، والدعوات تسافر إلى هناك حتى يحين موعد الإذن الإلهي بالانتقام من جبار السماوات والأرض، إن أخذه أليم شديد.

الجيش السوري العرمرم كان يصنف من أقوى الجيوش العربية، فإذا به يتفكك وينهار أمام دعوات مجموعات من العزل وهي تهتف: ما لنا غيرك يا ألله، وفرق ممن انشقوا من الضباط والجنود بكرامتهم عن الطاغية، متحملين إعداماتٍ فورية، وقتلا لذويهم بالجملة، طغيان وأي طغيان ترفده روسيا والصين وإيران وحزب اللات بوجوه صفيقة، لا تقيم للأعراف والكرامة الإنسانية أي وزن.

العيون تتقلب في السماء ليل نهار، والأيدي تهتز بين يدي رب العالمين من أرامل وثكالى ويتامى، كل مؤمن في الأرض بقول: يا رب ، فيأتي الانتقام الرباني عظيما كما كانت الجرائم عظيمة، يتفجر مبنى الأمن القومي بالخلية السرية التي تمثل القيادة السورية العليا لكل العمليات الإجرامية، الخلية بأكملها تقتل في لحظة واحدة، الصف الأول من القيادة المجرمة بأكمله يتمزق، كم دفعوا الجند إلى القتل والنهب والحرق والتعذيب والسحل وهتك الأعراض، بل كانوا يقولون لهم: افعلوا ما بدا لكم/ كل شيء كل شيء، لكن الشيء الوحيد الذي ننهاكم عنه هو: الرحمة.. نعم الرحمة بهؤلاء الضعاف؛ أطفالا ونساء!! قلوب متحجرة .. صلدة .. قاسية ..

الحقيقة التي يتجاهلها الظلمة: أن سنة الله لا تتخلف، وأن يد الله تطال كل مخلوق في هذا الكون، فلن يستطيع أحد أن يفر من قدر الله وقوته مهما تحصن، يقول عز من قائل: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ [أي من حصونهم] وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِم الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}.

لقد هلك هولاكو بعد إفنائه آلاف الخلق، واندحر الاتحاد السوفييتي على أيدي أضعف مظلوميه بعد أن قتل ملايين الناس، وانتهت فترة الرئاسة الأمريكية لبوش الذي تسبب في مقتل الألوف من الشعوب المسلمة بفشل ذريع على جميع الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية والشعبية وبوداع مذل بالأحذية، ووقع القذافي بين يدي من قتل أهلهم وانتهك أعراضهم وخرب ديارهم؛ حتى مات عاريا جريحا ذليلا، والتاريخ القديم والحديث يحمل بين صفحاته سجلاً مرهقا بآلاف الظلمة الذين لقوا جزاء عتوهم وجبروتهم؟ وما من يدٍ إلا يدُ الله فوقها، وما ظالم إلا سيبلى بظالم.

السعيد من اتعظ بغيره، فقد عذّب أمية بن خلف مملوكه بلال الحبشي فكان قتل أمية على يده يوم بدر، وطغت أم أنمار على مملوكها خباب بن الأرت فكانت تأتي بصحائف الحديد المحماة تضعها على ظهره؛ لتردّه عن دينه فأصابها مرض لا يريحها منه إلا وضع الحديد المحمي على ظهرها بيد خباب، وتغطرس أبو جهل وتكبر فكان مصرعه على يدي فتيين صغيرين في بدر، وطغى فرعون واستعلى فكان موته غرقًا ذليلاً بين جنوده.

رباه أهلكت هؤلاء الطواغيت وأذللتهم، فأذق طاغوت الشام ميتة ذليلة تشفي صدور الثكالى والأرامل والمفجعين في أولادهم وذويهم وبيوتهم وأموالهم. اللهم أذقه طعم قهر الرجال، وأوقعه في أيدي جندك أسيرا حسيرا، حتى يلقى جزاءه. اللهم خذه وأعوانه ومن يدعمه وينافح عنه أخذ عزيز مقتدر. اللهم إن كانت لنا دعوة في هذا اليوم العظيم الجليل مستجابة عندك ـ وظننا فيك كبير ـ أن تجعلها خلاص إخواننا في الشام من بشار وأعوانه وجنده وتمكين أهل الإيمان لإقامة العدل والشريعة.

اللهم نسألك أن ترفع درجاتنا عندك، وأن تحببنا فيما يرضيك عنا، وألا تصرف عنا فضلك، يا سميع الدعاء. اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها. اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح ولاة   أمورنا ، ووفقهم لإصلاح رعاياهم ، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم ، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، سلما لأوليائك حربا على أعدائك . اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.  اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً