فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه

فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه

الخطبة الأولى:

الحمد لله نوَّر الدنيا بضياء محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل وحشتها أنسًا بصحابته الأبرار وبآله الأطهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ما تعاقب الليل والنهار.

عباد الله أوصيكم بوصية الله فاتقوا الله وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1.2].

أيها الأحبة في الله .. يمر شهر الله المحرم بالخير واليمن علينا؛ فيذكّرنا بعاشوراء فنصومه احتسابا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله” رواه مسلم.

كيف وقد (أُذِّنَ في الناس أن من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم؛ فإن اليوم يوم عاشوراء) [حديث صحيح رقم: 850 في صحيح الجامع]. بل ورد فضل الصوم في محرم كله.

كما يذكرنا هذا الشهر العظيم بأحداث جرت بين سلف هذه الأمة، بين بعض آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض صحابته الكرام عليهم رضوان الله، فأردت أن أتحدث عن أعظم آل البيت الكرام، والصحابة العظام، وهو والد الريحانتين؛ الحسن والحسين، وزوج الطاهرة المطهرة فاطمة الزهراء، الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أول من أسلم من الصبيان، وأول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول فدائي في الإسلام استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته ليلة الهجرة، ووكل إليه رد ودائع المشركين، وجعله أخاه حين آخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة، وشهد معه المشاهد كلها، ولم يتخلف عنه إلا في غزوة تبوك؛ حين استخلفه على المدينة، فقال عليّ: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ فأجابه عليه السلام: “ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي”، وفضائله أكثر من أن تُحصَى، حتى قال الإمام أحمد: لم ينقل لأحد من الصحابة من الفضائل ما نُقل لعليّ رضي الله عنه.

كان رضي الله عنه من علماء الصحابة وأشهر فقهائهم وأدقهم فهمًا، وأشدهم توفيقًا للحكم الصائب، والرأي السديد، وكان الصحابة يرجعون إليه إذا أشكلت عليهم المسائل، حتى روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: أقضى أمتي عليّ، وعن عمر قال: “قضية ولا أبا حسن لها”، فذهبت مثلاً.

وجاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة، فقال: سل عنها علي بن أبي طالب، فهو أعلم. قال: يا أمير المؤمنين جوابك فيها أحب إليَّ من جواب عليّ، فقال له معاوية: بئس ما قلت، لقد كرهتَ رجلاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزره بالعلم غزرًا. وكان حسن المشورة، حتى قال عمر: لولا عليَّ لهلك عمر.

وأما عن شجاعته فقد كان منها في المحل الأوفى؛ أبلى أحسن البلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشد المحن، ونلتقط من بين آلاف الصور المشعة بالشجاعة والإقدام، صورة فريدة من غزوة الخندق لما حاصر الأحزاب المسلمين يوم الخندق، اجتازت فرقة من خيالة المشركين الخندق من نقطة ضيقة منهم عمرو بن ود وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وهبيرة بن وهب فخرج إليهم عليّ بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها، وأقبلت فرسان المشركين نحوهم، وكان عمرو بن ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراح، فلم يشهد أحد، فلما كان يوم الخندق خرج مُعلمًا ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيله، قال: من يبارز؟ فبرز إليه عليّ أبي طالب فقال له: يا عمرو إنك قد عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه. قال عمرو: أجل.
قال علي: فإني أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الإسلام، قال عمرو: لا حاجة لي بذلك، قال علي: فإني أدعوك إلى النزال، فقال عمرو: ولِمَ يا ابن أخي؟ فو الله ما أحب أن أقتلك !! قال له علي: لكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على عليّ فتنازلا وتجاولا، فقتله عليّ رضي الله عنه. وخرجت خيل المشركين منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة.

وفي معركة خيبر تعذر فتح الحصون على المسلمين أولاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: لأعطين الراية غدًا رجلاً يحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرار، ثم دعا عليًّا وهو أرمد، فتفل في عينه فبرئت، وسلمه الراية وكان الصحابة لا يستشرفون إلى إمارة إلا في تلك الساعة كل منهم تمنى أن يكون هو، ففاز بها عليّ.

وأما عن ورعه فبلغ من زهده في الدنيا أن تقول إذا رأته يا ويلاه، وللجنة أن تقول إذا ذكر لها وا شوقاه، استمع إلى منهجه في حياته يلخصه لصاحبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في خلافته: يا أمير المؤمنين: إن سرك أن تلحق بصاحبيك ( يعني رسول الله وأبا بكر ) فأقصر الأمل، وكُلْ دون الشبع، وأقصر الإزار، وارفع القميص، واخفف النعل تلحق بهما. وقد عُوتب في لباسه الرخيص فقال: “ما لك واللبوس؟ إن لبوس هذا أبعد من الكبر، وأجدر أن يقتدي به المسلم”.

وخير ما نختتم به سيرة علي رضي الله عنه ما ورد: أن معاوية رضي الله عنه قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لضرار بن ضمرة: صف لي عليًّا. فقال: أو تعفني يا أمير المؤمنين، قال بل تصفه لي، قال أو تعفني، قال لا أعفيك. قال أما إذ لا بد فإنه والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، ويتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفّه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جَشَب – أي غلظ أو بلا أدم- كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، ويبتدينا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة، ولا نبتديه لعظمته، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين، ويحب المساكين لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سجوفه، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرضتِ، أم لي تشوقتِ، هيهات هيهات، غرِّي غيري، قد بتتك ثلاثًا لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آهٍ من قلة الزاد وبعد السفر، ووحشة الطريق”. قال: فذرفت دموع معاوية رضي الله عنه فما يملكها وهو ينشفها بكمّه، وقد اختنق القوم بالبكاء، ثم قال معاوية: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال حزن من ذُبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها، ولا تسكن حسرتها .

قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [سورة الأحزاب: 23].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الحكيم الخبير، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. صلى الله عليه وعلى صحابته وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد فاتقوا الله..

أيها الإخوة المسلمون، بعد أن عطرنا أسماعنا بسيرة عليّ تعالوا إلى شيء من أقواله، علَّ كلمة منها تكون معينًا لنا، إذا عملنا بمقتضاها؛ وسببًا أسباب القرب من الله، ودخول جناته.

يقول رضي الله عنه: “لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: أذنب ذنبًا فهو يتدارك ذلك بتوبة، أو رجل يسارع في الخيرات”. ويقول: “كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل فإنه لن يقل عمل مع التقوى، وكيف يقل عمل يُتقبل؟” ويقول: “ألا إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يقنّط الناس من رحمة الله ولا يؤمّنهم من عذاب الله، ولا يرخّص لهم في معاصي الله، ولا يدع القرآن رغبةً عنه إلى غيره، ولا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في علم لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تدبُّر فيها”. رضي الله عن عليّ فقد كان أمه وحده، وجمعنا به في مستقر رحمته.

ندعوك يا ربنا بما دعاك به عبدك عليٌّ رضي الله عنه: “اللهم اغفر لنا ما أنت أعلم به منا، فإن عدنا فعد علينا بالمغفرة، اللهم اغفر لنا ما وعدنا من أنفسنا ولم تجد له وفاء عندنا، اللهم اغفر لنا ما تقربنا به إليك بألسنتنا ثم خالفته قلوبنا، اللهم اغفر لنا رمزات الألحاظ، وسقطات الألفاظ وشهوات الجنان وهفوات اللسان يا من يرحم من لا يرحمه العباد، ويا من يقبل من لا تقبله البلاد، ويا من لا يحتقر أهل الحاجة إليه، يا من لا يجيب بالرد أهل الإلحاح عليه، يا من يشكر على القليل ويجازي بالجليل، يا من لا يغيِّر النعمة ولا يبادر بالنقمة، يا من يثمر الحسنه حتى ينميها ويتجاوز عن السيئة حتى يعفيها، انصرفت دون مدى كرمك الحاجات، وامتلأت بفيض جودك أوعية الطلبات، وخاب الوافدون على غيرك، وخسر المتعرضون إلا لك، وأجرب المنتجعون إلا من انتجع فضلك، وها نحن يا إلهنا نؤمل في فضلك، فأكرم وفادتنا، واسمع نداءنا، وأحسن منصرفنا”.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك المجاهدين، وارفع البلاء عن إخواننا المستضعفين واجعلنا من أهل جنة النعيم، وثبت على الحق إمامنا وولاة أمور المسلمين، وارزقهم حب رعاياهم، والإحسان إليهم، واجعلهم عاملين بكتابك وسنة رسولك صلى الله عليه وسلم، واجزهم عن خدمة الإسلام والمسلمين خيرًا، يا رب العالمين.

اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين، وعنا معهم برحمتك وفضلك يا أكرم الأكرمين.



اترك تعليقاً