الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفضل بالنعم، كاشف الضراء والنقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله وطاعته، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة: 119].
أيها الأحبة في الله: أجدّد لكم التهنئة بعيد الفطر المبارك، وأسأل المولى عز وجل أن يتقبل منا رمضان على ما فيه من التقصير والنقصان، إنه كريم العطايا، عظيم السجايا.
وماذا بعد رمضان، هل انتهى العهد مع الله، لا والله حتى تسلم الروح أمانتها، هل نجفو المساجد، وتعود الأبدان إلى المراقد، لا والله بعد أن ذاقت جمال الاجتماع على طاعته، وروعة الصلاة في بيته، وهدأة الروح في كنفه وهو الرحمن الرحيم.
إن المسلم مطالَب بالمداومة على الطاعات، والاستمرار في الحرص على تزكية النفس، {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 10-11].
ومن أجل هذه التزكية شُرعت العبادات والطاعات، وبقدر نصيب العبد من الطاعات تكون تزكيته لنفسه، وبقدر تفريطه يكون بُعده عن التزكية.
لذا كان أهل الطاعات أرق قلوبًا، وأكثر خشوعًا، وأهل المعاصي أغلظ قلوبًا، وأقل استقامة.
والصوم من تلك العبادات التي تطهر القلوب من أدرانها، وتشفيها من أمراضها؛ لذلك فإن شهر رمضان يعدُّ موسمًا للمراجعة، وفرصة لتصفية الماضي من أكدار الذنوب، فهنيئًا لمن كُتب من المقبولين، والمغفور لهم، والعتقاء من النار.. اللهم برحمتك اجعلنا ووالدينا والمسلمين والمسلمات جميعًا منهم، برحمتك التي وسعت كل شيء.
وصيام الستة من شوال بعد رمضان، فرصة أخرى من تلك الفرص الغالية، بحيث يقف الصائم على أعتاب طاعة أخرى، بعد أن فرغ من صيام رمضان؛ ليعلن بحال قلبه وجوارحه بأنه لم يكن رمضانيًّا لا يعرف الله إلا في رمضان، بل إن الحسنة تجذب الحسنة، والبر يأتي بالبر.
بيان من أعظم إنسان على الإطلاق يقول فيه – صلى الله عليه وسلم -: (من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر) [رواه مسلم وغيره].
فأيّ قلب مؤمن يسمع هذا العرض العظيم ثم يتأخر عنه؟ كصيام الدهر، وهل يطيق أحد أن يصوم الدهرَ كلَّه؟ ولكنها أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي تُجازَى على العمل القليل بالأجر الكثير.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: قال العلماء: (وإنما كان كصيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين..)، بل نقل الحافظ ابن رجب عن ابن المبارك أعظم من ذلك، فقال: (قيل: صيامها من شوال يلتحق بصيام رمضان في الفضل، فيكون له أجر صيام الدهر فرضًا).
أخي المسلم: إن صيام هذه الست بعد رمضان دليل على شكر الصائم لربه تعالى على توفيقه لصيام رمضان، وزيادة في الخير، كما أن صيامها دليل على حبّ الطاعات، ورغبة في المواصلة في طريق الصالحات.
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: (فأما مقابلة نعمة التوفيق لصيام شهر رمضان بارتكاب المعاصي بعده، فهو من فعل من بدّل نعمة الله كفرًا)، وكأنه يشير إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 28 – 29].
أخي المسلم: إذا كان للطاعات مواسمها، فإن ذلك لا يعني توقف تجارتها طوال العام، بل إن موسم الطاعات يستمر مع العبد حياتَه كلَّها، ولا ينقضي حتى يدخل قبره، قيل لبشر الحافي -رحمه الله-: إن قومًا يتعبدون ويجتهدون في رمضان. فقال: (بئس القوم قوم لا يعرفون لله حقًّا إلا في شهر رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها)، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام: 162].
أخي المسلم: في مواصلة الصيام بعد رمضان فوائد عديدة، يجد بركتها أولئك الصائمون لهذه الست من شوال.
وإليك هذه الفوائد أسوقها إليك من كلام الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: “إن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله، إن صيام شوال وشعبان كصلاة السنن الرواتب قبل الصلاة المفروضة وبعدها، فيكمل بذلك ما حصل في الفرض من خلل ونقص، فإن الفرائض تكمل بالنوافل يوم القيامة.. وأكثر الناس في صيامه للفرض نقص وخلل، فيحتاج إلى ما يجبره من الأعمال”.
إن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان، فإن الله تعالى إذا تقبل عمل عبد، وفّقه لعمل صالح بعده، كما قال بعضهم: ثواب الحسنةِ الحسنةُ بعدها، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها، كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها.
إن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب -بإذن الله تعالى-، والصائمون لرمضان يُوفون أجورهم في يوم الفطر، وهو يوم الجوائز فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكرًا لهذه النعمة، فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتورم قدماه، فيُقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فبقول: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) [متفق عليه].
وقد أمر الله -سبحانه وتعالى- عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار ذكره، وغير ذلك من أنواع شكره، فقال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
بارك الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الأخرى:
الحمد لله عدد كل شيء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن شكر نعمة العبادة عبادة بعدها، حتى يظل العبد في روضات الروح اليانعة، يتنعم بروحها وريحانها، لقد كان بعض السلف إذا وُفِّق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهارها صائمًا، ويجعل صيامه شكرًا للتوفيق للقيام.
وكان وُهيب بن الورد يُسأل عن ثواب شيء من الأعمال كالطواف ونحوه، فيقول: “لا تسألوا عن ثوابه، ولكن سلوا ما الذي على من وُفِّق لهذا العمل من الشكر، للتوفيق والإعانة عليه”!!
أيها الأحبة في الله .. سُئلت عائشة -رضي الله عنها-: “هل كان النبي يخصّ يومًا من الأيام؟ فقالت: لا .. كان عمله ديمةً”، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقضي ما فاته من أوراده في رمضان في شوال، فترك في عام اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، ثم قضاه في شوال، فاعتكف العشر الأُوَل منه.
أيها الإخوة، وفيما يلي أورد بعض الفتاوى المتعلقة بست شوال: سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله -: هل يجوز صيام ستة من شوال قبل صيام ما علينا من قضاء رمضان؟ فأجاب: قد اختلف العلماء في ذلك، والصواب أن المشروع تقديم القضاء على صوم الست، وغيرها من صيام النفل، لقول النبي : (من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر)، أخرجه مسلم في صحيحه، ومن قدَّمَ الست على القضاء لم يتبعها رمضان، وإنما أتبعها بعض رمضان، ولأن القضاء فرض، وصيام الست تطوع، والفرض أولى بالاهتمام”. [مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: 5/273].
وسُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء: هل صيام الأيام الستة تلزم بعد شهر رمضان عقب يوم العيد مباشرة، أو يجوز بعد العيد بعدة أيام متتالية في شهر شوال أو لا؟ فكان الجواب: (لا يلزمه أن يصومها بعد عيد الفطر مباشرة، بل يجوز أن يبدأ صومها بعد العيد بيوم أو أيام، وأن يصومها متتالية أو متفرقة في شهر شوال حسب ما تيسر له، والأمر في ذلك واسع، وليست فريضة بل هي سنة). [فتاوى اللجنة الدائمة: 10/391، فتوى رقم: 3475].
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: بدأت في صيام الست من شوال، ولكنني لم أستطع إكمالها بسبب بعض الظروف والأعمال؛ حيث بقي عليَّ منها يومان، فماذا أعمل يا سماحة الشيخ، هل أقضيها وهل عليَّ إثم في ذلك؟ فكان الجواب: (صيام الأيام الستة من شوال عبادة مستحبة غير واجبة، فلك أجر ما صمت منها، ويرجى لك أجرها كاملة إذا كان المانع لك من إكمالها عذرًا شرعيًّا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر، كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا) [رواه البخاري في صحيحه]، وليس عليك قضاء لما تركت منها. والله الموفق) [مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: 5/270].
أخي المسلم: تلك بعض الفتاوى التي تتعلق بصيام الست من شوال، فعلى المسلم أن يستزيد من الأعمال الصالحة، التي تقرّبه من الله تعالى، والتي ينال بها رضا الله تعالى.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارحم المستضعفين والمحتاجين من المسلمين، اللهم اهد أولياء أمورنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، اللهم أصلح لهم البطانة والمشورة، وجنبهم ما تكره وتأبى. اللهم اجعلهم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.. يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا، وتقبل منا عملنا في رمضان، واجبر ما فيه من التقصير والنقصان.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.