فقه السجود
الخطبة الأولى:
الحمد لله نور القلوب بالإيمان، وشرح الصدور بالإسلام، وهدى البصائر بالقرآن، أفاض علينا النعم، ووقانا الشرور والنقم، فله الحمد كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ونحمده على آلائه التي لا تعد ولا تحصى، كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.. فيا عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله تعالى وطاعته امتثالاً لأمر الخالق جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة: 119].
أيها الأحبة في الله:
إن من أعظم النعم، وأجل المنن، التوفيقَ للهداية والملازمة للطاعة؛ إذ بهما تحصل طمأنينة القلب وسكينة النفس، وبحصولهما يذوق المؤمن حلاوة الإيمان، ولذة المناجاة، ويقطف ثمار السعادة الحقة في خضم هذه الحياة التي تعاظمت فيها الشرور، واختلطت فيها الأمور، وحجب فيها النور؛ إذ كثرت الشبهات، وغلبت الشهوات، فإذا ألسنٌ لاغية، وقلوبٌ لاهية، ونفوس خاوية، وصدق في كثير من البشر قول الحق جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [سورة طـه: 124].
وهبّت ريح الدنيا بعطر فتنها، وتسلطت أضواء بهارجها، فافتتن حتى بعض الصالحين، فضعُف إيمانهم، وخلت عبادتهم من حقائقها الجوهرية، ومعانيها الإيمانية، وتأثيراتها النفسية، وتغيراتها السلوكية حتى صارت العبادات عادات عند كثير من الناس، وصارت الصلوات مجرد كلمات وحركات، لا تعي العقول معانيها، ولا تستحضر القلوب مراميها.
أيها المؤمن المحبُّ للخير .. دعني أنطلق معك في رحلة إيمانية مع حركة واحدة من حركات الصلاة، لنرى جزءًا من عظمتها، إنها (السجود) أخص الطاعات، وأفضل حركات الصلاة، فيه يكون العبد قريبًا من ربه تعالى، بل: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء)) [أخرجه مسلم]؛ “ذلك لأن العبد في حالة السجود يكون في تمام الذلة والخضوع لله تعالى، وإذا عرف العبد نفسه بالذلة والافتقار عرف أن ربه هو العلي الكبير المتكبر الجبار، فالسجود لذلك مظنة الإجابة”.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى به في مواضع عديدة من القرآن الكريم، فقال جل جلاله: {كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [سورة العلق: 19]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} [سورة الإنسان: 26]، {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [سورة النجم: 62].
وجعل أثره علامة من علائم الصلاح والاستقامة، {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [سورة الفتح: 29] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون} [سورة الزمر: 9].
وتأمّل يا عبد الله هدي النبي صلى الله عليه وسلم حينما علّمنا الذكر الذي يُقال في السجود، وفي ذلك الموضع الذي يمرغ فيه الإنسان جبهته في التراب، ويحني جسمه كله ويخضع قلبًا وقالبًا، روحًا وجسدًا، يقول حينئذٍ: (سبحان ربي الأعلى)، ولا يصح السجود إلا بها، يقولها وهو في المقام الأدنى حسًّا ليستشعر ذلته لربه الأعلى، وفقره لإلهه الأغنى، وحاجته لخالقه الأبر. وعبوديته الحقة التي هي الشرف الذي يرقى به العبد عند الله سبحانه، فإن المؤمنين إذا أحنوا رؤوسهم “فإنما يحنونها لله وحده، وإذا أطاعوا الشرائع فإنما يطيعون الله وحده، وإذا خضعوا لأحد، فإنما يخضعون لله وحده، ومن ثَم يتحررون حقًّا من عبودية العبيد للعبيد، حين يصبحون كلهم عبيدًا لله بلا شريك رمزهم هذه السجدة التي تعلي القلوب، إنها سجدة المسلم، عنوان العلو، وشارة الحرية والبراءة من كل طغيان:
سـجدة تخفـض الجباه ولكن عـز فيـها مُسَبَّحٌ وتعالى
ظنـها الجاهلون غِلاً على العبد ولكـن تحــــــطـم الأغلالا
تثبت الوجه والجوارح في الأرض ولكـــن تقـلــــقـل الأجبالا
هـــــي للـه وَحَّــــــــــــــدتْه فــــــــقـــــــرَّت ومحـت كل غاشمٍ يتعالى
مــــــن وعاها وعـى السيادة في الأرض جلالاً ورحمة وجمالاً
إنها سجدة الحرية بها يكسر المسلم قيد الهوى، فإذا به يصبح حرًّا يتلقى كل التوجيهات والشرائع والقيم من الله وحده، شأنه في كل هذا كله شأن كل البشر، كلهم يقفون في مستوى واحد، ويتطلعون إلى سيد واحد:
أي ســـــــــر يــــــودي بدنيا حـدودي كلما همتُ في تجلي سجودي
كيف تذرو (سبحان ربي) قيودي كيف تجتاز بي وراء السدود
كيف ترقــــــى بطينـتي وجمودي في سـماوات عالمٍ من خلود
إنه السجود العبادة التي تذكر الإنسان بأصل وجوده، ومآل هجوده، ومكان نشوره، {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [سورة طـه: 55].
إنه السجود العبادة التي تذكر الإنسان الطاغي المتكبر بمنزلته عند الله تعالى، حين يلامس جبينه المتشامخ التراب ويقترب خده المصعر من الأرض.
إنه السجود العبادة التي تصحّح وهم المغفلين الذين استغفلتهم الدنيا، فإنهم إذا سجدوا لم يروا منها سوى قطعة صغيرة، فكأنهم تجردوا من كل ما يملكون وانصرفوا عن كل ما كانوا به يتيهون، وعلموا أنهم لا يملكون منها ما ظنوا أنهم يمتلكون.
وفي السجود مشاركة جميع الأعضاء في التذلل لله تعالى، ويستشعر المؤمن أن جميع جوارحه وقلبه وروحه هي لله وحده، ولذلك ينبغي ألا تسخر في غير طاعته، فإن من العار أن يخضع العبد لله بيد يبطش بها في عباده، ويسرق بها من أموالهم، وأن يخضع لله برجل يمشي بها إلى معصيته، وأن يخشع بعين ينظر بها إلى محارمه، وهكذا جميع الجوارح.
وفي السجود مراغمة للشيطان الذي أُمِر بالسجود فأبى فله النار، وأنت أُمرت بالسجود فسجدت فلك -بإذن الله- الجنة.
والسجود هو موضع الدعاء الأكبر والأعظم في الصلاة؛ لأنه مقام القرب، فإذا كنت قريبًا كنت مؤهلاً أن تقدم دعاءً ذليلاً، وأنت ملتصق بالأرض، ذاكرًا لفضل الله عليك بالابتداء ومتذكرًا للفناء، تخضع جميع حواسك لبارئها تعالى، والله تعالى سميع مجيب: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [سورة النمل: 62]، توبوا إلى الله تعالى واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي {يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [سورة الحـج: 18].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا بأن السلف رضي الله عنهم عرفوا لذة المناجاة في السجود، فهربوا إليها من كل مغريات الحياة وهمومها، فها هو ذا سعيد بن جبير رحمه الله يلقي مسروقًا، وكلاهما من كبار التابعين، فيقول له: يا أبا سعيد (ما من شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب)، فأجابه مسروق رحمه الله فقال: (ما من الدنيا شيء آسى عليه إلا السجود لله).
وهذا الشاعر الأميري يضع جبهته في روضة المصطفى صلى الله عليه وسلم ساجدًا لله تعالى، فيسبح في تسبيحه وتعظيمه، وإذا بالإمام يروّعه بتكبيرة الرفع من السجود فيصرخ بقلبه:
اتئدْ يا إمام، لا ترفع الرأس سريعاً من السجود لربي
اتئدْ يا إمام لا ترفع الرأس سريعاً تكاد تجتثُ قلبي
فهل نادينا إمامنا بالاطمئنان وعدم الرفع من السجود، أم كدنا أن نرفع رءوسنا قبل أن يرفع رأسه؟! لقد رُوي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، أنه كان إذا سجد وقعت الطير عليه كأنه حائط، أوكأنه صخرة ثابتة لا تتحرك من طول سجوده وخشوعه.
أيها الأحبة في الله..
والسجود يجب أن يكون على جميع الأعضاء السبعة وهي اليدان والركبتان والقدمان والجبهة مع الأنف، وإن من الظواهر الخاطئة أن يجافي بعض المصلين جبينه عن الأرض ويسجد على أنفه فقط، أو يضع جبهته ويرفع أنفه، أو أن يرفع رجليه ولا يلامس بهما الأرض، فكل ذلك يخلّ بصحة السجود.
ويستحب أن يكون السجود طويلاً فقد ورد في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها وصفت سجود النبي صلى الله عليه في وتره فقالت: ((يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه)) . وكان صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى فرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه) رواه مسلم.
ومن أخطاء السجود: افتراش الذراعين، وإلصاق الفخذين بالبطن، قال صلى الله عليه وسلم: (اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) رواه مسلم.
ومن الأذكار والأدعية في السجود غير الواجب الذي هو (سبحان ربي الأعلى) أن يقول: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) رواه مسلم.
وأن يقول: اللهم اغفر لي ذبي كله دِقَّه وجِلَّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسره) رواه مسلم، وأن يقول: (اللهم أعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) رواه مسلم، وأن يقول: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين ) رواه مسلم، وغيرها من الأدعية المشروعة.
ومن صور الكمال في السجود: البكاء من خشية الله يقول الله تعالى يصف عباده الصالحين: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مريم: 58]، (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء: 109].
وورد في فضله أحاديث منها أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أخبرني عن عمل يدخلني الجنة؟ فقال: عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحطّ عنك بها خطيئة) رواه مسلم.
اللهم اجعلنا لك ساجدين خاشعين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين ودمر أئمة الكفر والنفاق، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد وانشر رحمتك على العباد.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميره، وسلط عليه الأمراض والآفات واكفِ عبادك المؤمنين فتنته وشره يا مجيب الدعاء.
اللهم ارفع البأساء عن إخواننا في كل مكان في الأرض واجعل لهم من ضيقهم مخرجًا ومن محنتهم فرجًا يا كريم، اللهم اهدِ ضال المسلمين، وثبّت مهتديهم، وأيِّد بالحق والإسلام أولياء أمورهم، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ وسلم على عبدك ونبيك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وآله وصحابته والتابعين وعنا معهم بفضلك ومنّتك يا رب العالمين.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.