لأُطيّبَنّ اسمك!

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار.

عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله وطاعته، استجابةً لأمر الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 1.2].

أما بعد فيا معاشر الإخوة المؤمنين:

قال محمد بن الصلت: سمعت بشر بن الحارث وسئل: ما بال اسمك بين الناس كأنه اسم نبي؟ قال: هذا من فضل الله، وما أقول لكم، كنت رجلاً عيارًا (أي كثير التطواف والحركة ذكيًّا)، صاحب عصبة فجزتُ يومًا، فإذا أنا بقرطاس في الطريق فرفعته فإذا فيه: “بسم الله الرحمن الرحيم”، فمسحته وجعلته في جيبي، وكان عندي درهمان ما كنت أملك غيرهما، فذهبت إلى العطارين فاشتريت بهما غالية [نوعًا من الطيب]، ومسحته في القرطاس فنمت تلك الليلة، فرأيت في المنام كأن قائلاً يقول لي: يا بشرُ بنُ الحارث رفعتَ اسمَنا عن الطريق وطيبتَه، لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة ثم كان ما كان. رواه أبو نعيم في الحلية.

وقد أصبح بشرُ الحافي من كبار مخضرمي الصالحين في القرنين الثاني والثالث الهجريين، له في الزهد والورع أخبار وأقوال كأنها قبسات من النبوة، وهو من ثقات رجال الحديث.

فأية بركة تصيب العبد حين يُعلي ذكر اسم ربه عزَّ وجل، وأية مصيبة تحل عليه إذا لم يَقْدُر ربه حق قدره، {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [سورة الأنعام: 91].

بل ورد عن بعض الصالحين أن من أسباب المغفرة: رفعَ اسم الرب عز وجل وتجويدَ كتابته، قال سعيد بن أبي سكينة، بلغني أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نظر إلى رجل يكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال له: “جوّدها فإن رجلاً جوّدها فغُفِر له”.

وقال سعيد أيضًا: وبلغني أن رجلاً نظر إلى قرطاس فيه (بسم الله الرحمن الرحيم) فقبّله ووضعه على عينيه فغفر له. ذكره القرطبي في التفسير.

ولا يعني ذلك وجوب العمل بمثل هذا، ولا مشروعية هذه الصفة في التعامل مع الأوراق التي فيها ذكر لله جل وعلا، ولا ترتب الجزاء نفسه؛ لأنها أخبار وليس أحاديث نبوية، وإنما يشمل التعزيز والتكريم كل ما تعارف الناس على تقديره بأن يصرف لاسم الله تعالى أجله وأعلاه وأعظمه، وأن ينزّه الرب سبحانه عن كل ما لا يليق، مما تعارف الناس على أنه امتهان، كإلقائه في صناديق النفايات العامة، أو تمزيقه ورميه في الأرض، فضلاً عن تعريضه لدهس الأقدام وعجلات السيارات، ولو كان ذلك اسم بشر أو صورته لما قبل بهذا الامتهان، فكيف بالله تقدس اسمه، وجل ثناؤه؟!

 يقول أحد الآباء: “كنت أمشي في طريقي للمسجد ومعي ابني البالغ من العمر تسع سنوات، فَلَفَتَت نظري علبة ورقية كُتِب على ناحيتيها: مؤسسة محمد عبد الله” فوقفت وأخرجت العلبة، وقطعت الجوانب التي عليها لفظ الجلالة ثم عدت إلى البيت ورفعتها، وأردت بذلك أمرين: الأول: رفع اسم الله عن الامتهان والقاذورات .والثاني: تربية الأبناء على تعظيم شعائر الله ، واحترام وإجلال اسم الله أن يُمتهَن، ودفعتها إلى ابني وسألته: أتدري لماذا قطعتها؟ فنظر فيها وقرأ ما كتب قال: لأن فيها اسم الله. وكنت قد عودتهم في البيت على رفع ما كان فيه اسم الله ووضعه في مكان خاص، يتم من خلاله تعظيم اسم الله ورفعه، وتربيتهم على ذلك.

ذلك توفيقَ اللهِ لعبادهِ الذي لا يُدرَكُ لهُ مَدى، ولا يُطلَبُ لهُ منتَهًى، ومِن التَّوفيقِ في الباب الذي نتحدث فيه ما صنعته بعض الدَّوائرِ الحُكُوميِّةِ أو المؤسسات والشركات الخاصة، من وضع سَلَّةٍ ورَقِيَّة مكتوبٌ عليها خَاصٌّ بِلَفْظِ الْجَلاَلَةِ توضَعُ فيها الأوْراقُ المحتويةُ على أسماءِ اللهِ وذلك في كل مكتب، وذلك لتُجمَعُ  بعد ذلك وتحرَقُ بطريقةٍ لا تتعرَّضُ فيها للمهانةِ، ومنها كذلك  ما صنعته عدد من الجهات الخيرية في بلادنا من تخصيص صناديق كبيرة ووضعها بالقرب من المساجد، لتشجع الناس على رفع الأوراق المحترمة عن صناديق النفايات غير المحترمة، ومن ذلك أيضًا ما قام به بعض الفضلاء من جمع المصاحف الممزقة وتخصيص مصنع خاص بها يعيد ترتيبها، ويرممها، لتكون مناسبة للقراءة مرة أخرى.

فجزَى اللهُ أصحابَ هذهِ الأفِكار الطيبة خيرًا، ورفعَ اللهُ أقدارَهم في أعلى عِلِّيِّينَ كما رفعَوا أسماءَ ربِّنا وصفاتهِ وصانَها عن الامتهانِ، وإن مجال الاقتداء مفتوح أمامنا، في بيوتنا، وفي دوائرنا وفي مصانعنا وورشنا ومشافينا وعياداتنا، وفي أسواقنا، ومدارسنا وجامعاتنا وخاصة بعد الاختبارات واستغناء الطلبة عن كتبهم ودفاترهم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

اللهم لا تحرمنا، وواللهِ إنَّ الرَّجلَ العاملَ بمثلِ هذهِ الأعمالِ الهيِّنةِ عندنا قد يبلُغُ عندَ اللهِ مبلغًا أشرفَ من مقاماتِ كثيرٍ من أهلِ العباداتِ والمقامات، وهلْ أرسلَ اللهُ رسلهُ وخلقَ خلائقهُ وأقامَ سوقَ الجنَّةِ والنَّار إلا ليُجَلَّ ويُعظَّمَ ويقدَّسَ ويوحَّد؟ كيف وكل شيء في الأرض يسبحه ويسجد له؟

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [سورة الحج: 18]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على عظيم فضله وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله:

وحسن أن أتبع هذا الحديث بعدد من الفتاوى التي أصدرتها هيئة كبار العلماء أو اللجنة الدائمة للإفتاء أو بعض أعلامها، وقد مزجتها هنا للاختصار.

فقد أكدت عدد من الفتاوى على أن التخلص من الصحف التي تشتمل على ذكر الله يتمبحرقها، أودفنها، أو إلقائِها في البحر، أو باستخدام الآلة التي تُتْلِفُها، وهذاأَيْسَرها، أو بوضعها في كيس مُسْتَقِل وتَسْلِيمِها لجهةٍ تعدمها،دون أن تخلطها بالقاذورات، أو تُعَرِّضَها للامتهان؛   لأن تعظيم اسم الله واجب، وإهانتَه عمدًا وقصدًا كُفرٌ، ومنإهانته وضع الصحائف التي تحمِلُه في مكان القاذورات، {ذَلِكَ وَمَنْيُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب} [الحج:32]، وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًايَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ،8].

كما حذّرت عدد من الفتاوى من كان عنده جرائد أو أوراق فيها ذكر الله من امتهانها وجعلهاسفرة، أما إذا كان قد محا ما فيها من أسماءالله واستعملها فلا بأس، أما إن استعملها وفيها ذكر الله أو آيات من القرآن يجعلهاسفرة أو يطأها أو يجلس عليها، كل هذا لا يجوز، فقد أحرق الصحابة المصاحف التي نقلوامنها مصحف الإمام؛ حتى لا يكون اختلاف، أحرقها عثمان -رضي الله عنه وأرضاه-،وبقيت المصاحف الأئمة.

كما أفتت اللجنة الدائمة بأنه: لا يجوز أن يضع المسلم متاعه أو حاجته في أوراق كتب فيها سورٌ وآيات من القرآنالكريم أو الأحاديث النبوية، ولا أن يُلقي ما كتب فيه ذلك في الشوارع والحاراتوالأماكن القذرة؛ لما في ذلك من الامتهان وانتهاك حرمة القرآن والأحاديث النبويةوذكر الله،ودعوى بعضهم بأنه لا يجد غير هذا الورق دعوى يكذّبها الواقع، فإنوسائل صيانة المتاع كثيرة، وفيها غنية عن استعمال ما كُتب فيه القرآن والأحاديثالنبوية أو ذكر الله.

وزادت بأنه يكفي المسلم للخروج من الإثم والحرج أن ينصح الناس بعدم استعمال ما ذُكر،فيما فيه امتهان، وأن يحذرهم من إلقاء ذلك في سلات القمامة وفي الشوارع والحاراتونحوها، وأنه ليس مكلفًا بما فيه حرج عليه من جعل نفسه وقفًا على جمع ما تناثر من ذلكفي الشوارع ونحوها، وإنما يرفع من ذلك ما تيسر منه دون مشقة وحرج.

اللهم اجعلنا ممن يرفعون ذكرك، ويقدّسون اسمك، وارفع ذكرنا في الآخرين، واجعلنا حماة للدين.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك. واجعل بلادنا آمنة مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.

اللهم فك أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضال المسلمين، اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنّك يا أكرم الأكرمين.



اترك تعليقاً