فضل الشهادة في سبيل الله

فضل الشهادة في سبيل الله

وأحداث حصار رام الله


الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي شرّف المؤمنين بشراء أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة خالدين فيها أبدًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا إمام المجاهدين، وسيد الشهداء أجمعين، عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله وطاعته، يقول الله جل في علاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70- 71].

أيها المسلمون: من أين أنهي حيرتي المتضرمة بين أضلاعي؟!

كيف يطيب لي أن أصف ما لا تطيق أعصابي؟!

إلى من أوجه نداءاتي؟!

بأي الكلمات أصوغ آلامكم وأناتي؟!

عفوا أيا قدساه ما في جعبتي إلا الكـلام

أنا لن أئن هــنا  فما هز الأنين لنا زمام

أنا لن أنوح هنا فما خفر النواح لنا ذمام

بل سوف أصرخ يا منى قلبي فأقوامي نيام

فلعل شمعـة أحرفي تهتز في كهف الظلام

ولعل سـيف قصائدي يهتز في كفي همام

ولعـل أمـتنا تفيق وتسلخ الشهر الحرام

فلسطين.. هذا الجرح النازف من أجسادنا، هذا الألم المستعر في قلوبنا، هذا البلاء الكبير الذي يضع أمتنا وكل فرد فيها على محك الولاء والبراء، هذا الذي يشعرنا بالعجز أمامه فنبكيه، ونشتم صانعيه، ثم ماذا.. ثم ننكفئ على أنفسنا في ذلة ومهانة لا نستطيع أن نقدم له شيئًا.. حتى الدعاء نقصر فيه، ونتهاون بأثره.. وحتى المال نبخل به.. وتلك سطوة الخيبة، وحرارة المأساة..

حقًّا لم تمر على أمة الإسلام فترة أحرج ولا أصعب ولا أقسى من الظروف التي تمر بها اليوم؛ إذ أصبحت الأخطار الجسام تحدق بها من كل حدب وصوب، تهدّد حاضرها ومستقبلها، لقد أصبحت أمم الكفر والطغيان تنشر رعبها وإرهابها حيثما تريد، ظنًّا منها أن شعلة الإيمان انطفأت في قلوب أتباع الإسلام، وأنهم أصبحوا مقدورًا عليهم في أي لحظة، وأن شعوب المسلمين أصبحوا سادرين في لهوهم، لا تؤلمهم غير جراح دنياهم، وأنهم يموجون في بداية كل محنة تُدار عليهم، ثم تخفت أصواتهم بعد حين، فكان ما نرى من تسلط رهيب من اليهود في فلسطين على إخواننا هناك، من أجل جندي واحد تتحول الدولة الفلسطينية إلى دولة معتقلة، ويصير الشعب الفلسطيني في غزة شعبًا مسجونًا في أرضه، بشاعة في القتل والقصف، وإرهاب بالسجن والهدم والإفساد في الأرض والزرع. ومحاولة لإذلال الشعب المصابر.. وكأنهم لا ينتمون لأمة تزيد عن المليار.. ولكن قوة هذا الشعب في إيمانه بالله، وعودته إليه، ولذلك تصاعدت حدة الاعتداءات عليه، حين توجه إلى مكامن القوة فبعثها من مرقدها، وألقى بكل شعارات الدنيا في البحر، وسار باسم الله، متأبطًا قول الشاعر الفلسطيني الذي قضى على صعيد الأرض المباركة:

سأحمل روحي على راحتي          وألقي بها في مهاوي الردى

فإما حيـاة تسـر الصـديـق         وإمــا مـمـات يـغـيـظ الـــعـــدا

تردد بعض المصادر بأن هناك عشرة آلاف فلسطيني مستعدين للاستشهاد في سبيل الله، بطريقة التفجير الذاتي، التي يرتعد اليهود خوفًا منها، وقد أخفقوا في التقدير، فقد باتت الشهادة في سبيل الله أمنية الشباب والشابات هناك، وكل منهم ينتظر دوره بفارغ الصبر، فقد علموا أن ما انتُزع بالقوة لا يسُترد إلا بالقوة، وأن الدماء الطاهرة هي الجسور الحقيقية للوصول إلى العزة والكرامة {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139- 140].

وماذا بعد أن تكون الشهادة اصطفاء ينعم الله به على من يشاء؟ ماذا بعد ذلك من ترغيب؟ لقد جعل الله الشهداء في منزلة يذكرهم فيها مع من اصطفى من أنبيائه فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

بل جعلهم مع الأنبياء حتى في القضاء بينهم يوم القيامة فقال تعالى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزمر: 69]، وبشرهم بالأجر التام، والنور الخاص بهم، فقال تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19]، وواسى أقرباءهم وذويهم فقال لهم: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169- 170].

إننا ونحن نرى مواكب هؤلاء الشباب والشابات تُشيع على نعوش الإباء، مجللة بالتكبير وعهود الاستمرار على طريقهم مهما غلا الثمن، لنشعر بكثير من العزة في زمن الخنوع، وبكثير من الكرامة في زمن الذل، ونواسي جراحنا فيهم بأننا نحسبهم والله حسيبهم بأنهم قضوا شهداء، ينافحون عن دينهم ومقدساتهم. وإن كنا لا نزكي كل فرد فيهم بعينه أو نشهد له بالشهادة في سبيل الله، فلقد سمع رسولنا الله صلى الله عليه وسلم الصحابة يشهدون لفلان وفلان بالشهادة فقال: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ (أي يجرح) فِي سَبِيلِهِ» رواه البخاري.

وفي حديث آخر رواه البخاري أن عُمَر بْن الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فُلَانٌ شَهِيدٌ حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلَّا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ»، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ.

إني لأنبه على ذلك لا لأقلل من تلك التضحيات المشرفة.. حاشا لله.. ولكن لاختلاط الرايات هناك، واختلاف الغايات، ولكن هنيئًا لفلسطين بمن خلصت نياتهم، ومن نحسبهم نالوا شرف الشهادة فيها، في حين حرمت شعوب المسلمين جميعًا من شرف المشاركة في نيل هذا الفضل العظيم، وذلك عز يظهر يوم القيامة، قال قَتَادَة مشيدًا بالأنصار: “مَا نَعْلَمُ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَكْثَرَ شَهِيدًا أَعَزَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَنْصَارِ”، قَالَ قَتَادَةُ: “وَحَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ سَبْعُونَ” رواه البخاري. فكيف بمن قدم ولا يزال يقدم آلاف الشهداء.

أيها الأحبة.. من حقنا أن نحزن على مقتل كل فرد منهم، وقد أعزنا الله بهم، ومن حق ذويهم أن يفاخروا بهم، ولا يقبلوا فيهم عزاء، فلقد قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ، لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى» رواه البخاري. ويقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ» رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.

ويقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ». رواه الترمذي وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.

لقد أعاد هؤلاء الشبيبة المؤمنة صور الشهادة العزيزة إلى ذاكرة الأمة التي شاخت في عصرها الأخير، تأمل هذا الحديث الذي رواه جَابِر بْن عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبره بأنه كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَبْكِي وَأَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَجَعَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَوْنِي وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَبْكِيهِ أَوْ مَا تَبْكِيهِ، مَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ”.

أليست هذه الصورة هي التي نراها تتكرر اليوم في فلسطين المصابرة؟ فاللهم تقبل شهداء فلسطين، وآوهم في أرفع درجات جناتك، واخلفهم في أهلهم، إنك سميع الدعاء.

عباد الله توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله قاصم الجبابرة، ومذل الظلمة، وناصر الموحدين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.. واعلموا أن عدونا يتمنى أن نشعر بالعجز، فذلك أبلغ أمانيه، فلا والله إننا لنؤمن بنصر الله لا محالة، وأننا سوف نقتل اليهود جميعًا، وأن نصر الله آتٍ رغم أنوف اليهود والنصارى والمنافقين ومن شايعهم.

فلا يغتر بعض الناس بسبب ما يسمعون من تحليلات باردة، وتعليقات ماكرة وتضخيم لما وصل إليه الغرب من قوة وبطش، وجبروت وقوة، وما وصل إليه المسلمون من ضعف وتفرق، واستكانة وتذلل، لا يكن ذلك مدخلا للشيطان، ومدعاة للوهن وضعف الهمة، فإنما قوة المسلمين كامنة في إيمانهم، ولم ينتصروا في معاركهم الكبرى طوال تاريخهم بزيادة عدد ولا عدد، بل بما قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وقول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173- 174].

إن أمتنا بإيمانها لا تعرف اليأس، ولقد مر مثل هذا الموقف بالمسلمين من قبل، فلما استلهموا الرشد، واستعانوا بالله ونصروه استعادوا القدرة على طرد الدخيل، وقد امتثلوا لقول الحق تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. فلنكن نحن المؤمنين الذين يبشرهم ربهم بمثل هذه البشريات الكريمة. ولتكن صورة هؤلاء الشباب الأبطال وهم يتلون بياناتهم قبل إقدامهم على تفجير شظايا أجسادهم الطاهرة ماثلة أمام عيوننا، تؤكد لنا أن أمة فيها مثل هؤلاء الشجعان لن تخمد جذوتها أبدًا، وأن دولة إسرائيل لن تعيش على ترابنا طال الأمد أم قصر.

لقد كانت الأخبار في الأسبوعين الماضيين تتضرم في أرض الإسراء، لم تقف عند نفاق التصريحات، ولا بهلوانية التنديدات، ولكنها سواعد تحمل البندقية والحجر المبارك، الذي يصحبه نور {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، ونفوس ترمي بأرواحها في أشداق الموت في بلدات مرابطات تهتف: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، لقد قدم هذا الشعب آلاف الشهداء، وآلاف الجرحى، ولا يزال الشباب الفلسطيني المؤمن يعلنها صريحة بأنه لا يزال على استعداد أن يقدم مزيدًا من التضحيات من أجل الأقصى، ولن يتخلى عنه أبدًا، لقد أصبح الشعار المتداول: (إياك أن تموت على فراشك، لا تمت إلا في وابل من النيران).

لقد أعلن هذا الشعب الأعزل إلا من إيمانه بأنه لا يزال يمتلك روح الجهاد، وإن كُبِتَت عشرات السنين، وكأنهم يصرخون أمام ملايين الشرفاء في العالم الإسلامي، المتعطشين لإراقة دمائهم بين يدي أقصاهم الأسير:

أخي جاوز الظالمون المدى             فحق الجهاد وحق الفدا

فالويل لكم أيها الجبناء، فلقد {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].

فليتخذ الله ما شاء من شهداء، ولتتخضب أرض الأقصى بدماء الشباب، فإن ما يحدث الآن في الأقصى هو الذي ينبغي أن يحدث، فالركود في ظل البغي موت دنيء، لا يليق بالشرفاء، والرضا بالهوان ذل يتجرعه الأنذال، فاتركوهم يا أمة الإسلام يتفننون في طلب الشهادة ما دمتم قد أسلمتموهم، وادعوا لهم بالثبات على هذا فإنها اللغة الوحيدة التي يعرفها اليهود، وكونوا خير خلف لهم على أهلهم وذويهم، من خلال المؤسسات الخيرية الموثوقة في بلادكم. والله أكبر من كل المؤامرات والدسائس، الله أكبر من كل القوى العسكرية، الله أكبر من كل الحشود الإعلامية، الله أكبر من كل الدول الداعمة لإسرائيل، ولا غالب إلا الله، ولكن المنافقين لا يعلمون.

لقد غيّر هؤلاء الشبيبة خارطة فلسطين، وقلبوا مخططات اليهود، وأعادوا القضية جذعة كما كانت قبل خمسين عامًا، وفرضوا حقوق قومهم على عدوهم فرضًا. وأفشلوا مخططات الطاغية شارون الرامية إلى تركيع الشعب الفلسطيني، وتأمين شعبه اليهودي، فإن فترة حكمه تعد الأسوأ في تاريخ الاحتلال، فلقد ازدادت تكاليف تأمين الحماية للمستوطنين الصهاينة، وعشش الرعب في قلوبهم في دورهم، وملاعبهم، وملاهيهم، ومطاعمهم، ومقار عملهم، ومواصلاتهم، فلا يدري أحدهم متى يتفجر الهواء من حوله ليحوله إلى جثة عفنة، بل قل حتى توافد اليهود من خارج فلسطين خوفًا وهلعًا.

إن هذه العمليات الاستشهادية أصبحت الغول الذي يهدد استقرار اليهود في أرض النبوات، والهاجس الذي يطاردهم في صحوهم ومنامهم، وهم أشد الناس حرصًا على الحياة، وشهد حتى جنرالاتهم بأنها عمليات نوعية، حتى قال أحدهم: ((حقًّا إن هذه العمليات قد تجاوزت حتى أسوأ التوقعات التي رسمها الجيش.. إنه إبداع يفوق الخيال)).

لقد هدد هؤلاء الشباب الحواجز العسكرية، وفجّروا أسطورة الدبابات التي يفاخر بها اليهود بأنها لا تُقهر، حتى أفشلوا صفقاتها في الغرب، واقتحموا المستوطنات، بل وصلوا إلى درجة تصنيع الصواريخ. إن مثل هذا المستوى جعل الجيش الإسرائيلي يفقد الثقة في قيادته، ويفقد الثقة في نفسه حتى تحولوا كما يقول أحد اليهود: من صيادين إلى بط في مرمى النيران.

وماذا يصنعون مع شباب الموت عندهم حياة..

إن روح حب الشهادة في سبيل الله ينبغي أن تتربى عليها الأمة كلها، للذود عن مقدساتها وأوطانها، فلا تدري متى تبتلى بلاد منها لا قدر الله بمثل هذا الابتلاء، فإن كان شبابها قد تربوا على الإيمان وحب الاستشهاد فلن يقف أمامهم عدو، وإن كانوا قد تربوا على الدعة واللعب واللهو، فإنهم سيصبحون لقمة سائغة لا تتعثر في حلقوم التنين. عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ الشَّهِيدِ»، رواه الترمذي، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

ولا يزال المسجد الأقصى ينتظر ويقول:

كل المساجد طُهِّرت

وأنا على شرفي مدنس

ويتلفت يمينًا وشمالاً فلا يرى إلا حرًّا مكبلاً، وأمة مزقًا، فيصيح:

قطع الطريق علي يا أحبابي

ووقفت بين مكابر ومحاب

أو ما قرأتم في ملامح صخرتي

ما سطرته معاول الإرهاب؟

أو ما رأيتم خنجر البغي الذي

غرسته كفّ الغدر فوق قبابي؟

أخواي في البلد الحرام وطيبة

يترقبان على الطريق إيابي

يتساءلان متى الرجوع إليهما

يا ليتني أسطيع رد جواب !!

اللهم يا من بيده ملكوت السماوات والأرض، هيئ للقدس فرسانها، وفك بهم أسرها، وارزقنا في مسجدها الأقصى صلاة آمنة مطمئنة نهنأ بركوعها وسجودها، إنك سميع الدعاء.

ثم صلوا وسلموا على معلم الناس الخير ومربي البشرية على منهج الله القويم سيدنا ونبينا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله كما أمركم الله جل وعلا بذلك فقال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضال المسلمين، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 



اترك تعليقاً