كيف أترك أثرًا لي بعد الحياة؟

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، شرَّف آدم أبا البشر بخلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأنزل لهم الشرائع؛ ليعبدوه ويوحدوه، فتشرف به إنسانيتهم، ويتأهلوا لكرامة الدار الآخرة، والسعادة الدائمة فيها، فسبحانه من رب رحيم، وإله عظيم، لا إله غيره، ولا رب سواه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، خاتم رسل الله وأنبيائه، صاحب لواء الحمد، والمقام المحمود، والحوض المورود، وسيد كل مولود. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله وطاعته، استجابة لأمر الله تعالى، يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].

أخي الحبيب .. هل اجتهدت أن تترك أثرًا بعدك؟! أثرًا في بيتك، في أهلك، في أقاربك، في عملك، في حيِّك، في أصحابك، في مسجدك؟ في أي مكان تتواجد فيه؟ كالعطر .. أينما فُتحت صُرته فاح عبيره، وكالورد أينما اهتزَّ غُصنه انتشر أريجه.

إن الحياة التي نعيشها قصيرة، وقصيرة جدًّا، والحصيف هو الذي يفكّر كيف يمكن أن يعيش مثلها مرات وكرات، تستولي على ذهنه فكرة بقاء الأثر بعد الممات؛ حتى تصبح هاجسه ومشروعه الكبير، ألم يقل الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [سورة يس: 12]، فمعظم الناس يفكرون في حياة تنتهي بالموت، وهو يفكر كيف يعيش أكثر بعد الموت، كيف لا، وهو يسمع قول حبيبه – صلى الله عليه وسلم-: « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». (صحيح مسلم 1631).

وهو يسمع قول مصطفى ربه تعالى وهو يقول: “إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ” (صحيح سنن ابن ماجه للألباني 242).

والولد يشمل الذكر والأنثى. فهل عجز أحدنا أن يكون له من هذه الأبواب العظيمة أجرٌ باقٍ خالد في الدنيا والآخرة؟!

يتباهى بعضنا بأن يأخذ صورة تذكارية مع الناجحين أصحاب الأثر، فكيف لا يفكر في أن يكون منهم؟!  لماذا يتفرج بعضنا على من نراهم يقدمون لنا كل ما في وسعهم، ثم لا يخطو في الاتجاه الذي ساروا فيه ليقدم مثلهم، فاليد العليا المعطية خيرٌ من اليد السفلى الآخذة.

يقول مصطفى صادق الرافعي – رحمه الله – : “من لم يزد شيئًا على الدنيا فهو زائد عليها”، وقال:

الناس بالناس مـا دام الحيـاء بهـم

                            والسـعـد لا شــك تــارات وهـبــات

وأفضل الناس ما بين الورى رجل

                               تقضـى علـى يـده للـنـاس حـاجـات

لا تمنعـن يـد المـعـروف عــن أحــد

                           مـا دمـت مقـتـدرا فالسـعـد تــارات

واشكر فضائل صنـع الله إذ جعلـت

                        إليـك لا لـك عـنـد الـنـاس حـاجـات

قد مات قـوم ومـا ماتـت مكارمهـم

                                    وعاش قـوم وهـم في الناس أموات!!

إن الإنسان لا يشعر بذاته وكيانه إلا إذا أحس أن له أثرًا في الحياة مهما كان صغيرًا .. أما هؤلاء الذين يعيشون في زاوية مظلمة لا يقدمون شيئًا مهما كان صغيرًا فهم أموات!

هيا خذ مكانك العلوي المتواضع، فالمصباح -مع صمته المتواضع- فإنه كلما ارتفع اتسع نطاق إضاءته، فترفع أنت بأخلاقك وفكرك، وعمّم دوائر استثمار قدراتك؛ يتسع نطاق تأثيرك في الحياة وعلى من حولك.

وتنبه – يا رعاك الله – “شيئان يدمران الإنسان: الانشغال بالماضي والانشغال بالآخرين. فمن طرق باب الماضي أضاع المستقبل، ومن راقب الآخرين أضاع نصف راحته”.

انتزع نفسك – أيها المبارك – من الحديث النفسي المثبط، وتجاوز حاضرك، فكّر في المستقبل، سواء ما يتعلق بالآخرة وما أعد الله فيها للمتقين: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} [سورة السجدة: 17] ، أو حتى في الدنيا، وأن يذكره الناس بخير أو يدعون له، لأنه قدّم خيرًا، يقول تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (الشعراء: 84). يترحمون عليه، ويستغفرون له، ويدعون له بالخير، ويقتدون بفعله، ويهتدون بهديه، و”رب مُبَلَّغٍ أوعى من سامع” (صحيح البخاري 1741).

