فضل عيادة المريض وآدابها

فضل عيادة المريض وآدابها

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد.. فأوصيكم عباد الله بتقوى الله وطاعته؛ امتثالاً لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1.2]، وقال عز من قائل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الأنفال: 29].

عباد الله يا أهل الإيمان..

إن من نعمة الله علينا أن أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وأرسل إلينا رسولاً كان بنا رءوفًا رحيمًا، فما من خير إلا دلنا عليه، وما من شر إلا حذّرنا منه، صلوات الله وسلامه عليه.

وإن ديننا هو دين الإنسانية في أعلى قيمها، وأرق شفافيتها، وأكمل متطلباتها، العبادة فيه لها مفهوم شامل، لم يدع شيئًا ذا بال في الحياة إلا نظَّم شتاته، وقنَّن طرقه، ووضع أسسه، بل وفصّل في أساليب التعامل معه.

دين عُنِيَ بأدق الروابط الاجتماعية؛ حتى تبقى صلبة قوية أمام كل الصدمات خلال معركة الحياة، وحثّ على رعاية أرق الأساليب بين الناس؛ لتبقى المحبة راية بيضاء ترفرف باليمن والسلام، والأمن والأمان.

أفمن العجيب إذن أن يشرع للمعاملة مع فئة من المجتمع، لا يخلو أن يدخل دائرتها أي فرد من المجتمع في أي لحظة من اللحظات، وقد تطول مدة انتسابه إليها وقد تقصر.

ومن الذي لا يمرض من بني البشر، ولذلك دعينا أن نُبادر إلى الأعمال الصالحة قبل أن يدهمنا المرض، أو العجز، أو الهرم، أو الموت، وهو حق اليقين الذي لا مهرب منه.

وقد مرض الأنبياء، حتى ضُرب بمرض نبي الله أيوب عليه السلام المثل في شدة الابتلاء، كما ضُرب به المثل في صبره على شدته، ومرض الرسول صلى الله عليه وسلم، واشتد به مرضه حتى كان يغمى عليه، وكان ذلك رفعًا لهم في الدرجات، فما وهنت لهم عزيمة، وما ضعف لهم إيمان، وما فتروا عن طاعة الله ما استطاعوا إليها سبيلاً.

عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: “دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ: بَلَى ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ. قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ. قَالَتْ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ، فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ، فَقُلْنَا: لَا هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَام لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ لَا يَتَأَخَّرَ، قَالَ: أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ يَأْتَمُّ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ، قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا أَعْرِضُ عَلَيْكَ مَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ عَنْ مَرَضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ هَاتِ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَدِيثَهَا، فَمَا أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ” رواه البخاري.

إنها فئة المرضى، هذه الفئة التي قد تكون رهينة الأسرة البيضاء داخل أسوار المستشفيات تترقب ساعة الزيارة المقننة من قبل إدارة المستشفى بفارغ الصبر، وقد تكون حبيسة بيوتها تتوهم دقات الجرس، وضربات الباب وإن لم يكن ذلك حقيقة من الحقائق، كل ذلك رغبة في كسر حاجز السكون المضجر الذي يمر به المريض بعد عالم الحركة والضجيج، الذي كان يعايشه خلال فترة صحته.

المريض – مهما كان في عنفوان قوته وصحته- إنسان حساس المشاعر، رقيق الحواشي، يتدفق دمعه بمجرد أن يرى شخصًا يحبه، أو شخصًا يشفق عليه، كثيرًا ما يتخلى خلال مرضه عن سمات الكبر والتعالي على الآخرين التي ربما كانت تداخل شخصيته، فهو يشعر بالانكسار، والحاجة إلى مشاركة الآخرين له مأساته.

وهذه لا شك فرصة ثمينة لا تُتمنى، ولكن ينبغي ألا تمر تدون أن يُستفاد منها، من أجل الوصول إلى قلب المريض؛ فيربط بالله إن كان غافلاً، ويصبر إن كان جازعًا، ويُعان إن كان ذاكرًا، وتُقضى حاجاته، وتُلبى رغباته، ويكون عبرةً للزائر على كل حال، وهو في كل ذلك يكون أقرب استجابة من وضعه حال شغله بالدنيا وغفلته عما يصلح شأنه.

وقد حثَّ الإسلام على الالتفات إلى المرضى، رعاية وزيارة، وكانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بصور التواصل والتراحم، والزيارات الودية، التي ملك بها المصطفى صلى الله عليه وسلم قلوب أصحابه، بل وحتى من غير المسلمين إذا كان يرجى إسلامهم. فقد روى البخاري وغيره عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَقُولُ: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ”.

إن زيارة المريض عبادة يقوم بها المسلم وليست عادة اجتماعية فحسب، فيجب أن تبقى هذه النية ماثلة في قلب الزائر، فهو لا يزوره من أجل دفع حرج اجتماعي، أو سخط شخصي، أو رد معروف سابق حيث كان المريض يزوره في مرض ألمَّ به أو بأحد أحبابه من قبل. لا، بل هو عبادة يقوم بها العبد ابتغاء رضوان الله، فهو يقوم بالزيارة وإن لم يتنبه له المريض، وإن لم يعرفه أحيانًا، وإن لم يكن للمريض مكانة في قومه، وليس وراءه مصلحة ترجى، ويؤدي الزيارة حسب آدابها الإسلامية العالية.

دعونا أيها المؤمنون نقترب من منابع الرسول صلى الله عليه وسلم لنرتشف من حياضها الدافقة، ونشجع نفوسنا الضعيفة لتنهض بهذه العبادة الطيبة روى ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضًا لم يزل في خُرفة الجنة حتى يرجع)) رواه مسلم وأحمد والترمذي.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من عاد مريضًا خاض في الرحمة حتى إذا قعد استقر فيها)) [رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده..)) رواه مسلم وأحمد.

وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أتى أخاه المسلم عائدًا، مشى في خرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح)) حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. 

وأما الأدلة العملية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة، وكانت تشمل كل أصحابه، فلا تخص غنيًّا أو قريبًا، بل كان يعود المساكين ويسأل عنهم كما في الموطأ، ويزور الصبيان؛ تطييبًا لخاطر أهلهم وذويهم، ودعاء لهم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور ابنًا مريضا لإحدى بناته، فرُفع الصبي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ونفسه تقعقع، ففاضت عينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله ؟ قال: هذه رحمة وضعها الله في قلوب من شاء من عباده، ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

ولا تتوقف مشروعية العيادة على علم المريض بعائده؛ كمن يكون في إغماءة دائمة أو متقطعة، لأن العيادة عبادةٌ مشروعة لا يشترط فيها علم المريض بها، و((لأن وراء ذلك جبرًا بخاطر أهله، وما يُرجى من بركة دعاء العائد، ووضع يده على المريض، والمسح على جسده، والنفث عليه عند التعويذ وغير ذلك)). كما يقول الإمام ابن حجر في فتح الباري (10 /119).

وأما وقت العيادة فهو مردود لعرف البلاد، بحيث لا يكون الوقت مزعجًا للمريض أو شاقًّا عليه، وينبغي للعائد ألا يطيل الجلوس عند المريض إلا لخدمته أو نزولاً عند رغبته؛ لأنه مشغول بأوجاعه وآلامه، وقد تعرض له حاجة فيستحي من العائد.

ويُستحب أن يجلس عند رأس المريض لما في ذلك من الإيناس له، والحديث معه، والتمكن من رقيته والدعاء له، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضًا جلس عند رأسه، فسأله ثم دعا له..)) حديث صحيح رواه البخاري في الأدب المفرد.

وفي سؤاله عن حاله، والاستماع إليه تنفيس له عن خاطره، وله أن يقول له: لا بأس عليك ستُشفى إن شاء الله، وإن فلانًا مرض بمثل مرضك هذا وعُوفي، فإن ذلك مما يعجّل بشفائه بإذن الله.

وللمريض أن يبيّن حاله للعائد بنية الإخبار عن الحال وحسب، وليس بنية الشكوى للخلق، أو التضجر والجزع من قدر الله، فإن هذا دليل على ضعف اليقين وعدم الرضا بقضاء الله وقدره، وقبيح شكوى العبد ربه للناس أفيشكى الخالق للمخلوق؟ وإنما الشكوى تُرفع لله ذي الجلال والإكرام، وهو الكريم المنان، الذي بيده الشفاء. يقول الله عز وجل حاكيًا عن عبده الصابر أيوب: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 41- 44].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من زلل العمل وخطل المقال، وأشهد ألا إله إلا الله الواحد المتعال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى الصحب والآل.

أما بعد: فإن المرض سُنة جارية من سنن الله في خلقه، والناس معه إما ساخط جازع فله المرض وعليه الإثم والسخط، وإما محسن صابر محتسب، فله مضاعفة الحسنات ورفع الدرجات، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يصيبه أذى مرضٌ فما سواه إلا حطَّ الله سيئاته كما تحط الشجرة ورقها)) رواه البخاري وغيره. وأهل المريض ومحبوه في ذلك معه سواء يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم، ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه)) رواه البخاري وغيره.

وإن الله تعالى هو الشافي المعافي وحده لا شريك له، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، ولا أحد يستطيع ان يقدم شيئًا أراد تأخيره، ولا تأخير شيء أراد تأخيره.

كلمة أجراها الله على لسان إبراهيم الخليل عليه السلام وهو يحاجج قومه، ويكشف لهم بعض ما علمه من صفات الله وأسرار خلقه، كلمة جدير أن تكون شعارا لكل مريض مؤمن بالله تعالى هي قوله عز وجل: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80].

نعم فمهما بلغ الطب من تقدم ورقي إلا أنه سوف يظل عاجزًا أمام بعض الأمراض، ومهما تفنن الأطباء ومهروا فإنهم لا يضمنون لمريض شفاء.

وهنا ينبغي أن نعرف معاني الاتكال على الله تعالى، فلا نظن أن ترك الاستطباب هو الأصل في الشريعة، بل لكل داء دواء، وقد أمرنا بالتماس الدواء، ولكن لا بد مع ذلك أن نعرف أن الشافي هو الله وليس الطبيب، وليس الدواء.

ومن هنا فإني لأعجب كيف غابت سنة عظيمة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم في زيارة المريض، وهي سنة الأذكار الخاصة بالمرض، والدعاء له، ورقيته، وكأننا أصبحنا نجاهر بتقليد الغرب، فنكتفي بتقديم باقة ورد ونحوها، ونستحي من سنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وكثيرًا ما يدور الحديث حول أشياء لا نفع يرجى منها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرًا، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون)) رواه مسلم.

وينبغي أن يدعو العائد للمريض بمثل قوله: ((لا بأس، طهور إن شاء الله)) رواه البخاري، و((اللهم اشف فلانًا)) مرة أو ثلاثًا [متفق عليه]. ويمسح على جبينه ووجهه ومكان الألم منه. وقوله: ((أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك)) سبع مرات. وقوله: ((اللهم اشفِ عبدك ينكأ لك عدوًّا، أو يمشي إلى الصلاة)) رواه أبو داود وصححه الألباني.

وله أن يرقيه بالفاتحة والمعوذتين وأدعية كثيرة وردت في كتب السنة، يسيرة لطالبها، وليعلم أن الرقية لا تخص أحدًا من الناس دون غيرهم، فللمريض أن يرقى نفسه، ولكل واحد من المسلمين ذلك، ولا شك أنها من أهل العلم والإيمان والتقوى تكون أنفع بإذن الله إذا أخلصوا النية لله تعالى، وحصل اليقين التام بالشفاء من الله تعالى، فليس المجال مجال تجريب، ولكنه دعاء، واستجلاب رحمة ممن يملكها سبحانه وتعالى.

أيها الأحبة في الله..

وإن من رحمة الله تعالى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يسر لهم أمور عبادتهم كلها، فرخَّص للمريض في عدد من الأحكام، فهو يعذر عن كل شرط أو ركن أو واجب لا يستطيعه في الصلاة، ويصلي حسب قدرته إذا حان الوقت، وله إذا شقَّ عليه الأمر أن يجمع بين الظهرين أو العشائين. وأن يصلي قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا. ورصد له مع ذلك أجره كاملاً كما كان يناله صحيحًا ليست به علة مقعدة، اصْطَحَبَ أَبو بُرْدَةَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي كَبْشَةَ فِي سَفَرٍ، فَكَانَ يَزِيدُ يَصُومُ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى مِرَارًا، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ، أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا. رواه البخاري.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 6].

أسأل الله تعالى أن يمن علينا جميعًا بعفوه وعافيته إنه جواد كريم، أن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين، وأن يقينا والمسلمين جميعًا كل بلاء إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

ثم صلوا وسلموا على معلم الناس الخير سيدنا ونبينا محمد كما أمركم الله جل وعلا بذلك فقال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 



اترك تعليقاً