ظاهرة إطلاق النار في الأعراس

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار.

عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله وطاعته، استجابة لأمر الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

أيها الأحبة..

إن السُّنّة إعلان النكاح، والوليمة عليه، والضرب عليه بالدفوف للنساء، وكل ذلك وغيره؛ من أجل أن يسعد الزوجان، ويسعد أهلهما بهما، وفيه نشر للفطرة، وتأكيد على مسارها الصحيح، في مقابل تحقير الزنا والمثلية، ومن يقوم بمثل ذلك، والذي يحدث في غيبة الإيمان، وبعيدًا عن أعين الناس؛ خوفًا من العار والحدود والتعزيرات التي تلحق بأصحاب هذه الموبقات.

ولكن إعلان الفرح يجب ألا يتعدى الحدود إلى الإسراف في الدعوة، ولا الإسراف في الولائم، ولا التباهي والتفاخر بالتوسع فيما لا يحسن؛ بل لا يجوز من حفلات غنائية صاخبة، أو ضرب للنار بالرشاشات والبنادق والمسدسات في وجود الناس دون مبالاة بأرواحهم.

ولقد حزِنت قلوبنا على إخواننا وأخواتنا في قرية عين دار بمحافظة بقيق، وما حدث لهم من جراء سقوط كابل كهربائي ناقل للضغط العالي من جراء إطلاق أعيرة نارية من بعض المدعوين، أودى بحياة خمسة وعشرين رجلاً وامرأة وطفلاً، وإصابة سبعة وثلاثين شخصًا آخرين.

مصيبة كبرى، وحادثة جلل، كيف تحول الفرح إلى حزن، واستحال العرس مأتما وأي مأتم، أرواح مسلمة، وأنفس بريئة، أزهقت من أجل تعبير سيء عن البهجة، تتكرر هذه المآسي، وننسى، ونعود مرة أخرى إلى الأخطاء القاتلة، هل هذا شأن المؤمن الذي لا يُلدغ من جحر واحد مرتين؟!

لقد رأيت بنفسي مقاطع من الفيديو في أعراس مختلفة، في أحدها قتل شابٌّ عمَّه، وجرح أحد الضيوف، ورأيت طفلاً أخذ المسدس من والده في عرس آخر وقتله به فورًا، وقرأت حوادث أخرى؛ منها ما وقع داخل إحدى قاعات الأفراح؛ حيث تسببت رصاصة انطلقت أثناء عبث أحد الحضور بسلاحه في مقتل طالب تخرج في المرحلة الثانوية، وأنهى اختباراتها قبل أسبوع من وفاته، وكان ضحية الطلقة الأخرى طالب آخر، كان ينتظر تسلم شهادة التخرج في صباح اليوم التالي.

وفي إحدى البلدات تُوفي شاب في أحد الأفراح بعد أن اخترقت رصاصة طائشة ظهره لتخرج من صدره أمام أقاربه والمدعوين.

وفي محافظة أخرى اخترقت شظية نارية ساق فتاة في الخامسة عشرة من عمرها وهي داخل منزل أسرتها؛ حيث فُوجئت بالإصابة بعد مسيرة فرحٍ صَاحَبَها إطلاقُ نارٍ كثيف بمناسبة زفة أحد العرسان، وذلك أمام مرأى والدتها.. والحوادث أكثر من أن تُحصى!!

فكيف إذا كان القتيل هو العريس نفسه؛ حيث يتحول مشلح العرس إلى كفن له، ويتحول عش الزوجية الذي ينتظر شقشقة الأطيار، إلى قبر مظلم، نسأل الله أن يجعله على كل مسلم بردًا وسلامًا وضياء.

ويزيد من فجيعتها كون القاتل أو المتسبب من أسرة المقتول أو من أصدقائه، وفجأة الواقعة في موقع فرح!!

أطفال يُقتلون أو ييتمون بلا جريرة! ونساء تزهق أرواحهن أو يترملن أو يثكلن فلذات أكبادهن بلا ثمن! ورجال نفقدهم برصاصات تافهة لا قيمة لها، لا هي في الدفاع عن بلادنا، ولم تطلق لاستعادة مقدساتنا.

أيها الأحبة..

 ماذا بعد هذه الحوادث؟ ولماذا تستمر؟ ومن المسئول عن تكرارها؟

هل إلى هذا الحد أصبح مجتمعنا ضعيفًا، غير قادر على إنهاء مظاهر العادات البالية، التي تشوّه وجه أمننا الوارف، وتعكر صفو أفراحنا التي نزف فيها أحبابنا، ونحقق فيهم آمالنا؟!

هل فعلاً لا نسعد إلا إذا سمعنا إطلاق الرصاص، وأزعجنا المدعوين وخوفناهم بدلاً من أن نسعدهم؟ 

هل أصبحت أرواح أحبابنا ومن خصصناهم بالدعوة رخيصة إلى هذا الحد الذي يحجب أمام أعيننا التفكير المتعقل قبل أن نضغط الزناد؟

هل تهديد أرواح من أكرمناهم بالدعوة جزء من الترحيب والإسعاد؟

وهل هذا حق الجوار؟ فلقد سمعت من جيران بعض الساحات المخصصة للأعراس تبرمهم، وخوفهم من مخلفات الرصاص التي تنزل من الجو مثل الجمرات في بيوتهم أو قريبًا منها، وفيها الأطفال الذين قد يخرجون بدافع التعرف والفضول، فيصيبهم منها ما قد يصيبهم لا قدر الله تعالى.

وكبار السن الذين قد يستيقظون مذعورين من دوي الرصاص، وربما دعا أحدهم بدعوة فُتِّحت لها أبواب السماء في وقت إجابة، فخسر أهل العرس التوفيق والسعادة، أو أصاب من أطلق الرصاص منها والعياذ بالله من كل شر وبلاء.

أو بعد أن سلَّم الله تعالى بلادنا من الحروب والفتن، نجلب إليها صورة بائسة من صورها التعيسة؟!

أخطأ بل أجرم من يظن أنه بذلك يدخل السرور على أهل العرس، بل كثيرًا ما يحرجونهم أمام المسئولين الذين يمنعون مثل هذه البوادر الكريهة.

وأخطأ بل أجرم من يعتقد بأن هذه الطريقة تثبت رجولته، فليس من الرجولة في شيء إزهاق روح لها عند الله قدر عظيم حتى قال الله في كتابه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [سورة المائدة: 32].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الأخرى:

الحمد لله حمد الشاكرين الأبرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله وأطيعوه، واعلموا بأن مرجع المسلم هو كتاب ربه، وسنة حبيبه وقدوته محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما يؤخذ العلم من أهله، وقد سُئل أهل العلم عن حكم إطلاق العيارات النارية في الهواء بمناسبة الأفراح وغيرها، فأجابوا أن هذا لا يجوز للأسباب التالية:

الأول: ما فيه مِن تخويف وأذى للمسلمين، فقد حدث كثيرًا أن بعض هذه الطلقات أصابت بعض الناس عن طريق الخطأ فأدت إلى وفاتهم أو جرحهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا) رواه أبو داود (5006) وصححه الألباني.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن حمل السلاح مكشوفًا خشية أن يؤذي المسلمين عن طريق الخطأ، ونهى عن الإشارة بالسلاح إلى المسلم خشية أن تزلّ يده بنَزْغٍ من الشيطان الرجيم، فكيف بمن يستعمل السلاح فعلاً ويتسبب بأذى المسلمين؟! قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا، أَوْ قَالَ: فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَيْءٌ) رواه البخاري (775).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ) رواه مسلم (2616).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ) رواه مسلم (2617).

والأمر الثاني أنه إتلاف للمال بلا فائدة، وهذا تبذير وإسراف نهى الله تعالى عنه بقوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27].

والأمر الثالث أن هذا العتاد الذي يُستهلك إنما صُنع للدفاع عن الدين والوطن والمواطنين، فلا يجوز استعماله بهذه الطريقة العبثية البعيدة عما جُلب هذا السلاح من أجله، واستعمال النعمة في غير ما خُلقت له هو من كفران النعمة.

ولقد نهى ولي الأمر عن إطلاق النار بهذه المناسبات، وإذا نهى ولي الأمر عن مباح، فلا يجوز فعله، فكيف إذا نهى عن هذه الأمور وفيها من المخاطر ما ذكرنا.

لهذا كله فإن الواجب يقتضي الابتعاد عن تقليد الناس في هذه العادة المنافية للشرع، وليكن التعبير عن الفرح بما أحله الله تعالى، لتبدأ الحياة الزوجية بالطاعة، فيبارك الله فيها. والله تعالى أعلم.

وأكد المختصون بأن إطلاق النار في حفلات الزفاف يعدُّ أمرًا مخالفًا للأنظمة، ويعاقب عليه القانون؛ حيث إن عقوبة حمل السلاح واستخدامه في الأماكن العامة تصل إلى السجن لمدة خمس سنوات، حتى لو كان مرخصًا لكون الترخيص جاء للدفاع عن النفس في وقت الضرورة، وليس للتباهي بالسلاح والتهاون بأرواح الناس، وشددوا على أنه يحق للمواطن أو المقيم تقديم دعوى ضد مطلقي النار في حفلات الزفاف في حال تضرّره سواء أكان معنويًّا أم جسديًّا؛ حيث إن تعرُّضه للخوف أو الضرر يخوّله لتقديم شكوى والحصول على الحق الخاص.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين .

 

اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين. 



اترك تعليقاً