عجز الثقات

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، موفق العاملين، ومثيب الطائعين، من عمل له جازاه، ومن قصده حماه، ومن توكل عليه كفاه، يعلم من عبده الرغبة في الخير فيهديه سُبُله، وطلبَ الرضا فيعطيَه سؤله، وسؤالَ الثبات فيثبتَه حتى يوفيَه أجلَه، أنعم به من رب عظيم، من تقرب إليه شبرًا تقرب إليه ذراعًا، ومن تقرب إليه ذراعًا تقرب إليه باعًا، يرضى من عبده بالعمل، وأن يفزع إليه بالرغبة والأمل، ولله في كمال ذلك العمل أجل، قضاء قضاه وعلينا الطاعة، ورزق وفّاناه فلا نتأخر عنه، ولا نستقدم ساعة، فإليه المفزع في كل حين، وعليه التوكل وبه اليقين.

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله إن الأزمة الحالية التي تعيشها الأمة تحتاج إلى مواقف راسخة ذات قوة فاعلة، ثم تتحمل في سبيل هذه المواقف كثيراً من التحديات التي قد تواجهها، وهذه بلادنا حماها الله بمواقفها العالمية الجريئة، تتلقى كثيراً من الهجمات الغربية التي اتخذت من الصحافة ووسائل الإعلام حراباً شرسة تستهدف عقيدتها وأمنها وتماسك بنيتها، وما ذلك إلا لما تتمتع به من نعم عظيمة، تقضّ مضاجع أعداء الإسلام، من تمسكها بتطبيق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن مواقف متميزة تتوافق مع مكانتها بين دول الإسلام الأخرى، ونظرة الأمة إليها بوصفها قبلة المسلمين، ومأوى أفئدتهم، الحريصة على بقائها في مقدمة الصف الإسلامي دفاعاً عن المسلمين في أنحاء الأرض، ودعوة من خلال مئات المراكز الإسلامية الشامخة، والمساجد العملاقة التي تعمرها في أنحاء الأرض وتدعمها بالمال والرجال.

وإذا كان للساسة دورهم في الثبات على حماية الدولة ومواقفها القوية في السياسة الخارجية والداخلية، فإن للدعاة المخلصين، وطلبة العلم الشرعي وأئمة المساجد دوراً في توعية الناس، والأخذ بأيديهم في ظل هذه الأزمات، لتوجيه مواقفهم حسب ما تقتضيه النصوص الشرعية، هذا من جانب، ومن جانب آخر للاستمرار في الدعوة إلى الله لحماية الجبهة الداخلية من لصوص الأزمات الذين يحاولون أن يبذروا السوس في مثل هذه الأحوال المربكة.

نعم يجب أن تستمر قوافل الدعاة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، الذين تزودوا بعلم شرعي نقي يكفل لهم ـ بإذن الله ـ عدم الانحراف في مهاوي التطرف والغلو أو التميع والاستهتار، وتزودوا بالورع الذي يحميهم به الله من الانزلاق في مهاوي الرغبات الدنيئة التي تستهوي سائر البشر، وما قد يعتري بعضهم من مرض مقعد، أو ملل من طول الطريق إلى هداية القلوب وإصلاحها، أو انهيار وقتي أمام تكالب المغريات، المتسلطة على مدعويهم أو ربما عليهم.

إن الدعوة إلى الله تعالى تواجه اليوم مذاهب فاسدة، وعقائد باطلة، وهجمة صليبية ماكرة، وتخطيطاً يهودياً دقيقاً، فإذا لم يتصد لذلك كله ثقات مأمونون، تربوا على منهج السلف الصالح، فإن مسيرة الدعوة قد تتعثر، أو تختل.

فإلى كل من اتخذ من ألم الواقع المؤلم منارة خضراء، مفعمة بالنور، مملوءة بالخير، منسوجة من خيوط الأمل الرقيقة الوضيئة.. إلى كل من عرف طريق الحق فسلكه، وتلمس باب العزة السليبة فطرقه، ولكنه بطيء الخطا، أراه وكأنه قد توقف في وسط الطريق مراوحًا مكانه، لم يتقدم ولم يتأخر، لا يزال في درب الفضيلة، ولكن غلبت عليه الدعة والكسل، واستزله حب الدنيا وطول الأمل، فأراد أن يكون صالحاً بلا عمل، وكأنه لم يبلغه قول المصطفى e: ((الدنيا حلوة خضرة))، فخدعته في لحظات ضعفه، واستسلم لها.

إني أخاطب هنا أهل العلم، وأئمة المساجد، ورجال الحسبة، وطلبة العلوم الشرعية، ومن آتاهم الله قدرة على المشاركة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جميع التخصصات طبيباً ومهندساً، عاملاً وموظفاً، أقول: إنكم أنتم الرواحل الذين عليهم حمل الأمانة، وحماية الدين، وصيانة الإسلام، إليكم يوجه الكلام، وعليكم  ـ بعد الله ـ يعتمد في المهمات والملمات، فإن عجزتم، أو تراجعتم فَمَن يُرجى لنصرة الدين، ومن يرغب إليه ويفزع في المهمات بعد الله عز وجل.

أيها الأحبة في الله.. يا أملَ الأمة ونورَها الوضاء إن عمر أحدنا مهما طال فهو قصير، ذهب جزء منه غير قليل، وما تبقى منه تقاسمته حظوظ الدنيا والجسد، ولم يبقَ مجال للعبادة والدعوة والتنافس في أمور الآخرة والدرجات العالية إلا قليل من كثير، ومثلكم من لا يقف أمله عند حدود دخول الجنة ـ وإن كان يكفي مأملاً ـ ولكن مأمله أن يكون في الفردوس الأعلى مع الشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. يُطمعه ـ وأجمل به مطمعاً ـ قول النبي e فيما صح عنه: ((إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في أفق السماء من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) متفق عليه.

نعم إن في الناس رجالاً صالحين، ونساء صالحات، يحافظون على الفرائض ويكثرون النوافل، ولكنهم انكفأوا على ذواتهم، فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، تراهم جادين نشطين في أعمالهم الدنيوية، ولكنهم لا يحركون ساكنًا مع قريبٍ قد ضلّ، ولا جارٍ أضاع صلاته، ولا زميل عمل تاه في غياهب المعاصي، والناس بل حتى ذووهم متعطشون لمواعظهم ونصحهم ودعوتهم، ولكنهم مشغولون بأحوالهم الخاصة لا يرعون غير ما يصلح دنياهم، ويعذرون أنفسهم بما يقدمون من طاعات، تاركين واجباً عظيماً من أهم واجبات الدين خلف ظهورهم.

والناظر في سيرة المصطفى e يجد غير ذلك، فقد كانت حياته دعوة إلى الله تعالى، وقد سخّر كل جوانبها لله تعالى ولنصرة دينه، وحرّض أصحابه وعلمهم أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سمة هذه الأمة، وميزان أمنها وأمانها، ألم يقل الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، ويقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110]. وقد ذُكر في سيرة إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله أنه لم يَفُقِ الناس بزيادة صلاة ولا صيام، ولكن ببذله زمنه وحياته لتعليم الناس وإفتائهم.

وقد خص رسولنا e أصحاب المواهب من أصحابه بتكاليف زيادة على غيرهم، فأقدموا ولم يحجموا حتى سطّر التاريخ سِيَرهم بأحرف من نور، وظلوا قدوات لعصرهم وعصور تاليات، ويموت الخاملون لا يدري بهم أحد، ولم ينالوا من الأجر على الإقدام على نفع العباد والبلاد شيئًا مما ناله المتصدرون لنفع الناس.

ولعل بعض الصالحين يحتج بانشغاله بتربية الأولاد، ورعاية المزارع، ومتابعة المتاجر، ومشاغل الدنيا التي من بينها واجبات حثّ عليها الدين وألزم المسلم بها، فيعطي كل هذه الأمور حقها، والحق الوحيد الذي يعتذر منه هو الدعوة إلى الله، وهو ليس أقل منها أهمية، في زمن انتشرت فيها وسائل الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، من خلال فضائيات الفساد، وأصدقاء السوء، ومجلات الفتنة، وغيرها، ويعتذر بضيق الوقت، وزمنه يضيع هنا وهناك، والعجز كل العجز أن يُضيع المسلم الصالح وقتَه في تفاهات، أو في أمور مفضولة يضيع بها زمانه، حتى تتصرمَ بين يديه الأيام وهو لا يشعر إلا بعد فوات الأوان.

يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9 – 11].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله على كل حال، وأشهد ألا إله إلا الله الواحد المتعال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الأحبة في الله:

إنه إذا كان واجب الدعوة إلى الله يزداد ويتأكد على أهل العلم الشرعي، ومن هم في مستوى قريب منهم، فإن كل واحد منكم يستطيع أن يبلغ دين الله بحسب جهده، فرسولنا e فتح لنا أبواب ذلك فقال: ((بلغوا عني ولو آية)) رواه البخاري،  فأيكم لا يحفظ آية من كتاب الله، بل تحفظون وتعلمون من دين الله الكثير الكثير، ولكن الأمر يحتاج من كل فرد منا إلى جهد يبذل وتضحية بجزء من الوقت والمال، ولنبدأ بالعشيرة الأقريين، وأصحاب العمل، والجيران، وكل من نستطيع أن ننصحهم وندعوهم إلى الخير.

ولنحذر من التواضع الكاذب، والكسل القاتل، والسأم الممل، واليأس المحبط، والخوف من الفشل، والتردد المؤدي إلى العجز، فتلك أمراض مردية، تفوّت أجر العمل في وظيفة الأنبياء والمرسلين، وهي الدعوة إلى الله.

ومن أراد أن يتزود لهذا الطريق الطويل، فليقرأ سِيَر العظماء من السلف الصالح ليجد من النماذج ما يوقد همته، وليخالط أهل الهمم ليتأثر بهم، وليستشعر أنه إنما خُلق لعبادة الله، وتحقيق هذه العبودية يستلزم تعبيد الخلق كذلك له تعالى. وليكثر من ذكر الله ومن النوافل من صيام وصلاة، فإنها الزاد إنها الزاد. وعليه بتعلم العلوم الشرعية وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يظل متوازن الخطا، لا تستزله حماسة إلى التنطع في الدين، والغلو فيه، ولا تستزله الدنيا فيتساهل في أوامر الله تعالى، وليفهم فقه الأولويات، ولا يدفع منكرا فيتسبب في منكر أعظم منه.

ولْيعلمْ من نيته الخير أن الله معه، ولن يتره عمله، وقد حظي بوعده: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

ثم صلوا وسلموا على الحبيب محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله جل وعلا بذلك في كتابه الكريم، فقال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك ورضوانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر كل عدو للإسلام والمسلمين.

اللهم من كاد للمسلمين فكده، واجعل كيده في نحره، وتدبيره تدميراً له، اللهم إنا نجعلك في نحور الذين يقتلون المسلمين، ويدمرون ديارهم، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم سلط عليهم جنود السموات والأرض الذين هم جنودك، اللهم سلط عليهم ما شئت لاستئصال شأفتهم، ورد شرهم.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

واغفر لنا ولوالدينا ولمن لهم حق علينا من المسلمين، ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



اترك تعليقاً