فضل الرفق

فضل الرفق

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدرًا، وأحاط بكل شيء خبرًا، وأسبل على خلقه بلطفه رحمة وسترًا، وبعث رسوله وكمل وصفه لينًا ورفقًا وبرًّا. أحمده سبحانه وأشكره، وأستعين به وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنزل كتابه بالحق والهدى، والنور والضياء رحمة وشفاء لما في الصدور، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله بعثه بالرفق واللين والتيسير في جميع الأمور صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون:

إن الله تعالى بعث نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة وهدى، وقد كان أبر الناس قلبًا، وأصدقهم لهجة، وأقربهم رحمًا. وإن من أكرم سجاياه صلى الله عليه وسلم، أن لازمته تلك الأخلاق العالية، في أحلك الظروف، شجّ رأسه، وكُسرت أسنانه في غزوة أحد، فقيل له في هذا الحال العصيب: ألا تدعو على المشركين!! فغلبت رحمته على غضبه فقال: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) متفق عليه، وقال في مقام آخر: (إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانًا) رواه مسلم.

أيها الأحبة في الله: إن الرفق مع الناس والتيسير في التعامل معهم خُلق حثت عليه الشريعة، وأكد أهميته الدين، فقال صلى الله عليه وسلم: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه” رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم : “إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه” رواه مسلم. بل أخبر صلى الله عليه وسلم أن “من يحرم الرفق يحرم الخير كله” رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: “من أُعطي حظه من الرفق فقد أُعطي حظه من الخير، ومن حُرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير” رواه الترمذي وهو حسن.

ولأهمية الرفق واللين في التعامل والتصرفات لم يكتفِ صلى الله عليه وسلم بأن حثّ عليه في معاملة الناس، بل أكد على الرفق والسهولة حتى في معاملة البهائم، روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يخرج إلى البادية فأرسل إلى عائشة رضي الله عنها ناقة لتركبها، وكانت هذه الناقة شموسًا غير مذللة، فلما أرادت عائشة أن تركبها تمنعت عليها وتلدنت، فلعنتها عائشة فقال صلى الله عليه وسلم: “مهلاً يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله، فعليك بالرفق”. بل كان صلى الله عليه وسلم يجعل أمر الرفق واللين والتيسير أصلاً من الأصول التي يوصي بها أصحابه، فكان إذا بعث أحدًا من أصحابه في بعض أمره قال: “بشّروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا” متفق عليه.

وكان صلى الله عليه وسلم يربي أهله على الرفق واللين حتى مع الكفار، فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت:” دخل رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم، (يعني الموت عليكم) قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: وعليكم السام واللعنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله” فقلت: يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟! فقال: “قد قلت وعليكم”.

ولما دخل أعرابي المسجد وبال فيه، قام الصحابة إليه ليمنعوه، فمنعهم صلى الله عليه وسلم وقال: لا تعجلوا عليه، حتى إذا أنهى بوله وقام ليذهب، دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: “إن هذه المساجد لم تبنَ لهذا وإنما بُنيت للصلاة الذكر والتسبيح”. ثم ذكر صلى الله عليه وسلم في ذلك مثالاً بديعًا لأصحابه فقال: إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل شردت عليه ناقته، فقام الناس يشتدون خلفها وهي تشتدّ هاربة والرجل يصيح: خلوا إليّ ناقتي..، حتى إذا تفرّقوا عنه عمد إلى شيء من خشاش الأرض، ثم جعله في ثوبه ورفعه إليها ودعاها فلم يزل بها حتى جاءته”. فلنتأمل في هذا المثال البديع كيف يسهل الرفق ما كان صعبًا.

    المـــرء يجمع والــــزمــــان يفــرّق       ويظـل يرقّع والخطوب تمزق

  إن الـــــترفــــق للمـــــقيـم موافـــــــق       وإذا يســافر فالترفــــــق أوفق

                                    لو سار ألف مدجج في حاجة         لـم يبلغـــنْ إلا الذي يترفـق

أيها الإخوة الكرام: روى مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: لما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، علمت أمورًا من أمور الإسلام فكان فيما علمت أن قال لي: “إذا عطست فاحمد الله، وإذا عطس العاطس فحمد الله فقل: يرحمك الله، قال: فبينما أنا قائم مع رسول الله صلى الله علي وسلم في الصلاة إذ عطس رجل فحمد الله، فقلت: يرحمك الله، رافعًا بها صوتي فرماني الناس بأبصارهم حتى احتملني ذلك، فقلت: ما لكم تنظرون إليَّ بأعين شزر؟! قال: فسبحوا، فلما قضى رسول الله صلى الله علي وسلم الصلاة قال: من المتكلم؟! قيل: هذا الأعرابي، قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن – أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالاً يأتون الكهان؟ قال: فلا تأتهم، قلت: ومنا رجال يتطيرون؟ قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم، قلت: ومنا رجال يخطّون؟ قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك، قلت: وكانت لي جارية ترعى غنمًا لي قبل أحد والجوانية فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظّم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة. فلنتأمل عباد الله؛ كيف أن رفق النبي صلى الله عليه وسلم ولين جانبه جعله ينشط في السؤال وتعلم الدين.        قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [سورة آل عمران: 159].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، جعلنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون: إن الإنسان مدني بطبعه ولا بد له أن يخالط الناس والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم.. وقد قال بعض الحكماء يوصي بنيه: يا بنيّ إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم..

أيها الإخوة الكرام: إن الفظّ القاسي، صاحب القلب الغليظ ينفر الناس منه ويتحاشون الجلوس إليه، فلا تقبل منه دعوة ولا يسمع منه توجيه، ولا يرتاح إليه جليس.. وإن كان صالحًا تقيًّا.

ذكر أن عالمًا من العلماء كان جالسًا في حلقته فدخل عليه رجل معه حربته يريد أن يسأل، فلما وقف على هذا العالم غرس حربته في الأرض، فوقعت على أصبع هذا العالم، فلم يتكلم أو يتحرك، حتى إذا انتهى الرجل من سؤاله أجابه العالم، ثم ذهب الرجل، فرفع العالم رجله فإذا هي تنزف بالدم فقيل له: لِمَ لمْ تتحرك لما أصابك؟! فقال: خشيت أن يعلم بما فعل فيرتج عليه السؤال ثم يظل جاهلاً بدينه.

أيها الأحبة في الله: إن من تأمل في كتاب الله عز وجل وجد أن الرب جل جلاله عظم الرفق وأمر به، وجعله دأب الأنبياء، فإن الله تعالى لما أرسل موسى عليه السلام إلى فرعون الطاغية المتكبر، الذي ادعى الألوهية، وقتل بني إسرائيل، وسخّر الناس بين يديه. بل بلغ من طغيانه أنه جمع جنوده وبنى صرحًا عاليًا ليرقى إلى إله موسى فيقاتله، ومع ذلك كله، فإن الله تعالى لما أرسل الله موسى وهارون إليه قال سبحانه: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه: 43- 44].

وانظروا إلى غاية الرفق وعظم اللين والسهولة في حال إبراهيم عليه السلام، دعا أباه إلى الإسلام فصرخ به أبوه الكافر وقال: {يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46] فردّ إبراهيم بكل رفق ولين سلام: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]، فكان الأنبياء عليهم السلام يصِلون بالرفق واللين إلى ما لا يصِل إليه غيرهم..

معاشر المؤمنين: وينبغي لمن لم يكن رفيقًا لينًا حليمًا أن يعود نفسه على ذلك، فهذا الأحنف بن قيس كان من أحلم الناس، وذكر أصحاب التاريخ من حلمه أعاجيب وغرائب، ومع ذلك سأله بعضهم عن حلمه فأسرَّ إليه، وقال: “لست والله بحليم لكني أتحالم، وإني ليصيبني من الغضب مثل ما يصيبكم لكني أتصبّر”.

وقال عروة بن الزبير: “رب كلمة ذلٍّ احتملتها أورثتني عزًا طويلاً”.

أيها الإخوة الأكارم: إن الرجل المسلم الموفق يلتمس للناس الأعذار قدر المستطاع. وإن على الأب الشفيق والأم الرءوم وعلى أصحاب المسئوليات أن يرفقوا بمن تحت أيديهم لا يأخذون إلا بحق ولا يدفعون إلا بالحسنى ولا يأمرون إلا بما يستطاع، {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [سورة الطلاق: 7].

وعلى قدر ما يمسك الإنسان نفسه، ويكظم غيظه، ويملك لسانه، تعظم منزلته عند الله وعند الناس، فليس وظيفة المسلم أن يلوك أخطاء الناس، ويتتبع عثراتهم، ويعمى عن رؤية حسناتهم وكأنه لا يعرف ولا يرى إلا السـيئات، أليس في عيوبه ما يشغله عن عيوب الناس؟ فلا ينبغي أن يكون كما قيل:

تخفى الحقائق عن عيون لا ترى         في الصفحـة البيضاء إلاّ الأسود

وقد وصف الله تعالى صفوة عباده بقوله {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لصالح الأخلاق، وأن يصرف عنا سيئها.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك حربا على أعدائك. اللهم فك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضال المسلمين، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً