كيف نكون أوفياء حقا؟

كيف نكون أوفياء حقًّا؟

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، وصفيه من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

ثم أما بعد، فإني أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة المقصرة بتقوى الله وطاعته، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1.2].

في تجلٍّ رباني عظيم، يأخذ بالقلوب، يؤكد البارئ المعيد أنه لا أوفى منه على الإطلاق، وهو يقايض المؤمنين على أرواحهم إذا بذلوها له عزَّ وجلَّ، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]. ربُّك وفَّى، وعليك أنت أن تكون وفيًّا له عزَّ وجل، فقد خلقك فكيف تعبد غيره؟! ورزقك فكيف تشكر غيره؟! وبيده حياتك وموتك ومعادك، فكيف تخشى غيره؟!

وحين أراد الله جل في علاه أن يمدح خليله إبراهيم عليه السلام، قال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]، فما أطيب تلك النفوس الوفية في زمن تنكَّر فيه ولدٌ لوالده، وتلميذٌ لأستاذه، ومُستمْنِح العطاء للمحسن إليه.

والله إني لأهنئ تلك الأرواح الطيبة، بأخلاقها النفيسة العالية، التي ترقرق الوفاء في جداول قلوبها، فبعثها لمعرفة المزيد عن هذا السلوك الإنساني الرفيع، والخلق الإسلامي العظيم.

(الوفاء) خُلق عظيم لا ينبعث إلا في قلوب لم تعرف غير الصفاء، وسلامة الصدر، وجمال المعاملة، والابتسامة في المقابلة، والطلاوة في الحديث، لا ينامون إلا وهم مخمومو القلوب، يرددون بأريحية واستمطار لرحمة الله وفضله وعفوه: “اللهم إني عفوت عمن ظلمني فاعفُ عني”، صنف ينسون ما يقدمونه للناس، ويظلون يتذكرون –أبدًا- ما قدَّمه لهم الآخرون، بل يحسبونه دَيْنًا عليهم، يظلون يبحثون عن سبل الوفاء به ما استطاعوا حتى يكافئوه أو يزيدون:

وجرّبنا وجرّب أولونا

 

فلا شيء أعزَّ من الوفاء

 

ولكن الحياة فيها قوم آخرون، عانى منهم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه حتى قال:

ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب

 

فالناس بين مخاتل وموارب

يغشون بينهم المودة والصفا

 

وقلوبهم محشوة بعقارب

 

فلمثله أن يكرر مع الإمام الشافعي رحمه الله قوله :

سلام على الدنيا إذا لم يكن بها

 

صديق صدوق صادق الوعد منصفا

لا لن أقول كما قال هؤلاء الأعلام، فهم إنما سجّلوا تجارب محدودة لا تمثل الغالب الأعم في الناس، وسوف أتناسى اليوم –عمدًا- كل صور غمط الحقوق، ومآسي العقوق، رغم إلحاحها على ذهني؛ لأن الناس إنما يتذاكرون مثل هذه القصص، وينسون قصص الوفاء والبر، سأشير إلى النماذج العليا في المجتمع، والصور المشرقة فيه .. نعم لن أقول: هلك الناس، ولكن سأقول: الخير باقٍ في أمة محمد r إلى يوم القيامة، وسوف أتبنى بيتي أبي النجح الخوارزمي:

عش ألف عام للوفاء وقلما

 

ساد امرؤ إلا بحفظ وفائه

لصلاح فاسده، وشعب صدوعه

 

وبيان مشكله وكشف غطائه

عباد الله ..

مما لا شك فيه أنه قد وُجدت بعض مظاهر التطفيف المذموم في أخلاق بعض المسلمين في هذه الأيام؛ فقد يتبادل الزوجان المحبة، والأصدقاء الود، والأقارب الحب، مادامت الديار عامرة، وأهدافهم الدنيوية محققة، فإذا ما باعدت الأيام بينهم، نسي كل منهم صاحبه وانشغل بحياته، ولا يتذكر المودة والمحبة وآصرة الرابطة الإيمانية والأخوية إلا كل صاحب خُلق رفيع ووفاء غير منقطع.

الوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والجور، وذلك أنَّ الوفاء صدق اللسان والفعل معًا، والغدر كذب بهما؛ لأنَّ فيه مع الكذب نقض العهد.

والوفاء يختصُّ بالإنسان، فمن فُقِد فيه فقد انسلخ من الإنسانية كالصدق، وقد جعل الله تعالى الوفاء بالعهد من الإيمان، وصيّره قوامًا لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون، ولا يتمُّ تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك لتنافرت القلوب، وارتفع التعايش، ولذلك عظَّم الله تعالى أمره فقال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، وقال تعالى: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ } [النحل: 91]) . [الذريعة للأصفهاني ص292].

لقد (وصف القرآن الذين يوفون بالعهد بأحسن الصفات فقال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، وقال: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76]، ونقض الميثاق يؤدي إلى سوء السلوك والأخلاق، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ} [المائدة: 13]..

واستمرارًا لورود العهد والميثاق في مجال بناء الأمة على الأخلاق السامية؛ يأمر الله عباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بعدد من الوصايا التي تُكَوِّن جيلاً ذا خلق رفيع، ثم يختم تلك الوصايا الخالدة بقوله سبحانه: {وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152]، فالوفاء بالعهد، ضمانة لأداء تلك الأوامر، واجتناب ما ورد من نواهي، ومن ثَمَّ يكون الانقياد والطاعة وحسن الخلق، وإخلاف العهد نقضًا للعهد، ينحطُّ بصاحبه إلى أسوأ البشر أخلاقًا – وبخاصة إذا كان العهد مع الله – فإنَّ المتصف بتلك الصفة ينتقل من مجتمع الصادقين المتقين إلى تجمع المخادعين الكاذبين من المنافقين {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } [التوبة: 77]) (انظر : العهد والميثاق في القرآن الكريم، للشيخ ناصر العمر، ص 183).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الأخرى:

الحمد لله الذي أفاض على عباده بكرمه وعطائه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

 أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا بأن رسول الله – سيد الأوفياء – صلى الله عليه وسلم، كان وفيًّا حتى مع الكفار، فحين رجع من الطائف حزينًا مهمومًا بسبب إعراض أهلها عن دعوته، وما ألحقوه به من أذىً، لم يشأ أن يدخل مكة كما غادرها، إنما فضَّل أن يدخل في جوار بعض رجالها، فقبل المطعم بن عدي أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جواره، فجمع قبيلته ولبسوا دروعهم وأخذوا سلاحهم وأعلن المطعم أن محمدًا في جواره، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم الحرم وطاف بالكعبة، وصلى ركعتين، ثم هاجر وكوَّن دولة في المدينة، وهزم المشركين في بدر، ووقع في الأسر عدد كبير من المشركين؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : “لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له” [رواه البخاري: 3139]. 

فانظر إلى الوفاء حتى مع المشركين.. ومع أبي البحتري بن هشام وهو أحد الرجال القلائل من المشركين الذين سعوا في نقض صحيفة المقاطعة الظالمة، فعرف له الرسول جميله وحفظه له، فلما كان يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم: “ومن لقي أبا البحتري بن هشام فلا يقتله” [انظر: تاريخ الطبري (2/450)، والسيرة النبوية (2/324)].

وكان نبينا محمد r يتخلق بخلق الوفاء مع القريب والبعيد، العدو والصديق، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي، حسيل. قال: فأخذنا كفار قريش. قالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده. ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر. فقال: «انصرفا. نَفِي بعهدهم، ونستعين الله عليهم» [رواه مسلم: 1787].

يفي بعهد الأعداء، ويستعين بالله عليهم، ما أروع وأنبل هذا الخُلُق الرفيع r!!

وقد سأل هرقل إمبراطور الروم في ذلك الوقت أبا سفيان بن حرب، وكان ذلك قبل إسلامه في حديث طويل، ومنه … «وسألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت أن لا، فكذلك الإيمان حين تخلط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر» [رواه البخاري: 2941].

والحق ما شهدت به الأعداء، فها هو النبي محمد r في أعلى صور الوفاء وعدم الغدر، مع العدو قبل الصديق، ومع البعيد قبل القريب، ومحمد r مدرسة تربوية من طراز رفيع، ولِمَ لا؟ وهو تربية رب العالمين، وغرس يد القدرة، الموجه بعناية ولطف أرحم الراحمين.

هذه بعض صور الوفاء النبوي الكريم، فهل نقتدي به والله تعالى أمرنا بذلك، فقال جل جلال:

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [سورة الأحزاب: 21].

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسرى المسلمين، واقضِ الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنِّك يا أكرم الأكرمين.



اترك تعليقاً