صناعة العلماء

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أعلى من شأن العلم وأهله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد  فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله وطاعته، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [سورة البقرة: 282].

عباد الله .. يدل حديث القصعة الذي أخرجه أبو داود وصححه الألباني: “ولكنكم غثاء كغثاء السيل”، على أن مشكلة الأمة في آخر الزمان هي مشكلة شحُّ النماذج الرفيعة لا مشكلة توفر أعداد وفيرة، فهل آن الأوان لانصراف اهتمامنا إلى الكيف عوضًا عن الافتتان بالكم، ونحن نربي أولادنا في بيوتنا وأولاد المسلمين في المدارس والجامعات؟

إلى كل من يريد أن يكون أولاده من أصفياء الله تعالى في أرضه، ومن أعلام عصرهم في فنون العلم وضروبه، أقول: إن من القواعد المقررة أن عظماء الرجال يرثون عناصر عظمتهم من أمهاتهم ومن آبائهم ومعلميهم، بتوفيق من الله تعالى وفضل ورحمة ورعاية.

إنك – أخي المسلم – تستطيع أن تمد حياتك في هذه الدنيا بأولادك، حين تربينهم على الطاعة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم،

 

 

 

 

فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له) [صحيح مسلم 1631].

       وأما إذا كانت الأم ترعى الأولاد بعد وفاة الأب فهي أجور متعاقبة؛ مادامت ترعاهم وتنفق عليهم، فعن أم سلمة قلت: ((يا رسول الله هل لي من أجر في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم ولست بتاركتهم هكذا وهكذا، إنما هم بَنِيّ. قال: نعم، لك أجر ما أنفقت عليهم) رواه البخاري ومسلم. والأجر لكل أب وأم ينفق على أولاده وأهله مخلصًا لله تعالى.

أصدقكم القول .. إن كثيرًا من طاقات الأمة قتلت في مهدها بأيدي من يجهل حقيقة الإبداع والعظمة المخبوءتين في نفوس أطفالهن، بل إن رؤية الوالدين للحياة تتحكم كثيرًا في مستقبل الطفل بعد تقدير الله تعالى، ولنرى ذلك فلنرحل – إذن – إلى المدينة النبوية؛ حيث نشأ إمام دار الهجرة مالك بن أنس – رحمه الله تعالى- في بيت علم ودين، فكان أبوه من رواة الحديث، وكان جده لأبيه من كبار التابعين، كما أن جد أبيه صحابي جليل، وكانت أمه من خيار الأمهات، ولذا اجتهدت في حثه على تحصيل العلم الشرعي، ووصيته بالتعبد والسمت الحسن. يقول مالك ((قلت لأمي أذهب فأكتب العلم؟ فقالت: تعال فالبس ثياب العلم، فألبستني ثيابا مشمرة وعمَّمتني، ثم قالت: اذهب فاكتب الآن))، قال مالك: ((كانت أمي تُعممني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه)).

نعم الأدب قبل العلم يا أماه، فبالأدب نحصل على العلم، وبدونه لا سبيل إليه. وهكذا فليكن وعي الوالدين، ورؤيتهم للمستقبل، لقد صبغت هذه الكلمة حياة هذا الفتى حقيقة لا قولاً، وواقعًا لا خيالاً، فغدا مدرسة في الأدب ينهل طلابه من هيئته وسمته، وتقتبس الأمة من سيرته، بل حملها رسالة في حياته لتلاميذه من بعده فقال يومًا لفتى من قريش: “يا ابن أخي تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم”. صدقت فلا خير في علم امرئ لم يُكسبه أدبًا ويُهذبه خُلقًا. وإذا حدثت الجفوة بين العلم والأدب فإنها تفرز أعرافًا مَرَضِيّة، منها: التهجم على العلماء، والتطاول على الفضلاء، وسوء الأخلاق، وشذوذ السلوك، وعقوق الوالدين، والتقليد الأعمى، ونزع البركة من العلم ذاته.

إنها أم لا كالأمهات، أمّ عرفت أن ابنها مشروع علمي، ومورد عذب، وذكاء نادر، فجعلته همها الأهم، فأحسنت تربيته، ووفقت في تنشئته، ملتفتة إلى أعظم علماء عصره.

 وكذلك ربيعة الرأي؛ علمت هذه الأم وهي عالية بنت شريك الأزدية أن ابنها ليس أقل من هذا العالم العظيم ربيعة لو أنه وجد منها ومن مجتمعها العناية الكافية.

إذا ما عدّت العلماء يومًا

 

فمالك في العلوم هو الضياء

تبوّأ ذروة العلماء قوم

 

فهم كالأرض وهو لهم سماء

وهكذا تربية النساء الجليلات، فقد نشأ أحمد بن حنبل في حضن أمه بعد وفاة أبيه؛ فأصبح إماما من أئمة الدنيا؛ يقول – رحمه الله – : “حفظتني أمي القرآن وكان عمري عشرًا، وكانت توقظني قبل الفجر، فتدفئ لي الماء إذا كان الجو باردًا، ثم نصلي أنا وهي ما شاء الله لنا أن نصلي، ثم ننطلق إلى المسجد وهي مختمرة لتصلي معي في المسجد، فلما بلغت السادسة عشر، قالت: يا بني سافر لطلب الحديث؛ فإن طلبه هجرة في سبيل الله”.

فلربما اشتاق كل أب وكل أم يسمعانني أن يكون ابنهما عالمًا كبيرًا، أو طبيبًا حاذقًا، أو داعية محبوبًا، أو مخترعًا مبدعًا، ولكن قد يصنفان ابنها أنه دون ذلك، فليس من بادرة تدل على ذكائه وإبداعه، وإنما هو مشاغب متعب، ومزعج لعاب، لا يرتاح ولا يريح، فتظن أنه غبي قاصر، وربما كان عبقريًّا عظيمًا، ولكنها تقمعه وتكرهه على الهدوء والاستكانة، وبين جنبيه طاقة خلاقة متوثبة، تحتاج إلى توجيه لا إلى كبت، إلى تبصير لا إلى تجهيل، إلى عناية وتشجيع، لا إلى تثبيط وتهوين من العزيمة الناشئة الطموح.

أخي .. قدّر ابنك أو ابنتك كثيرًا وأنت ترسم له لوحة المستقبل الجميل، بل احلم بقدر الحب الذي تكنّه له، ووسّع حُلُمَك كثيرًا؛ فهو جدير بذلك، ولربما تقر عينك به قريبًا، وقد أصبح من عداد طلبة العلم الذين يُشار إليهم بالبنان؛ قال سفيان بين عيينة: ((لو رأيتني ولي عشر سنين، طولي خمسة أشبار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، اختلفت إلى علماء الأمصار، مثل الزهري وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتيكالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير. ثم تبسم ابن عيينة وضحك)).

فانظر كيف كانوا يحثونهم على طلب العلم وهم فيمثل هذه السن الصغيرة وكيف كانوا يدفعونهم إلى حضور مجالس العلماء الكبار، ويقدرونهم إذا حضروا. فأين نحن اليوم من هؤلاء، وأين يقضي أطفالنا أوقاتهم، وكم نصيب الكتاب من حياتهم، وكم نصيب البلاي ستيشن وشاشات التلفاز من حياتهم؟! أسئلة يمكن تغيير إجاباتها عن الواقع غير المرضي الذي نعيشه.

{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 84].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الأخرى:

الحمد لله ولي الصالحين، وأشهد ألا إله إلا الله الواحد الغفار، وأشهد أن محمدًا عبدُالله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا ما توالى الليل والنهار.

 أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا بأن ميول الإنسان ومعالم شخصيته ربما تتضح في وقت مبكر من حياته، وهذه الميول تتنامى لتكوّن القالب الذي يميّز الفرد عن غيره، والبيت هو البيئة التي تصنع هذه العجينة المباركة لتكون قمة من قمم الأرض، ونجمًا يُهتدى به في السماء بإذن الله تعالى.

في مدينة الكوفة،تفتحت عينا سفيانبن سعيد الثوري على كتب الحديث والفقه تحيط به من كل جانب، فقد كان والده من العلماء الكبار الذين يحفظونأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أمه صالحة يتأجج الطموح بين جنبيها. ولكن أسرته كانت فقيرة، فلم يمنع أمه أن تتولى شأن جلب المعيشة بمغزلها الواهن، وكأن حالها يقول:

واجهت معركة الحياة بإبرة

 

فإذا هزمت فإنني معذور

كانت أم سفيان تنظر إليه وهو مازال طفلاً وتقول له: ((اطلب العلموأنا أعولك بمغزلي)). كان يمكن أن توجهه لطلب المعيشة، لو كانت تريد الحياة الدنيا وزينتها، ولكنها لا تفكر في الجاهولا الثراء، بل كان كل ما كانت ترجوه لولدها أن يتعلم علمًا نافعًا يبتغي به وجه الله.

وبدأ سفيانيتعلمويجعل من والده قدوة صالحة له، ويستجيب لرغبة والدته التي أحبها من قلبه. ومرت الأيام، وأصبحسفيانشابًّا فتيًّا، وفي إحدى الليالي أخذ يفكر ويسأل نفسه: هل أترك أمي تنفق عليَّ؟ لا بدمن الكسب والعمل! لأن أخلف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها، أحب إليَّ من أن أحتاجإلى الناس؛ ومن أجل ذلك عملسفيانبالتجارة، ولم يكن المال هدفه في الحياة، بل وهبسفياننفسه للعلم،فكان يقول: ((الرجل إلى العلم أحوج منه إلى الخبز واللحم))

أليس هو هذا الدرس الذي تعلمه من أمه؟

ومن عصرنا الحاضر الإمام المبجل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، نشأ سماحته في بيئة عطرة بأنفاس العلم والهدى والصلاح، بعيدة كل البعد عن مظاهر الدنيا ومفاتنها، وفي بيئة غلب عليها الأمن والاستقرار وراحة البال، بعد أن استعاد الملك عبد العزيز – رحمه الله – الرياض ووطد فيها حكمه على الشريعة الإسلامية، فنشأ سماحته في بيئة علمية كان فيها القرآن العظيم النور الذي يضيء حياته، فحفظ الشيخ القرآن الكريم عن ظهر قلب قبل أن يبدأ مرحلة البلوغ، ثم ابتدأ في طلب العلم على يد العلماء بجد وجلد وطول نفس وصبر.

ولقد ذكر سماحته في محاضرته النافعة رحلتي مع الكتاب: أن لوالدته – رحمها الله – أثرًا بالغًا، ودورًا بارزًا في اتجاهه للعلم الشرعي وطلبه والمثابرة عليه، فكانت تحثه وتشد من أزره، وتحضه على الاستمرار في طلب العلم والسعي وراءه بكل جد واجتهاد.

وهكذا تقف الأم العظيمة التي ربما نجهل حتى اسمها وراء عظمة الكبار الذين يبنون التاريخ بلبنات عقولهم، ورحيق أرواحهم.

ولا ننسى أن التوفيق في التربية هبة من الله تعالى، ولذلك فعلينا بالدعاء والابتهال إليه، أن يصلح لنا أولادنا ويربيهم لنا، فقد ذكر الشيخ الجليل أبو الحسن الندوي – رحمه الله – أنه لم تكن حاله في طفولته تبشّر بنبوغ، بل كان النساء يعيّرن أمه به، ويشفقون عليها منه، فانصب اهتمامها على أمرين؛ الدعاء له ليلاً ونهارًا، والسعي في تربيته على الإيمان والصلاة والتواضع للخلق، يقول: فعلمت بـ”أن ما قدّر الله لي من خير، وما آتاني به من الفضل والزلفى لدى عباد الله الصالحين، وما منحني من عطفهم وأدعيتهم، كل ذلك يرجع إلى تلك الأدعية المضطرة التي كانت تدعو بها والدتي، وصدق الله العظيم: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلََهٌ مّعَ اللّهِ قَلِيلاً مّا تَذَكَّرُونَ} [سورة النمل:62].

ولما بدأت أشدو وأكتب، نصحتني والدتي، وأكدت الأمر بأن أبدأ كل ما أكتب بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، اللهم آتني بفضلك أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين))، وقد بقي ذلك عادتي وديدني مدة الزمن، ولا أزال أذكر في مناسبات كثيرة هذه الكلمات الصالحة.

لقد تذكر التاريخ أبا الحسن الندوي رغم يأس طفولته، ونسي كل الذين عابوه وعيروا أمه به. ألا فلتصنعوا أولادكم صناعة، مهما كانت حدود طاقاتهم باسم الله العظيم، متخذين من الدعاء والمثابرة والجدية في تربيتهم سُلمًا للوصول إلى المجد العلمي الذي تؤملونه فيهم، فإن الله يبارك في دعاء الوالدين بركة عظيمة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ، لاَ شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ» [سنن أبي داود 1538 وحسنه الألباني].

وأختم بصورة رائعة من تاريخ عظمائنا الأمجاد حيث وُلد النووي – رحمه اللّه تعالى – في قرية نوى من أبوين صالحين، ولما بلغ العاشرة من عمره بدأ في حفظ القرآن وقراءة الفقه على بعض أهل العلم هناك، وصادف أن مرَّ بتلك القرية الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي، فرأى الصبيانَ يُكرِهونه على اللعب وهو يهربُ منهم ويبكي لإِكراههم ويقرأ القرآن، فذهب إلى والده ونصحَه أن يفرّغه لطلب العلم، فاستجاب له؛ فأصبح الإمام العظيم المبارك صاحب رياض الصالحين، والأربعين النووية، والأذكار، وشرح صحيح مسلم وغير ذلك.

بلغت لعشر مضت منـ سني-

 

ك ما يبلغ السيد الأشيب

فهمك فيها جسام الأمو

 

ر وهم لِداتِك أن يلعبوا

وكأن ابن الجوزي يصف هؤلاء في قوله يصف الذين يختارهم الله لولايته: ((فذاك الذي يربيه من صغره، فتراه في الطفولة معتزلاً عن الصبيان، كأنه في الصبا شيخ، ينبو عن الرذائل، ويفزع من النقائص، ثم لا تزال شجرة همته تنمو حتى يرى ثمرها متهدلاً على أغصان الشباب، فهو حريص على العلم، منكمش على العمل، حافظ للزمان، مراعٍ للأوقات، ساعٍ في طلب الفضائل، خائف من النقائص.

ولو رأيت التوفيق والإلهام الرباني يحوطه، لرأيت كيف يأخذ بيده إن عثر، ويمنعه من الخطأ إن همَّ، ويستخدمه في الفضائل)) صيد الخاطر.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين وانصر عبادك الموحدين،  اللهم لا تبلغ أهل الفساد بكل أشكالهم وأغراضهم ما يريدون، ورد كيدهم في نحورهم، اللهم احفظ على هذه البلاد خاصة وبلاد المسلمين عامة الأمن والاستقرار والطمأنينة والاستقامة، اللهم احفظ هذه البلاد رائدة بدينها وتحكيم شريعة الإسلام، اللهم انصر بها دينك وكتابك وعبادك الصالحين.

اللهم أعن أولياء أمورنا للعمل بما يرضيك، وارزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الحق وتدلهم عليه، اللهم انصر بهم دينك وأمة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك، يحبون بحبك من أحبك، ويعادون فيك من عاداك.

 

اللهم فرِّج همّ المهمومين ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً