عشاق الزمن
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قدوة الصالحين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله بتقوى الله وطاعته امتثالاً لأمره، واتباعًا لهديه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1.2]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
أيها الأحبة في الله..
قريبًا يبدأ موسم من مواسم نعمة من نعم الله الكريم المنان، نعمة توازي نعمة الصحة الغالية؛ هي جوهرة الحياة الثمينة، ودرتها الجليلة، إنها نعمة الفراغ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ)) رواه البخاري.
فمن نجح في استثمارهما فيما ينفعه في الآخرة ربح، ومن ترك الشيطان يصرفهما فيما يرضيه فقد خسر رأس ماله؛ وسلبه الله ما كان يجد من صفاء قلبه.
والفراغ كالصحة في كون الإنسان الغافل لا يكتشف قيمتهما إلا بعد أن يرحلا ويتركاه حسيرًا، فإذا كانت الصحة تاجًا على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى
فالوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
والفراغ نعمة منذرة بالزوال في أية لحظة، ففي الحديث الحسن الصحيح عن رسولنا صلى الله عليه وسلم: “اغتنم خمسًا قبل خمس، وذكر منها: وفراغك قبل شغلك” رواه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي.
فوا حزناه على شباب رأى قيمته في سيارة يلمعها، أو لباس يختال فيه، أو حركات ساقطة يستعرض بها تفاهاته، يذرع بها شوارع بلده في مشية طاووسية جوفاء، إنه فراغ في الزمن الذي يشكو فيه الجادون من ندرة الوقت، وضياع في الزمن الذي ينبغي فيه أن تعي الأمة بقدر المحنة التي تتضرم في جسدها وقلبها، وشباب يتيه بين زنازين المعاصي المتنقلة معه أينما حل أو ارتحل. والله ما أحوج هؤلاء إلى وصية الشيخ عبد القادر الجويني حين قال لغلامه: ((يا غلام: لا يكن همك ما تأكل وما تشرب، وما تلبس وما تنكح، وما تسكن وما تجمع، كل هذا همّ النفس والطبع، فأين همّ القلب! همك ما أهمك، فليكن همك ربك عز وجل وما عنده)).
إن ((من علم بأن شبابه ضيفٌ لا يعود إذا ارتحل، وفرصة إذا مرت فلا رجوع لها، جدير به أن يشغل شبابه في طاعة الله، وأن يستعين على مصالح دينه ودنياه، وخدمة مجتمعه وأمته)) [ معالجة الإسلام لوقت الفراغ: 15].
إن أمتنا خسرت كثيرًا من الطاقات الشابة، سخروا ما أوتوا من مواهب في خدمة شهواتهم وتلبية غرائزهم، إنهم يعيشون ليأكلوا ويشربوا ثم ليموتوا دون أن يتركوا أي أثر إيجابي لهم على هذه الأرض التي كانت تنتظر محراثهم وبذرهم وسقيهم.
أين أصحاب الهمم العالية الذين يقول الشاعر في أحدهم:
له همم لا منتهى لكـبارها وهمته الصغرى أجل من الدهر
قال النبي صلى الله عليه وسلم يومًا لزيد بن ثابت رضي الله عنه: ((أتحسن السريانية؟)) فأجاب: لا، قال: ((فتعلمها؛ فإنه تأتينا كتب))، قال زيد: فتعلمتها في سبعة عشر يومًا. رواه أحمد وصححه الألباني.
همة دونها نجوم السماء وكواكبها النيرة:
أيها الشباب .. لن يحقق مثل هذه الأهداف الجليلة في الأوقات القليلة إلا من عرف قدر الزمن، فقد كان السلف الصالح ومن سار على دربهم من الخلف أحرص الناس على كسب الوقت وملئه بالخير، فقد كانوا يبادرون اللحظات عشقًا منهم لجواهر الوقت الثمينة، وحرصًا على ألا تذهب هدرًا.
إنهم حقًّا عشاق الزمن، أصبح عندهم أعز شيء يملكونه، كما يقول ابن القيم رحمه الله، يغارون عليه أن ينقضي بدون فائدة، فإن فاتهم فإنهم لا يمكن أن يدركوه البتة؛ لأن الوقت الثاني قد استحق واجبه الخاص.
ولكن لنا أن نتساءل: لماذا هذا العشق؟ لماذا كل هذا العشق؟ هل هو حب للدنيا وتكالب على ملاذها؟ أم لتحصيل أكبر قدر من أرصدتها؟ أم ماذا؟ فَلْنَدْنُ من أحدهم وقد أدبرت أيامه، وجلس ينتظر لقاء ربه في ساعة الاحتضار: بماذا سيجيبنا، يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: ((اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا ولا طول المكث فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل، وظمأ الهواجر في الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالرُّكَب في حِلَق الذكر))، وقد كان يعيش في دمشق فعلا بهمته عما فيها من مغريات وجمال.
فكيف لو رأى هؤلاء الأعلام بعض شباب اليوم وهم يزرعون الليل آثامًا، ويحصدون النهار نومًا وبطالة، وما رأوا يومًا لون الفجر ولا شموا رائحة زمنه المبارك، بل هل سيصدق شباب السهرات الآثمة تاريخهم حين يقول لهم: إن ابن عقيل الحنبلي كان يقول: ((إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح))، وأن ابن جرير الطبري ما أُثر عنه أنه أضاع دقيقة من حياته في غير الإفادة والاستفادة))، وأن ابن الجوزي كان يقول: ((لو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعدُ في الطلب))، وأن عددًا منهم كان يستغل دقائق المشي في القراءة، وثواني بري الأقلام في تحريك اللسان والقلب بالذكر. وأن أبا يوسف كان يباحث عُوّاده في مرضه الذي مات فيه في مسألة فقهية حتى لفظ آخر أنفاسه بعدها، وأن عبد الغفار الفارسي كانت لذته ولهوه ونزهته في مذاكرة العلم وطلب الفائدة من أيّ نوع كان.
وإذا صدقوا ما مضى وإنه لصدق، فهل سيتخيلون أن هناك من أعلامنا من كان يقول: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر، ولا يُلام في ذلك، فإن في الثواني مجالاً للغرس في الجنة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من قال سبحان الله وبحمده غُرست له بها نخلة في الجنة)) رواه الطبراني والبزار وصححه الألباني. وأن آخر يقول: (( والله إنني أتأسف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل، فإن الوقت والزمان عزيز)). وأن النووي بقي سنتين كاملتين لم يضع جنبه على الأرض، وكان يقول: ((إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه)).
نعم يجب أن يصدقوا، فها هي ذي تآليف بعضهم تربو على المئات، وإنما مرد ذلك لتوفيق الله لهم حين حسنت نياتهم، وقد حفظوا الوقت، وتخلوا عن الفضول في النوم والأكل والنزهات والزيارات، فكانت لهم تلك المآثر الباقيات. حتى قال الإمام سفيان الثوري: ((إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام)) [نزهة الفضلاء: 2 /655]. حقًّا إذا عظم هدف الثقة يفعل ما يشبه المحال، كما أن المرء إذا تدنت أهدافه أصبح يعيش على هامش الحياة لا يؤبه له ولا يشعر أنه عاش في هذا الزمان أصلاً. فـ(( الذي ينام ملء جفنيه، ويأكل ملء ماضغيه، ويضحك ملء شدقيه، ويقضي وقته لاهيًا لاعبًا عابثًا، فهيهات أن يكون من الفائزين)).
أيها الشباب .. ها قد رأينا كيف كان سلفنا الصالح يعشقون الدقائق الغوالي، ويبحثون عن فوائت الثواني، حتى كدنا أن نقول: إنها مبالغات التاريخ، ولكن كيف وقد اجتمعت مثل هذه الأخبار لعدد كبير من الأخيار، ووردت في أصح مصادر الرجال، بل إن بيننا اليوم من رجال العلم والدعوة: من تتوثب العزيمة في نفوسهم، يعيشون في سباق مع الزمن، في عراك مع طاقاتهم وإمكاناتهم، يحسون بأنهم دائمًا مقصرون، لا تفي أوقاتهم بربع برامجهم، يقدمون ويتقدمون، ويحسون مع ذلك بأنهم مقصرون، يزينهم التواضع الجمّ، ويتوجهم الخلق السمح، وليس لديهم زمن يسمعون فيه مدح محب معجب، أو ذم غيور حاقد، ولا يعنيهم أن يفنّدوا آراء الفارغين فيهم، الذين يتلذذون بالقيل والقال وكثرة السؤال، لم يكتفوا بحوقلات المسنين، ولا تنهدات كسالى الغيورين، بل استعانوا بالله على ما أرادوا من تربية نفوسهم، وخدمة أمتهم وبلادهم، في عمل إيجابي فاعل. فقل لي بربك: ألا تحب أن تكون واحدًا منهم؟
قل بلى، فإن من عرف حق الوقت فقد أدرك الحياة، فالوقت هو الحياة .
وتبارك أحسن القائلين الذي أنزل على قلب نبيه ليكون منهاجًا له ولأمته: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62].
بارك الله لي ولكم وفي القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الأخرى:
الحمد لله الذي عظم الزمان بالقسم بأوقاته، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أيها الشباب خاصة، يا رجال المستقبل، ويا حماة الأمة.. اعلموا أن العمل على تربية النفس على طاعة الله، ومعالي الهمم، واغتنام الزمن فيما ينفع هو الهدف الذي يجب أن يكون هم أحدكم طوال حياته، ولتحصيل ذلك وسائل أولها: مجاهدة النفس وترويضها، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وثانيها: دعاء مخلص نرفعه لله، الذي علمنا كيف يكون دعاء أهل الهمم حين قال حكاية عن عباده: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، وثالثها: تأمل سيرة الأسلاف والمعاصرين الذين نجحوا في استثمار كل دقائق حياتهم، والاقتداء بهم، ورابعها: مصاحبة أهل الهمة العالية، والنظر في أحوالهم، وكيف يختصر لهم الزمان اختصارًا، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90].
إنك اليوم مدعو أيها الشاب الواعي، إلى التخطيط لقضاء إجازة سوف تمتد بإذن الله قرابة ثلاثة أشهر، تخطيطًا تسأل نفسك بعده ماذا أنجزت؟ ربما لا تجد من يسألك هذا السؤال في الدنيا، ولكنك حتمًا ستجد هذا السؤال ينتظرك في الآخرة، ألم يقل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
فالبدار البدار قبل السؤال، وضع لنفسك برنامجًا عمليًّا تربي فيه روحك بالعبادة المحضة، وعقلك بالعلم والقراءة النافعة، وجسمك بالرياضة المتوزانة. ومهاراتك بالدربة المتقنة.
وهل تسمح لي أن أشاركك في ذلك، ها بين يديك عدد من الأنشطة التي تقام من أجلك، هذه الدورات العلمية، التي تجتذب لك عددًا من العلماء والمشايخ الفضلاء، تنال عندهم علمًا شرعيًّا في وقت قصير، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) رواه البخاري، وهذه حلقات تحفيظ القرآن الكريم في بيوت الله تزين بلادنا، وتنتشر في كل حي فاثنِ ركبتيك بين يدي قرائها لتتلقى القرآن من أفواههم، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) رواه البخاري.
وهل أدلك على مكان تجد فيه طرفًا من كل هذه الأمور ويزيد، تنتفع فيه ببقية وقتك إنها تلك المراكز الصيفية التي أنشئت في عدد من الجامعات والمدارس في بلادنا المباركة، تتبع جهات علمية وأخرى خيرية، تختلف في المسميات، ولكنها تأتلف على الوسيلة الشرعية، والغاية الطيبة المثمرة.
إنك ستجد فيها ما يزيل عنك غمّ العزلة النكداء بالجلوس مع صحبة صالحة يبحث عنها أمثالك، وستجد فيها ما يطوّر مواهبك، وما يعينك على حفظ كتاب الله الكريم ولاسيما التي تجعل ذلك من برنامجها الأساس، وتشجع عليه ماديًّا ومعنويًّا، وستجد فيها ما يجعل لإجازتك معنى وأي معنى، هناك ستنظر أنت ذلك السؤال الذي كان ينتظرك؛ لتجيبه في نهاية الإجازة بكل تواضع وفرح لقد أنجزت الكثير ولله الحمد والمنة.
ولا تحتقر نفسك وتقول: لن أجد مكانًا بين أولئك الشباب المبدعين، فإن كثيرًا من الناس يتهم نفسه بأنه لا يستطيع أن يقدم شيئًا لأمته يمكنها أن تنتفع به، والواقع أن كل إنسان تكمن فيه مواهب وصنائع قد لا يكتشفها مبكرًا، فتظل في حاجة إلى من يجليها؛ لتنبثق قوية مشعة، قادرة على التفاعل والعطاء، فما عليك إلا أن تكتشف نفسك، أو تدع غيرك يكتشفك، فابحث في شتى الحقول، واطرق كل الدروب؛ حتى تهتدي إلى ما تشعر أنك خُلقت له، فكل مُيَسّر لما خُلق له. وإن هذه المراكز الصيفية فرصة ثمينة لاكتشاف ملكاتك.
ولا تظن أنني أول من دعاك إليها، فقد سبقني العلماء الأعلام، والمربون الناصحون، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله الذي قال: ((لا شك أن الحكومة -وفقها الله- تُشكَر على ما تنشئه من هذه المراكز الصيفية، التي صارت تحفظ كثيرًا من الشباب، ويحصل فيها خير كثير من استدعاء أهل العلم لإلقاء المحاضرات التي يكون بها العلم الكثير، والموعظة النافعة والألفة بين الشباب وبين الشيوخ، وفي هذا لا شك مصالح عظيمة، أما ما يحصل فيها من إمتاع النفس بلعبة الكرة والمسرحيات المباحة وما أشبه ذلك، فهذا من الحكمة؛ لأن النفوس لو أُعطيت الجد في كل حال وفي كل وقت ملت وكلت وسئمت، فالصحابة رضي الله عنه قالوا: يا رسول الله إذا كنا عندك وذكرت لنا الجنة والنار فكأننا نراها رأي العين لكن إذا ذهبنا إلى الأهل والأولاد نسينا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ساعة وساعة))، فإعطاء النفس حظها من المتعة المباحة لا شك أنه غاية الحكمة. وأنا أحبذ المراكز الصيفية وأرى أنها من حسنات الحكومة، وأحث أولياء الأمور على إدخال أولادهم فيها )) انتهى كلامه حفظه الله ونفعنا بعلمه.
فالتفت أيها الشاب إلى نداء المعالي يستنهضك فيقول:
أيــــن عشــــاق الزمـــــن أيـــــن أربـــــــاب الفــــطــــن
أين مـــــن تهفـــــو لهم خفقة الطرف في الوسن
أنفــــــوا ميـعـــــة الصبا وتــــأبـــــوا على الـــــوهـــــن
نفضوا عنهم الكرى فغــــــدوا مطمح الوطــــــن
مــــازجـــــتـهم بشاشة تنبت البشر في الحـزن
مـــلــــكـــــوها فمُلَّكوا لفتة الـــــروح والبـــــدن
قل لي بربك ألا تحب أن تكون واحدا منهم؟
بل أنت إن شاء الله أحدهم، وإن تواريت عن العيون، فسوف تشرق شمسك في سمائنا عما قريب بإذن الله، وإن منعك الحياء أو استصغار الذات برهة من الزمان، فلسوف تعرف نفسك، وتكتشف معدنك، وتأخذ في العاملين قدرك، فانفض عن مشاعرك أحاسيس الخمول، واستقم مع الأخيار على منهج الرسول، وامدد يمناك، فلقد اشتاقت المعالي لمصافحتك، واستشرفت حقول العمل لسنابل عطائك، وإياك إياك أن تلتفت إلى الوراء لتستخبر مناخ الخائبين، فلقد أسهرتهم خسائس الأعمال، وروّضتهم أمنيات الأطفال، وذهبت أعمارهم ضحية الشهوات والإهمال.
لا تتأخر فقد يفوت قطار العمر، حتى يقول القائل: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99- 100]، ولا تؤجل فالمؤمن مطالب من ربه بالمسارعة إلى الخيرات، فالله جل ذكره يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، ويمتدح المسارعين إلى رضوانه فيقول عز شأنه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
وكلمة لأولياء الأمور أقولها من القلب: اتقوا الله في أولادكم، ولا تسلموهم في هذه الإجازة للفضائيات الخليعة الرديئة، ولا تسافروا بهم إلى مواطن الرذيلة، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وإن الرجال – كما قيل- يصنعون ولا يولدون، وتذكروا مقولة عمر بن عبد العزيز ((الصلاح من الله والأدب من الآباء))، أدبوهم صغارا لتسروا بهم كبارًا، وتجمعوا بهم في جنات النعيم بإذن الله، واعلموا بأن من أشد أمراض الإجازة فتكًا بغرسكم الذي تأملون هو الصحبة السيئة، وإنما هي قطعة من النار: لا يستقيم وُدها، ولا تفي بعهدها، تزين المنكر، وتبغض المعروف، وترشد إلى مواطن التهم، وتقود إلى تشويه السمعة وكدر المعيشة وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة. فخافوا على أولادكم من شررها، وتلفتوا من حولكم، فبين أيديكم صحبة صالحة، التقوى شعارها، والأخلاق دثارها، أليفة مألوفة، أثيرة مؤثرة، حلوة المعشر، كريمة المظهر والمخبر، تنجد في النوائب، وتعفو عند الرغائب. ولو أنفق الآباء الذهب والفضة على أن يجدوا لأولادهم بينهم مكانًا لما كانوا مسرفين، فبمثل صحبتهم صلاح الأولاد، وتحقق قرة العين بهم في الدنيا والآخرة، أليس من دعاء المؤمنين المعطر بالأمنيات العذاب قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى- وأي شيء أقر لعينه من أن يرى زوجته وولده يطيعون الله عز وجل ذكره)). [كتاب العيال لابن أبي الدنيا: 2 /617].
إن العلماء الأعلام والمربين الناجحين لا يزالون يحثون أولياء الأمور على العناية بأولادهم وتأديبهم، وهذا فضيلة الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله، وهو يضع أسس حراسة الفضيلة في المجتمع يرى أن من أوائل ما يتوجب في ذلك رعاية الأولاد ((وتعاهدهم بصقل مواهبهم، وتنمية غرائزهم بفضائل الأخلاق ومحاسن الآداب، وحفظهم عن قرناء السوء وأخلاط الردى)) . انتهى كلامه رعاه الله، ولا شك أن مما يحقق هذا المأمول هو إلحاق الأولاد بهذه المراكز النافعة، ففيها تنمو ثقتهم بأنفسهم، وتقوى عزائمهم، ويتعودون على القيام بأعبائهم بأنفسهم، وتحفظ أوقاتهم عن كل المضار والأخطار.
ولرجال الأعمال والموسرين، أقول أسهموا في هذه المراكز بما تستطيعون من حوافز، فإنها غراس طيبة تؤتي أكلها مرات عديدة بإذن الله، صدقة جارية ما دامت عروق هؤلاء الشباب الذين انتفعوا بها تنبض بالخير والمعروف، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المصففين: 26].
وعودة خيرة لك أنت أيها الشاب: لا شك أن من عزم على تغيير مسار حياته من مجالسة من يحققون له ما يتمنى هواه وشيطانه له من شهوات شهية، وأمنيات منحرفة إلى مجالسة من يحفظون عليه -بأمر الله- دينه وخُلقه وحياته وحياءه وستره يحتاج إلى مصابرة، يقول الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
إن ذلك يحتاج منك حقًّا إلى قرار على مستوى إيمانك، ورجولتك التي تعتز بها، وتميز شخصيتك التي تسعى إلى استكمال خلالها وخصالها.
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.