إن “من أعظم الأعمال أجرًا، وأكثرها مرضاة لله ما يتعدى نفعها إلى الآخرين؛ وذلك لأن نفعها وأجرها وثوابها لا يقتصر على العامل وحده، بل يمتد إلى غيره من الناس، حتى الحيوان، فيكون النفع عامًّا للجميع” (أ.محمد المنجد).

العبادة – أيا الفضلاء- ليست صلاةً وصيامًا فحسب، بل هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال بنية صادقة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الحج: 77].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله أهل الثناء والحمد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن الناس يتسابقون إلى السعادة، في الدنيا، وكثير منهم يعلمون بأنها برهة قصيرة، وفترة وجيزة من مراحل العمر، و{متاع قليل}، فمهما حصل فيها من الصفاء والجودة والجمال فإنها مؤذنة بالزوال، وهي راحلة زائلة ينتقل منها الناس ويصيرون إلى دار يستقرون فيها؛ وهي الدار التي ينبغي لهم أن يسعوا إلى تحقيق السعادة فيها.

يقول ابن القيم – رحمه الله -: “شرح الله صدر رسوله صلى الله عليه وسلم أتم الشرح، ووضع عنه وزره كل الوضع، ورفع ذكره كل الرفع، وجعل لأتباعه – أي: لمن اقتفى أثره، وآمن به، واهتدى بسنته – حظًا من ذلك يعني: من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر- إذ كل متبوع فلأتباعه حظٌ ونصيبٌ من حظ متبوعهم في الخير والشر على حسب اتباعهم له. فأتبعُ الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشرحُهم صدرًا، وأوضعهم وزرًا، وأرفعهم ذِكْرًا، وهذا فضل الله الذي منَّ الله به على الأمة؛ أن جعل ما منَّ به على رسوله صلى الله عليه وسلم من تلك المنن ومن تلك المنح ومن تلك الفضائل يمكن للعبد أن يدركها بسلوك سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يفعل كما فعل، وأن يعتقد كما اعتقد، وأن يعمل كما عمل”..

وأضاف –رحمه الله-: “وكلما قويت متابعة العبد علمًا وعملاً وحالاً واجتهادًا قويت هذه الثلاث التي هي: شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، حتى يصير صاحبها أشرح الناس صدرًا وأرفعهم في العالمين ذِكْرًا” {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].

وهنا قد يرد سؤال مهم ألا وهو: كيف يمكن المواءمة والجمع بين الرغبة في تحقيق الأثر، وقصد الإخلاص لله – عز وجل-، وهل الإنسان يعمل ليوجِد أثرًا يذكره به الناس أم يعمل لله عز وجل؟

والجواب أن “العمل الصالح والعمل العبادي هو لله -سبحانه وتعالى-، وكلما كان العمل العبادي خالصًا لله كان أثره أعظم، وهذا من الحكمة والعدل الإلهي، فالإنسان الذي يتعمد أن يُظهر عمله ربما لا يكون لهذا العمل أثر، مثلما إذا تعمد أن يخفيه وأظهره الله – سبحانه وتعالى-، فـ “ما أَسَرَّ عبدٌ سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وعلى فلتات لسانه”، و”من صحَّ جنانه فصُح لسانه)، فحين يكون الإنسان قلبه سليمًا كما قال تعالى: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:89)، فإن أثر هذا يظهر على رأيه ولسانه وكلامه وعلى تأثيره على الآخرين؛ ولذلك فإن أعظم الناس تأثيرًا هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وليس مطلوبًا من الإنسان أن يُظهر ما يقوم به، ولكن الأمر بالعكس، فكلما أخفى العمل التعبدي كان هذا أفضل، ولذلك فالله -سبحانه وتعالى- قال في الصدقات: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (البقرة: 271)، مما يشير إلى أن الأصل هو الإخفاء؛ حتى لا يتعرض العمل للرياء أو السمعة وقصد فعل الناس، لكنّ هناك أعمالاً لا يمكن إخفاؤها تمامًا؛ لأنها مرتبطة بالناس”.

والأصل هو قصد الإخفاء، أو قصد الإخلاص، وما ظهر فاستوجب ثناء الناس فهو -إن شاء الله- عاجل بشرى المؤمن، فقد: “قيل لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : أرأيتَ الرجلَ يعملُ العملَ من الخيرِ، ويحمدُه الناسُ عليه؟ قال: “تلك عاجلُ بُشرى المؤمنِ”. وفي روايةٍ : “ويحبُّه الناسُ عليه”، وفي رواية: “ويحمَدُه الناسُ”. (صحيح مسلم 2642).

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ووالديهم ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً