عشر ذي الحجة

عشر ذي الحجة

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:  فيا عباد الله.. أوصيكم ونفسي المقصرة بوصية هي خير لباس يتقى به {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، وخير زاد يتبلغ به: {إِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
[البقرة: 197]، بها طمأنينة النفوس، وراحة القلوب، وقرة العيون، وأنس الأرواح.

أيها الإخوة المسلمون:

لكل قوم مواسم ينتظرونها، وأيام يتهيئون لاستقبالها، ويفرحون بقدومها، ومواسم أهل العبادة والطاعة أجل المواسم وأعلاها قدرًا، وأعظمها شرفًا، حدد أوانها من وضع الميزان، وأجزل أجرها الكريم المنان، ذو الطول والسلطان، فلا راد لما قضى، ولا مانع لما أعطى، يقبل القليل، ويجزي عليه الكثير، ويبارك في العمل إذا لزم الصواب والإخلاص.

مواسم أقسم الله بلياليها وأيامها تعظيما لشأنها؛ فقال عز وجل: { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 1- 4]، ومما قيل في العشر أنها عشر الأضحى، وهي أيام لا تفضلها أيام غيرها أبدًا، كيف لا وقد روى البخاري في صحيحه عن ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ، قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)).

حق لك – أيها المسلم الصالح – أن تهتف بعد سماع هذا الحديث: واشوقاه واشوقاه، فإذا أدركت هذه الأيام فقد وهبت نعمة جليلة منَّ الله بها عليك، إذ بلّغك شرف هذا الزمان، ويلّغك العلم بشرفه، فما بقي لك إلا أن تشكر الله تعالى عليها شكرًا قوليًّا وشكرًا عمليًّا، فتحيى أيامها بالصيام، ولياليها بالقيام، وسائر أزمانها بالذكر والدعاء.

هذا شأن سلفك الصالح فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث بلفظ: ((ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في العشر الأضحى. قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))، فكان نعم العامل بعلمه، حتى كان إذا دخلت أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يكاد يقدر عليه غيره.

أعلمت أيها الموفق للخير ما هذه الأيام؟ إنها الأيام العشر الأول من ذي الحجة، أيام تختم بها شهور حج بيت الله الحرام، وتقع فيها أعظم مناسكه.

نعم لقد كنت أيها المسلم الصالح حريصًا على الطاعة في العشر الأواخر من رمضان، رجاء فضلها العظيم، وأجرها الكبير، فهل لك في أيام هي أفضل منها، كما استنبط ذلك العلماء الأعلام من حديثها السابق الذكر، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة))، وقال ابن القيم رحمه الله: ((وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيًا كافيًا، فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة، وفيها يوم عرفة ويوم النحر ويوم التروية. وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإحياء التي كان رسول الله يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر)).

ولا شك أن من أعظم الأعمال فيها حج بيت الله الحرام، ويكفي في فضله ما رواه الشيخان عن رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ
كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، يفرض على من استطاع إليه سبيلاً.

ومن أجل أعمال العشر كذلك: صوم التسعة الأول منها كلها، فعن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم تسع ذي الحجة)) رواه أبو داود وصححه الألباني.

وهنيئًا لمن وفق لذلك فقد جمعت هذه الأيام فضائل عديدة، فهي مع خصوصية فضلها، أيام من الأشهر الحرم، التي أمر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصيام بعضها، وإن صوم يوم واحد من سائر أيام السنة من أجل الله تعالى فيه من الفضل العظيم، روى مسلم عن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا)). فكيف يا عبد الله في مثل هذه الأيام؟!

وتشمل هذه الأيام يومي الاثنين والخميس، وهما يومان فاضلان كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحرى صومهما كما روت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (( تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)) رواه الترمذي وصححه الألباني.

وفيها يوم عرفة، الذي سئل عن صومه رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)) رواه مسلم، وقد كان السلف يحرصون على صومه أكثر من أي يوم من آخر، تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: ((ما من يوم من السنة صومه أحب إليَّ من يوم عرفة)).

ومما ينبغي معرفته أن استحباب صوم يوم عرفة إنما هو لغير الحاج، أما الحاج فلا يشرع له صومه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم في عرفة، بل نهى عن ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفات)) صحيح على شرط البخاري.

ومن أجل العبادات التي تُقام في هذه الأيام عبادة حبيبة إلى الرحمن، خفيفة على اللسان، ثقيلة في الميزان، يفر منها الشيطان إنها عبادة الذكر للجليل الرحمن، خصها الله تعالى بقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] قال ابن عباس: أيام العشر. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير)) رواه الطبراني في المعجم الكبير وقال الألباني إسناده جيد.

وقد ورد في صفة التكبير عدد من الصيغ منها: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

وهو مطلق مشروع من دخول شهر ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق في المنزل والعمل والسوق وفي كل مكان يليق بذكر الله تعالى، ومقيد بعد الفرائض ابتداء من بعد صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وهو ما أجمع عليه عمر وعليّ وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والبيان، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الأخرى:

الحمد لله على نعمائه، والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن استن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

وهكذا علمنا فيما سبق امتياز عشر ذي الحجة عن غيرها من سائر أيام العام، ولعل ذلك لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره كما يقول ابن حجر في الفتح رحمه الله.

تلك يا رعاك الله دلائل على درب الخير جمعت لك أنوراها في هذه المشكاة من كتاب الله تعالى وتفسيره، ومن حديث حبيبك صلى الله عليه وسلم وتأويله، ومن كلام الصالحين وأعمالهم، فلنكن ممن إذا دعوا إلى الخير أجابوا، وإذا بُشروا بالأجر اشتاقوا، يتسابقون إلى الخيرات، ويهفون لفعل الطاعات.. يمتثلون أمر ربهم تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، وقوله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقوله جل ذكره بعد أن ذكر جنته ونعيمها المقيم: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، إنها دعوة موجهة لأصحاب الهمم العالية لاغتنام الفرص الثمينة، وارتقاء الدرجات العالية، وليست دعوة موجهة للقانعين بالقليل، الباخلين على أنفسهم وبين أيديهم كنوز الأجور ونفائس الثواب.

أخي الحبيب: إن أكثر ما يصد المسلم عن الرغبة في الطاعات، ويحرمه من اجتناء ألذ الثمرات هي الذنوب، فهي التي تحول بين الإنسان وبين فضل ربه، وتحجب قلبه عن مولاه. يقول الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، ويقول عز وجل: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:
155]. 

فلنستقبل هذا الموسم بالتوبة النصوح التي تكسر تلك القيود، وتغسلنا غسلاً من تلك الذنوب، توبة لا تردد فيها، فيها عزم صلد على ترك المعاصي وهجرانها، وندم دامع على ما كان منها، وتصميم ثابت على عدم العود إليها، توبة نعتذر فيها للمولى الجليل، بقلوب كسيرة، وجفون خاشعة، وعيون هاملة.

رُئي أحد الموتى في المنام فقال: ما عندنا أكثر من الندامة، وما عندكم أكثر من الغفلة، ورُئي آخر فقال: قدمنا على أمر عظيم، نعلم ولا نعمل، وأنتم تعلمون ولا تعملون، والله لتسبيحة أو تسبيحتان، أو ركعة أو ركعتان في صحيفة أحدنا خير من الدنيا وما فيها. فمَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ نَزَعَ عن معصيته.

أيا من ليس لي منه مجيـر                    بعفوك من عذابك أستجير

أنا  العبد المقر بكل ذنب                      وأنت السيد المولى الغفور
أفر إليك منك، وأين إلا                      إليك يفر منك المسـتجير

فلنستقبل هذا الموسم بالعزم الصادق الجاد على اغتنامها بما يرضي الله عز وجل، فمن صدق الله تعالى صدقه الله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ
لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

أخي بعد هذا فهل اشتاقت نفسك أن تكون ممن امتدحهم الله تعالى بقوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].

أسأل الله تعالى ألا يحرمنا من جوده وفضله وكرمه، وأن يمن علينا بالطاعات، وأن يتقبل منا ذلك إنه سميع مجيب.

وأسأله تعالى أن يكبت كل من تسول له نفسه شرًّا بهذه البلاد الآمنة المطمئنة، وأن يكشف خططه، وأن يجعله عبرة لمن اعتبر.

اللهم مُنَّ على حجاج بيتك بالسلامة والقبول، ووفِّق غير الحجاج للطاعات وتقبل ذلك منهم.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم انصر إخواننا في فلسطين وفي كل مكان، اللهم رد عنهم كل اعتداء، اللهم أنزل معهم ملائكتك تقاتل معهم وتدفع عنهم، اللهم أطعم جائعهم، واكس عاريهم، وانصر مجاهدهم، وارحم شهيدهم.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، وهيئ لهم بطانة صالحة تذكرهم إذا نسوا وتعينهم إذا ذكروا، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم سقيا رحمة لا سقيا غرق ولا هدم ولا عذاب، اللهم إنا عباد من عبادك، وخلق من خلقك، اللهم ارحمنا، اللهم ارحمنا، اللهم ارحمنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا من بركات السماء ماء مدرارًا، تبشر به قلوبًا آمنت بك، وتسقي به زروعًا تحيى برحمتك، ونشكرك على ما مننت به علينا منه، ونحن أهل الذنوب والمعاصي، عاملتنا بفضلك ورحمتك، وأنت أهل التقوى وأهل المرحمة.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عشر ذي الحجة

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده
ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله
فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا، وأشهد ألا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا عباد الله.. أوصيكم
ونفسي المقصرة بوصية هي خير لباس يتقى به
{وَلِبَاسُ
التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]
،
وخير زاد يتبلغ به:
{إِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
[البقرة: 197]
، بها طمأنينة النفوس، وراحة القلوب،
وقرة العيون، وأنس الأرواح.

أيها الإخوة المسلمون:

لكل قوم مواسم
ينتظرونها، وأيام يتهيئون لاستقبالها، ويفرحون بقدومها، ومواسم أهل العبادة
والطاعة أجل المواسم وأعلاها قدرًا، وأعظمها شرفًا، حدد أوانها من وضع الميزان،
وأجزل أجرها الكريم المنان، ذو الطول والسلطان، فلا راد لما قضى، ولا مانع لما
أعطى، يقبل القليل، ويجزي عليه الكثير، ويبارك في العمل إذا لزم الصواب والإخلاص.

مواسم أقسم الله
بلياليها وأيامها تعظيما لشأنها؛ فقال عز وجل: {

وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ *
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 1- 4]، ومما قيل في العشر
أنها عشر الأضحى، وهي أيام لا تفضلها أيام غيرها أبدًا، كيف لا وقد روى البخاري في
صحيحه عن ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: ((مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ،
قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ
يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)).

حق لك – أيها المسلم
الصالح – أن تهتف بعد سماع هذا الحديث: واشوقاه واشوقاه، فإذا أدركت هذه الأيام
فقد وهبت نعمة جليلة منَّ الله بها عليك، إذ بلّغك شرف هذا الزمان، ويلّغك العلم
بشرفه، فما بقي لك إلا أن تشكر الله تعالى عليها شكرًا قوليًّا وشكرًا عمليًّا،
فتحيى أيامها بالصيام، ولياليها بالقيام، وسائر أزمانها بالذكر والدعاء.

هذا شأن سلفك الصالح
فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث بلفظ:
((ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في العشر الأضحى. قيل: ولا
الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم
يرجع من ذلك بشيء))، فكان نعم العامل بعلمه، حتى كان إذا دخلت أيام العشر اجتهد
اجتهادًا شديدًا حتى ما يكاد يقدر عليه غيره.

أعلمت أيها الموفق
للخير ما هذه الأيام؟ إنها الأيام العشر الأول من ذي الحجة، أيام تختم بها شهور حج
بيت الله الحرام، وتقع فيها أعظم مناسكه.

نعم لقد كنت أيها
المسلم الصالح حريصًا على الطاعة في العشر الأواخر من رمضان، رجاء فضلها العظيم،
وأجرها الكبير، فهل لك في أيام هي أفضل منها، كما استنبط ذلك العلماء الأعلام من
حديثها السابق الذكر، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((أيام عشر ذي
الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من
ليالي عشر ذي الحجة))، وقال ابن القيم رحمه الله: ((وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا
الجواب وجده شافيًا كافيًا، فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر
ذي الحجة، وفيها يوم عرفة ويوم النحر ويوم التروية. وأما ليالي عشر رمضان فهي
ليالي الإحياء التي كان رسول الله يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر)).

ولا شك أن من أعظم
الأعمال فيها حج بيت الله الحرام، ويكفي في فضله ما رواه الشيخان عن رسولنا صلى
الله عليه وسلم: ((مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ
كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، يفرض على من
استطاع إليه سبيلاً.

ومن أجل أعمال العشر
كذلك: صوم التسعة الأول منها كلها، فعن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ((أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم تسع ذي الحجة)) رواه أبو داود وصححه
الألباني.

وهنيئًا لمن وفق لذلك
فقد جمعت هذه الأيام فضائل عديدة، فهي مع خصوصية فضلها، أيام من الأشهر الحرم،
التي أمر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصيام بعضها، وإن صوم
يوم واحد من سائر أيام السنة من أجل الله تعالى فيه من الفضل العظيم، روى مسلم عن
أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ
النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا)). فكيف يا عبد الله في مثل هذه الأيام؟!

وتشمل هذه الأيام
يومي الاثنين والخميس، وهما يومان فاضلان كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحرى
صومهما كما روت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ويقول الرسول صلى الله عليه
وسلم: (( تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)) رواه
الترمذي وصححه الألباني.

وفيها يوم عرفة، الذي
سئل عن صومه رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي
قبله والسنة التي بعده)) رواه مسلم، وقد كان السلف يحرصون على صومه أكثر من أي يوم
من آخر، تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: ((ما من يوم من السنة صومه أحب إليَّ من
يوم عرفة)).

ومما ينبغي معرفته أن
استحباب صوم يوم عرفة إنما هو لغير الحاج، أما الحاج فلا يشرع له صومه؛ فإن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يصم في عرفة، بل نهى عن ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفات)) صحيح على شرط
البخاري.

ومن أجل العبادات
التي تُقام في هذه الأيام عبادة حبيبة إلى الرحمن، خفيفة على اللسان، ثقيلة في
الميزان، يفر منها الشيطان إنها عبادة الذكر للجليل الرحمن، خصها الله تعالى
بقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] قال
ابن عباس: أيام العشر. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه
الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير)) رواه
الطبراني في المعجم الكبير وقال الألباني إسناده جيد.

وقد ورد في صفة
التكبير عدد من الصيغ منها: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله
أكبر ولله الحمد.

وهو
مطلق مشروع من دخول شهر ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق في المنزل والعمل والسوق
وفي كل مكان يليق بذكر الله تعالى، ومقيد بعد الفرائض ابتداء من بعد صلاة الفجر
يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وهو ما أجمع عليه عمر وعليّ وابن
عباس وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

بارك الله لي ولكم في
القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والبيان، أقول هذا القول وأستغفر الله
العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الأخرى:

الحمد لله على نعمائه،
والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا
لشانه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن استن
بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

وهكذا علمنا فيما سبق
امتياز عشر ذي الحجة عن غيرها من سائر أيام العام، ولعل ذلك لمكان اجتماع أمهات
العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره كما يقول
ابن حجر في الفتح رحمه الله.

تلك يا رعاك الله
دلائل على درب الخير جمعت لك أنوراها في هذه المشكاة من كتاب الله تعالى وتفسيره،
ومن حديث حبيبك صلى الله عليه وسلم وتأويله، ومن كلام الصالحين وأعمالهم، فلنكن
ممن إذا دعوا إلى الخير أجابوا، وإذا بُشروا بالأجر اشتاقوا، يتسابقون إلى
الخيرات، ويهفون لفعل الطاعات.. يمتثلون أمر ربهم تعالى: {فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، وقوله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}
[آل عمران: 133]، وقوله جل ذكره بعد أن ذكر جنته ونعيمها المقيم: {وَفِي ذَلِكَ
فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، إنها دعوة موجهة لأصحاب الهمم
العالية لاغتنام الفرص الثمينة، وارتقاء الدرجات العالية، وليست دعوة موجهة
للقانعين بالقليل، الباخلين على أنفسهم وبين أيديهم كنوز الأجور ونفائس الثواب.

أخي الحبيب: إن أكثر
ما يصد المسلم عن الرغبة في الطاعات، ويحرمه من اجتناء ألذ الثمرات هي الذنوب، فهي
التي تحول بين الإنسان وبين فضل ربه، وتحجب قلبه عن مولاه. يقول الله تعالى: {كَلَّا
بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، ويقول عز
وجل: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:
155].

فلنستقبل هذا الموسم بالتوبة
النصوح التي تكسر تلك القيود، وتغسلنا غسلاً من تلك الذنوب، توبة لا تردد فيها،
فيها عزم صلد على ترك المعاصي وهجرانها، وندم دامع على ما كان منها، وتصميم ثابت
على عدم العود إليها، توبة نعتذر فيها للمولى الجليل، بقلوب كسيرة، وجفون خاشعة،
وعيون هاملة.

رُئي أحد الموتى في
المنام فقال: ما عندنا أكثر من الندامة، وما عندكم أكثر من الغفلة، ورُئي آخر
فقال: قدمنا على أمر عظيم، نعلم ولا نعمل، وأنتم تعلمون ولا تعملون، والله لتسبيحة
أو تسبيحتان، أو ركعة أو ركعتان في صحيفة أحدنا خير من الدنيا وما فيها. فمَا مِنْ
أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ
ازْدَادَ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ نَزَعَ عن معصيته.

أيا
من ليس لي منه مجيـر  بعفوك من عذابك أستجير

أنا
العبد المقر بكل ذنب            وأنت السيد المولى الغفور

أفر
إليك منك، وأين إلا            إليك يفر منك المسـتجير

فلنستقبل هذا الموسم بالعزم الصادق
الجاد على اغتنامها بما يرضي الله عز وجل، فمن صدق الله تعالى صدقه الله
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ
لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

أخي بعد هذا فهل
اشتاقت نفسك أن تكون ممن امتدحهم الله تعالى بقوله: {

إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}
[الأنبياء: 90].

أسأل الله تعالى ألا
يحرمنا من جوده وفضله وكرمه، وأن يمن علينا بالطاعات، وأن يتقبل منا ذلك إنه سميع
مجيب.

وأسأله تعالى أن يكبت
كل من تسول له نفسه شرًّا بهذه البلاد الآمنة المطمئنة، وأن يكشف خططه، وأن يجعله
عبرة لمن اعتبر.

اللهم مُنَّ على حجاج بيتك بالسلامة
والقبول، ووفِّق غير الحجاج للطاعات وتقبل ذلك منهم.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام
والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا
المستضعفين، اللهم انصر إخواننا في فلسطين وفي كل مكان، اللهم رد عنهم كل اعتداء،
اللهم أنزل معهم ملائكتك تقاتل معهم وتدفع عنهم، اللهم أطعم جائعهم، واكس عاريهم،
وانصر مجاهدهم، وارحم شهيدهم.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة
أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، وهيئ لهم بطانة صالحة تذكرهم إذا نسوا وتعينهم إذا
ذكروا، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين،
سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا،
اللهم سقيا رحمة لا سقيا غرق ولا هدم ولا عذاب، اللهم إنا عباد من عبادك، وخلق من
خلقك، اللهم ارحمنا، اللهم ارحمنا، اللهم ارحمنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من
القانطين، اللهم أنزل علينا من بركات السماء ماء مدرارًا، تبشر به قلوبًا آمنت بك،
وتسقي به زروعًا تحيى برحمتك، ونشكرك على ما مننت به علينا منه، ونحن أهل الذنوب
والمعاصي، عاملتنا بفضلك ورحمتك، وأنت أهل التقوى وأهل المرحمة.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا
بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا
ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.

 



اترك تعليقاً