عبرات في أثر الحجيج

عبرات في أثر الحجيج

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا عباد الله.. أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، استجابة لقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

أيها الأحبة في الله..

أيام معدودات وتكتمل منظومة الحجيج في منى؛ ليصعد وفد الرحمن إلى عرفات، وهناك تتحقق -بإذن الله – الأماني العظام، ويقع الركن الأعظم في النفوس الولهة أعظم موقع، فتسكب العبرات، وترتفع الدعوات، فهنيئًا لوفود الرحمن وقوفهم عند جبل الرحمة مقبلين على الله، منيبين إليه، ونفوسهم تتطلع إلى مغفرة الله والفوز بجنته والعتق من النار.

طوبى للحاج الذي لا يغفل عن الذكر والشكر، والإلحاح بالدعاء والتلبية باكيًا على ما كان من الذنوب والآثام، سائلاً المولى العزيز العون على طاعته، رافعًا إلى مولاه كل حاجاته؛ ليستأنف بعد حجه حياة جديدة مليئة بالنور والخيرات.

وطوبى لمن شارك الحجاج يومهم هذا بصيامه، لينال أجرًا عظيمًا، وتكفير سنتين ماضية ولاحقة، وشاركهم بالإكثار من الذكر والدعاء، متعرضًا لنفحات الله تعالى فيه، فإن الله جواد كريم، لا يرد من سأله خيرًا، وشاركهم في يوم العيد بأفضل عمل فيه، وهو إهراق دم الأضاحي؛ لأن ذبحها أفضل من التصدق بثمنها؛ فهي سُنّة النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن مقاصد الأضاحي: إظهار شعائر الله، وإطعام المساكين، ولا سيما اللحم الذي يشتهيه المساكين سائر العام، ولكن يعسر على أكثرهم شراؤه، وفي بلدان كثيرة من أمة الإسلام من لا يذوق اللحم إلا نادرًا، بل ربما لم يجدوا ما يسد جوعتهم، وهناك من الهيئات الإسلامية الموثوقة في بلادنا، ولله الحمد، من يقوم بالتوكل عن المضحي هناك فيذبح عنه ويطعم، وفي هذا مع أجر الإطعام أجر إظهار الشعيرة بينهم، وتأكيد انتمائهم لدينهم، وارتباطهم بإخوانهم المسلمين، وتحصين لهم من إرساليات الديانات الأخرى، التي تستغل فقرهم وحاجتهم، وهذه المشاركة ظاهرة النفع ولن تؤثر في الغالب على ظهور الشعيرة في بلدان المسلمين الغنية لكثرة الأضاحي فيها. على أني أخص من ليس لديه سوى أضحية واحدة بأن يذبحها في بلده، وأما من لديه أكثر من ذلك، فليجعل لإخوانه الفقراء في بلاد الله الأخرى نصيبًا.

أخي الحاج.. لعلي أدركك هذا اليوم قبيل أن تحج فأقول لك:

إن من البركة في حياة المسلم أن يتعدى نفعه إلى الآخرين، فيكون حقلاً مثمرًا يقيل فيه الضاحون، وغيمة كريمة يُغاث بها الملهوفون، ومنزلاً رحبًا يسكن إليه المحتاجون. تلك هي البركة التي وصف الله تعالى بها نبيه عيسى عليه الصلاة والسلام حكاية على لسانه فقال: { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ } [مريم: 31]، وأنا اليوم أدعوك أن تبحث عن هذه البركة في حياتك، وأنت تستقبل ضيوف الرحمن، مارين في ديارك، أو وأنت معهم في الديار المقدسة، وكأني بك تقول لهم:

منزلنا رحب لمن زاره     نحن سواء فيه والطارق

نعم أنت جزء من هذا الوطن الغالي الذي يتشرف بخدمة الحجيج، والسهر على راحتهم، فلا تقل ليس في قدرتي أن أخدمهم بشيء فإنك تستطيع الكثير:

   ومن عرف المحامد جـدَّ فيها        وحــــــنَّ إلى المحامد باحتياله

   ولم يـــستــــغـلِ محمـدة بـــمــال        ولو أضحت تحيط بكل ماله

إن الذي ينبغي لك أن تخدم في المجال الذي تجيده، فإن كنت من أهل العلم، فلا تبخل على إخوانك بفتوى أو نصيحة أو إرشاد، ولاسيما حينما يستفتيك أو يستنصحك أو تراه يحتاج إلى علمك، فهو حينئذ واجب عليك أن تؤديه.

وإن كنت ترى أن لك في الدعوة راية وميدانًا، فها هي ذي أبوابها مشرعة: الوعظ والخطابة، وإلقاء الدروس العلمية والمحاضرات، وتدبيج المصنفات والمقالات في المؤلفات والصحف والمجلات، وسائر وسائل الإعلام، وإن عجزت عن ذلك فلا أقل من المشاركة في توزيع الكتب والأشرطة والرسائل على الناس ضمن المؤسسات الرسمية المعنية بذلك، وتحت إشرافها، فكأنك حاضرت وخطبت وكتبت ودعوت.

وإن كنت من أهل البر والمعروف فأسهم في إقامة المساجد والمبرات والمستوصفات، وتوزيع الأطعمة والأشربة على ضيوف الرحمن، أعن محتاجهم، وفرّج عن مكروبهم، وأغث ملهوفهم، واحمل لمحتاجهم، وداو مرضاهم. فقد ذهب أهل الدثور بالأجور.

أخي المسلم: في أي موقع كنت فأنت على ثغرة من ثغرات الحج، فالله الله أن تُؤتى من قبلك، وأبشر بالذي يسرك:

فما خاب بين الله والناس عامل           له في التقى أو في المحامد سوق

أثابك الله على كل عمل تقوم به من أجل خدمة إخوانك وهم يؤدون مناسكهم، وهنيئًا لك دعواتهم الصادقة، تقبل الله من الجميع.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 67].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الأخرى:

 

الحمد لله يعز من أطاعه، ويذل من عصاه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا أيها الإخوة المسلمون:

لا نزال نسعد بأجواء العشر الأول من ذي الحجة، ونطوف في حقولها الناضرة، فمنا من عرف فضلها وعمل بعلمه، واغتنم موسم الأجر والثواب، فنال ما تمنى، ورصد لنفسه ما يكون ذخرًا له في معاده، ومنا من مرت وتمر به كغيرها لم يغير من أسلوب حياته شيئًا، فلم يزد في عبادة، ولم يتفرغ لطاعة، فضيع موسمه، وفوّت نفسه ما كان حاضرًا بين يديه، بل إن الإجازة التي بدأت أصبحت في نظره محطة للعودة إلى النوم الذي تفوت به صلاة الفجر وغيرها، وإلى المقاهي التي تضيع فيها المروءة والصحة، وإلى الفضائيات التي يضيع فيها الحياء والفضيلة، فنسأل الله تعالى أن يوقظنا من غفلتنا، وأن يعيننا على أنفسنا، وأن يدلنا على ما نتقرب به إليه.

أيها الأحبة في الله:

وأشد من ذلك ضياعًا، وأكثر منه جرأة على الله أن يعمد قوم إلى شد الرحال إلى معصية الله، في الزمن الذي تشد فيه الرحال إلى بيت الله الحرام، يريقون في العيد ماء وجوههم وماء حياتهم بين مواخير الفساد، فيعودون بكبائر الذنوب، محملين بالأمراض العصية المخجلة، التي لا تكاد تبرأ أبدًا، في حين يريق الحجيج الدموع السحاح بين يدي الله في عرصات الموقف، ودماء الهدي والأضاحي في منى، فيعودون من حجهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.

فيا لله ما أبعد الفرق بين العودتين، عودة العاصي باسم الترفيه، وعودة الحاج وقد غسلت صحفه من الذنوب والمعاصي.

وما أبعد الفرق بين الطريقين، طريق يقول فيه الحاج:

 هو الطريق إلى سكنى الجنان فقل              فيما يصيرنا في الخلـــد سكانا 

 لما ركبناه أخـــــرجنا على شغــــــف                مــــن الصــــــدور أهاليـــــنا ودنيانا

وطريق يقول فيه العاصي:

دع المساجد للعباد تسكنها         وقم بنا نحو خمار ليسقينا

إن الحج – لو فقهناه – موسم في الدنيا يذكرنا الآخرة ووقوف العباد بين يدي الله يوم القيامة؛ لأن المشاعر تجمع الناس في زيٍّ واحد، مكشوفي الرؤوس من سائر الأجناس، يذكرون الله سبحانه ويلبون دعواته، وهذا المشهد يشبه وقوفهم بين يدي الله يوم القيامة في صعيد واحد حفاةً عراةً غرلاً خائفين وجلين مشفقين، وذلك مما يبعث في نفس الحاج خوف الله ومراقبته، والإخلاص له في العمل.

فليتذكر المسافر باليوم الذي يعيّنه لسفره اليوم الذي فيه حلول أجله، وسفره إلى آخرته، وبما بين يديه من وعثاء السفر وخطره ومشقّاته ما بين يديه في سفر الآخرة من أهوال الموت، وظُلمة القبر وعذابه، وسؤال منكر ونكير، وأهوال يوم القيامة وخطرها، وليستودع ربه ما خلّفه من أهل ومال وولد، بإخلاص وصدق نيّة. 

وليتذكر عند ركوب الدابة المركب الذي يركبه إلى دار الآخرة، وليتذكر الحاج بوصوله إلى الميقات أن الله تعالى قد أهَّلَه للقدوم عليه، والقرب من حضرته، فليلزم الأدب معه ليصلح لإقباله عليه بمزيد الإحسان إليه، وليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات يوم القيامة، وما بينهما من الأهوال والمطالبات.

وليتذكر عند لفّ جسده بالردائين الأبيضين حين يلف جسده بالكفن، وأنه سيلقى الله عز وجل ملفوفًا في ثياب الكفن لا محالة، فكما لا يلقى بيت الله عز وجل إلاّ مخالفًا عادته في الزي والهيئة، فلا يلقى الله عز وجل بعد الموت إلاّ في زي مخالف لزيّ الدنيا، وهذا الثوب قريب من ذلك الثوب؛ إذ ليس فيه مخيط كما في الكفن.

ولتتذكّر – أيها المحرم – إذا جنّ الليل وأنت بعيد عن أهلك ومن كان يؤنسك – تذكر مبيتك في ظلمة القبر مفردًا عن أهلك، ومن كان يؤنسك، غريبًا بين جيرانك، واحرص على فراغ قلبك للاعتبار والذكر، وتعظيم الشعائر، وعلى قطع العلائق الشاغلة عن الله، وتوجّه بقلبك كله إلى ربك، كما تتوجّه بظاهرك إلى بيته، فإن المقصود ربّ البيت.

أمّا الوقوف بعرفة فاذكر بما ترى من ازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات، واختلاف اللغات، عرصات القيامة، وإذا تذكرت ذلك فألزم قلبك الضراعة، والابتهال إلى الله عز وجل حتى تُحشر في زمرة الفائزين المرحومين.

وتذكّر بانتظار غروب الشمس انتظار أهل المحشر فصل القضاء بشفاعة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اللهم رحمتك نرجو فلا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم سلم اللهم سلم، اللهم سلم.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميرًا له، اللهم من تسلط على عبادك بقوته فسلط عليه جندًا من جندك في الأرض والسماء، اللهم يا خالق السماء أهلكهم في الأجواء، ويا مفجر البحار أهلكهم في البحار، ويا من فتق الأرض ودحاها أهلكهم فوق كل أرض واجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً