فضائل الحياء

الخطبة الأولى:    

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1.2].

أيها الإخوة المؤمنون:

كثير من الأخلاق الفاضلة تظل أماني حلوة نشعر بالسعادة حينما نتذاكرها، ونتمنى دائماً أن نتحلى بها نحن وكل من نتعامل معهم، بل نحب ذلك لكل مسلم ومسلمة، ولكننا في واقع الأمر نرى بعض المظاهر الاجتماعية التي تدل على ضعف وجودها عند فئام من الناس، وهو ما يجعل خطر تفشّيها في بقية أفراد المجتمع ماثلاً، ومن ثَم انتشار الأضرار الناجمة عنها.

والحياء من تلك الأخلاق التي يتمتع بها كثير ممن حولنا، ولكن بعضهم بدأ يتحلل من أرديته السابغة، وجمالياته العطرة.

فماذا تسمِّي تخلع بعض الفتيات في المناسبات والأعراس بالذات إلى درجة ارتداء ما يشبه قميص النوم أمام الأخريات؟!

وماذا تسمّي الحديث المطول الممطط بين المرأة والبائع من أجل تخفيض بعض الريالات أو إرجاع سلعة واسترجاع ثمنها؟!

وماذا تسمّي رفع الصوت من قِبَل الأبناء على آبائهم، وتكبر الفتيات على أمهاتهن؟!

وماذا تسمّي قلة احترام الطلاب والطالبات للمعلمين والمعلمات؟!

وماذا تسمي ترقيص السيارات بالأغاني والأصوات المزعجة في وسط الشارع من قِبل بعض الشباب دون مراعاة دين أو حتى عرف اجتماعي؟

وماذا تسمّي تلبس بعض الرجال بلبوس النساء، ووضع المكياج ونحوه، وترجل الفتيات؟!

وماذا تقول لمن يستره الله بعد معاصيه، ويصبح يكشف ستر الله عنه؟!

وماذا تقول لمن يقدم من سفر المعاصي، فيقص مغامرات الفساد، ويُرِي زوجه وأصدقاءه صوره وهو يمارس العهر والفجور؟!

كل ذلك من قلة الحياء من الخالق والخلق.

فمن يستحِ من الله يعلم أنه يراه ويسمعه، ويعلم ما تكنّه ضمائره في كل حين، ولذلك يطيع ويشكر، وإذا أذنب تاب واستغفر.

ومن يستحِ من الناس لم يواجههم بما يكرهون مما يخلّ بالشرف والدين والأدب والمروءة.

ومن يستح من نفسه حاسبها فيما يصدر عنها من الأقوال والأعمال.

إذا لم تصن عرضاً ولم تخش خالقاً         وتستحي مخلوقاً فما شئت فاصنع

فالحياء انقباض النفس عن القبائح، وهو خُلق الإسلام، بل هو من أجمع شعب الإيمان، ومن خصائص الإنسان، وقد جعله الله في الإنسان ليرتدع به عما تنزع إليه الشهوة من القبائح، ولذلك لا يكون المستحي فاسقاً، ولا الفاسق مستحياً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي: (( الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار)) وصححه الألباني.

ولا شك أن من استحيى من الله فقد عظّمه، يقول أبو بكر رضي الله عنه: ((أيها الناس استحيوا من الله، فوا الله ما خرجت لحاجة منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد الغائط إلا وأنا مقنع رأسي حياء من الله تعالى)).

ومن استحيى من الناس، فقد احترمهم ولذلك يبادلونه الاحترام فيستحيون منه، وقد ورد عن زيد بن ثابت أنه قال: ((من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله)).

ومن استحيى من نفسه فقد قدّرها، ومن استحيى من الناس ولم يستح من نفسه فقد جعلها أخس عنده من كل أحد.

عباد الله:

قال بعض الحكماء: من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه.

 وقال بعض البلغاء: حياة الوجه بحيائه، كما أن حياة الغرس بمائه، وليس لمن سُلب الحياء صاد عن قبيح ولا زاجر عن محظور فهو يقدم على ما يشاء ويأتي ما يهوى؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) رواه البخاري.

ومن استحيا من الناس ولم يستح من الله عز وجل وتقدس فقد هوى في دركات الآثام، فإن الإنسان ليستحي ممن يعظّمه، ويعلم أنه مطلع عليه، يقول تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((استحيوا من الله حق الحياء ))، قالوا إنا نستحي من الله يا نبي الله والحمد لله، قال: (( ليس ذلك، ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) رواه أحمد والترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 40- 41].

عباد الله اتقوا الله واستحيوا منه، وتوبوا إليه واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله ملء السماوات والأرض وملء ما شاء من شيء بعد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.

العجيب حقاً أن يعيب بعض الناس على أولادهم خُلق الحياء، ويرون أنه من خُلق النساء وحدهن، وهذا غير صحيح، بل الحياء خلق الجميع، فقد (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه)) متفق عليه.

والحياء لا يأتي إلا بخير كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سمع صلى الله عليه وسلم رجلاً يعظ أخاه في الحياء، أي يحثه على تركه فقال له: ((دعه فإن الحياء من الإيمان)) رواه البخاري.

          ورب قبيحة ما حـال بيني        وبيـن ركوبها إلا الحيـاء

   فكان هو الدواء لها ولكن        إذا ذهـب الحياء فلا دواء

فينبغي على الأولياء تربية أولادهم وبناتهم على خلق الحياء، فيفرّقوا بينهم في المضاجع، ويعودوهم على اللبس الساتر في المنزل، ولا يسمحوا لهم منذ صغرهم على التخلع أمام الآخرين، بل حتى في خلواتهم إذا لم يكن من داع لذلك، ففي مسند الإمام أحمد: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَغْتَسِلَ فَلْيَتَوَارَ بِشَيْءٍ” وحسنه الألباني.

 أو التنابز بالألفاظ السيئة المشينة، ولا يتركوهم يختلون بالخدم رجالا إذا كن نساء، ولا نساء إذا كانوا شباباً، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم)) متفق عليه.

 ولا يتركن الفتيات والنساء يعتدن التسوق بلا محرم، فقد روى الإمام أحمد بسنده عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ عَلِيُّ بْنُ حَكِيمٍ فِي حَدِيثِهِ: “أَمَا تَغَارُونَ أَنْ يَخْرُجَ نِسَاؤُكُمْ، وَقَالَ هَنَّادٌ فِي حَدِيثِهِ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ أَوْ تَغَارُونَ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءَكُمْ يَخْرُجْنَ فِي الْأَسْوَاقِ يُزَاحِمْنَ الْعُلُوجَ.

وكم حدثت من الفضائح، وهُتكت من الأستار، ووقعت من الموبقات ما يهتز له عرش الرحمن. في غيبة عن عيون الأولياء، أو ربما بتغافلهم، حمانا الله جميعا وذرارينا والمسلمين جميعًا من كل سوء ومكروه.

فالمسلم إذا اشتد حياؤه صان عرضه وعرض رعيته، ودفن مساوئه وزلاته، ونشر فضائله ومحاسنه، ومن ذهب حياؤه ذهبت مروءته، وهان على الناس مقته.

صح عند الحاكم على شرط الشيخين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحياء والإيمان قرناء جميعًا فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر)).

حياءك فاحفظه عليك فإنما            يدل على وجه الكريم حياؤه

ولكني أنوّه هنا بأن خُلق الحياء الإيماني لا يمنع المسلم من أن يقول حقاً أو يطلب علماً أو يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، وقد مدحت عائشة رضي الله عنها نساء الأنصار لأنهن لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في دين الله. فيسألن عن دقائق الحيض والنفاس ونحوهما مما تستحي منه المرأة عادة؛ إذ لا حياء في الدين والدين كله حياء، وكم أضر الحياء عن السؤال نساء اليوم حين تبقى الواحدة منهن ساكتة عن بدء الدورة الشهرية فتصوم وتصلي أمام أهلها حياء منهم، ثم لا تقضي .. وهذا من المنكرات العظام. وربما استحيا الرجال من مثل ذلك في شؤونهم الخاصة فتنكبوا شرع الله، فإن مثل هذا الحياء لا خير فيه.

وإنما الحياء الحق هو الذي يكفّ العبد عن المعاصي، ويحثه على الطاعة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضال المسلمين، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر .

 

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً