قيمة الزمن مع بدء الإجازة

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، رفع شأن السعي والعمل، وكره البطالة والكسل، يجازي كلَّ امرئ بما كسب، أو اكتسب في هذه الحياة.

وأشهد ألا إله إلا الله القائل في محكم التنزيل: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [سورة الأعراف: 170]، {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة يوسف: 56].

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أدى رسالة ربه بالعمل لله في جميع الأوقات. لم يعرف إجازة من رسالته التي نهض لأدائها، ولم يتوانَ في زمنٍ قصُر أم طال عن أداء واجبة العظيم، فكان صلى الله عليه وسلم للمخلصين خير مثَل؛ صبرَ وصابر ودأب وثابر، حتى صنع أمة، وأقام ديناً، وبنا مجداً تليداً لأمته، وطهَّر الأرض من أرجاس الشرك والفساد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الأبرار الطيبين العاملين المخلصين.

أما بعد فيا عباد الله اتقوا لله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، عظموا أمر ربكم واتبعوه، واحذروا نهيه واجتنبوه.

أيها الإخوة المسلمون: كلما طرقت الاختبارات أبواب الزمن ذكرتني بقيمته عند كافة الناس، ذلك بأن الوقت يبقى طوال العام لا يعرف ثمنه إلا ذوو الهمم العالية من العلماء وطلاب المجد الذين يقدرون لأكلهم وشربهم ونومهم أضيق الأوقات، ويبذلون أساس حياتهم لأعمالهم الكبيرة، التي يرجون ثوابها عند الملك العلام سبحانه وتعالى.

عرفوا أن الزمن هو عمر الحياة، وميدان وجود الإنسان، وساحة نفعه وانتفاعه، وأنه من أصول النعم لا من فروعها، فأهمتهم الدقيقة الواحدة التي تنزلق من وقتهم دون فائدة تذكر.

يغيرون على أوقاتهم، كما يغيرون على أعراضهم لأن الوقت كما يقول ابن القيم رحمه الله: “وحيُّ التقضي – أي سريع الانقضاء – أبيُّ الجانب، بطيء الرجوع، والوقت عند العابد، هو وقت العبادة والأوراد، وعند المريد هو وقت الإقبال على الله، والجمعية عليه والعكوف عليه بالقلب كله، والوقت أعز شيء، يغار عليه أن ينقضي بدون ذلك، فإذا فاته الوقت لا يمكن استدراكه البتة؛ لأن الوقت الثاني قد استحق واجبه الخاص، فإذا فاته وقت فلا سبيل له إلى تداركه”.

هذا حال العاملين على مدار الدقيقة الواحدة، أما أكثر الناس، فإنهم لا يعرفون ثمن الدقائق إلا في أيام الاختبارات، حين يكون للنوم زمن قصير محدود.

ويبقى الطالب بل والأسرة كلها مشدودون إلى الساعة، يلاحقون عقاربها، ويتعجبون من سرعة دورانها، وكأنها أُصيبت بالجنون أو العطب، والواقع أنها كانت كذلك قبل الاختبارات، ولكن لم تكن لدقائقها أهمية بالغة عند هؤلاء.

يقول الوزير الصالح يحيى بن هبيرة:

والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه       وأراه أسهل ما عليك يضيع

أيها الإخوة في الله، يا شباب الإسلام خاصة.. إن فتوتكم وقوتكم أيام الشباب (وهو زهرة العمر) لن تدوم لكم، فاتقوا الله واحفظوها، ولتعلموا أن من أكبر علامات المقت إضاعة الوقت، فإن الوقت ليس من ذهب بل هو أغلى من الذهب واللؤلؤ والجوهر النفيس، إنه الحياة والعمر، والإنسان….. من يفتدي عمره بكل غالٍ ونفيس، حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: “ما ندمت على شيء.. ندمي على يومٍ غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي”، نعوذ بالله من تناقص الأجل من غير زيادة في صالح العمل.

أيها الشباب، من أمضى يوماً من عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه، أو مجد أصله، أو فعل محمود حصله، أو علم اقتبسه فقد عقَّ يومه وظلم نفسه، وخان عمره، هكذا قالت الحكماء.

ومما يتعجب له المرء أن ترى أحلام بعض الشباب هذه الأيام أنهم بمجرد انقضاء أيام الاختبارات الشديدة الوطأة على نفوسهم المنطلقة أنهم سوف يتحررون من شيء اسمه (قراءة)، ليبرهنوا على انقضاء العام الدراسي الثقيل، ويناموا حتى ترتفع الشمس في كبد السماء، لا يوقظهم إلا أذان الظهر، تعويضاً عن حرمانهم من النوم الممتع أيام الاختبار، ويخططون للعب واللهو والسفر الطويل إلى حيث المتعة التي ربما كانت محرمة مخزية.

سبحان ربي.. أذلك شأن المؤمن الصالح الذي يقف مع نفسه دائماً، يستخلص الدروس من كل ما يمر به.

جدير بكم أيها الطلاب أن تكون أحلامكم على مستوى أمتكم، هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، أمة انبعثت من قلب الرمال والجبال لتزرع الخضرة والحياة والنضرة في كل مكان، أمة اصطنعها الباري عز وجل لتكون قائدة البشرية.

ألا تعرفون أكبر خسارة حلت بها؟

إنها أنتم معاشر الشباب إذا جهلتم قيمة أعماركم وأوقاتكم!!

إن من الغفلة والحرمان وسبيل فناء الأمم أن يألف شباب أصحاء النوم حتى الضحى وما بعده، وهم يغطون في نوم عميق، قد بال الشيطان في آذانهم، إذا قام أحدهم فإذا هو ثقيل الخطا، خبيث النفس، هزيل القوى، كسلان، على حين تطلع الشمس على قوم آخرين من غير أهل الإسلام وهم منهمكون في وسائل معاشهم وتدبير شئونهم، في صراع مع الزمن، يحسبون لكل لحظة من حياتهم، ثم نسأل لماذا نحن متأخرون وهم متقدمون؟

تأبى سنن الله إلا أن يُعطى كل امرئ ما اكتسب من الجهد والعمل.

أخي الطالب.. أخي الشاب.. أيها الأحبة في الله.

لقد أمر الله تعالى نبيه الكريم باغتنام وقت فراغه في العبادة فقال جل وعلا:

{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح: 7-8].

أي إذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الأرض ومع شواغل الحياة، إذا فرغت من هذا كله فتوجه بقلبك كله إذن إلى ما يستحق أن تنصب فيه وتجتهد، إنها العبادة والتجرد والتطلع والتوجه إلى ربك وحده خالياً من كل شيء.

والفراغ يا عباد الله لا بد له أن يملأ بخير أو شر، ومن لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل، يقول بعض الصالحين: “فراغ الوقت من الأشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر العبد هذه النعمة بأن فتح على نفسه باب الهوى، وانجر في قياد الشهوات سلبه ما كان يجده من صفاء قلبه”.

وكان السلف يكرهون من الرجل أن يكون فارغاً لا هو في أمر دينه ولا هو في أمر دنياه، وهنا تنقلب نعمة الفراغ على صاحبها رجلاً كان أو امرأة، ولهذا قيل: “الفراغ للرجال غفلة، وللنساء غُلمة”، أي محرك للغريزة والتفكير في أمر الشهوة.

لقد هاج الفراغ عليه شغلاً      وأسباب البلاء من الفراغ

فهل نتعظ بغيرنا ونستفيد من تجارب السابقين، وهذا الحسن البصري يضيء لنا سراجاً من سرج القرون الأولى فيقول: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم، وكانوا يحرصون كل الحرص على ألا يمر يوم دون أن يتزودوا منه بعلم نافع، أو عمل صالح، أو مجاهدةٍ للنفس، أو إسداء نفع إلى مسلم، حتى لا تتسرب الأعمار سدى، وتضيع هباء وتذهب جفاء، وهم لا يشعرون.

إذا مر بي يومٌ ولم أقتبس هدًى         ولم أستفد علماً فما ذاك من عمري

أيها المسلمون يكفينا بياناً لقيمة الزمن أن أقسم الله به في سورة عظيمة من القرآن يقول عنها الشافعي: “لو لم ينزل الله حجة على خلقة إلا هذه السورة لكفتهم، وقد أقسم فيها الله بالزمن على أمر عظيم فقال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر: 1-3].

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من البيان، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على ما أولى.. والشكر له على ما أسدى، حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مدخرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصفي المصطفى، والخليل المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسار على نهجهم واقتفى..

أما بعد.. فأوصيكم بتقوى الله وطاعته..

معشر الشباب إياكم والتسويف، فإن (سوف) من جنود إبليس، فالموت يأتي بغتة، والأكفان منسوجة، والآجال عندكم غير معلومة، وإذا ضمن الغد فمن يضمن السلامة من المعوقات من مرض طارئ أو شغل عارض، أو بلاء نازل، أو فتنة جائحة عن ابن عباس وعمرو بن ميمون مرسلاً ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)) رواه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي.

قال بعض الشيوخ لبعض الشباب: اعمل قبل ألا تستطيع أن تعمل، فأنا أريد أن أعمل فلا أستطيع إنما العمل في الشباب، وقيل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله، وقد بدا عليه الإرهاق: أخر هذا إلى الغد، فقال لقد أعياني عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع عمل يومين؟

ولا تظنوا أيها الشباب أن المستقبل سيكون أكثر فراغاً من الحاضر، فما هذا إلا وهم وسراب، كلما كبرت سنك كثرت المسئوليات، وزادت العلاقات وضاقت الأوقات، وضعفت الطاقات، فالوقت في الكبر أضيق، والجسم فيه أضعف، والصحة هزيلة، والنشاط كليل، فبادروا ساعاتكم ولا تتعلقوا بالغائب المجهول، فكل ظرف مملوء بشواغله، والحقوق مرتبطة بزمنها وما التسويف إلا تفويت للحق وخسران لليوم وتضيع للغد.

فاتقوا الله عباد الله في أيامكم وأعماركم ومسئولياتكم، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، واحم حوزة المسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل الدائرة عليهم يا عزيز يا حكيم. اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، أن تنصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، وتقبل شهداءهم، وتداوي جرحاهم، وترأف بضعفائهم.

اللهم وفق طلاب المسلمين في اختباراتهم، ويسر لهم مذاكرتهم واستيعابهم، وأقر عيون أهليهم بنجاحهم وتفوقهم. اللهم وفقنا بما يرضيك، واغفر لنا برحمتك ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

        

   

 

 

 



اترك تعليقاً