لن أحضر عزاء والدي!

الخطبة الأولى:

اللهم لك الحمد أنت جمعتنا على الهدى، أشهد ألا إله إلا أنت، وأشهد أن محمدًا عبدك ورسولك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، فإني أوصيكم بما أوصي به نفسي {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].

أحبتي في الله ..

       كثيرًا ما تغلبنا تصوراتنا السابقة عن الأمور، حتى تحاصرنا وتتركنا أسرى لها، لا نتصور أبدًا أننا سنغيرها يومًا من الأيام، ومن ذلك في الجوانب التربوية أمور عظام، حوّلت بيوتا إلى مراتع للقسوة، ومنطلقًا لصناعة الحاقدين، فيها يغتال الحبّ كل يوم وليلة مرات ومرات، حتى تنمو القلوب على البغض والانتقام والعدوانية.

       ومن الذين في البيوت؟ وما علاقاتهم ببعضهم؟ إنهم آباء وأبناء، وأمهات وبنات، وأزواج وزوجات، فهل يُعقل أن تنشأ بين الأرحام عداوات؟! أم أن هذه القسوة وليدة الجهل بالتربية القويمة؟! وضعف الاقتداء بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة له قط ولا خادمًا، ولا ضرب بيده شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله)) [رواه أحمد وصححه الألباني]، أم وراثة لأساليب الآباء والأجداد وأعراف القبيلة؟!

       إننا كثيرًا ما نتحدث عن برّ الآباء للأبناء، وندلل عليه من الكتاب والسنة، فهل ترون أن هذا الأمر يمكن أن يتحقق كما نحب نحن الآباء إذا لم نبَرّ بالأبناء؟!

       وهل للأبناء من بر؟ نعم .. وألف نعم .. فهل سيحصد الفلاح إلا ما زرع؟ لماذا نهمل التربية ثم نرجو البر؟! ولماذا نؤمل في التفوق ونحن لم نتابع الدراسة؟! ولماذا نشكو من الفساد الأخلاقي ونحن نمارسه أمامهم أو نسمح به عياذًا بالله تعالى من ذلك، وكيف نعظهم في الصلاة ونحن نتأخر عنها؟! وكيف نرجو برهم وهم لا يحملون من ذكريات طفولتهم وشبابهم إلا العنف والضرب والإهانات؟!

أعلم أنني لا أتحدث عن كل البيوت، ولكن عن بعضها بلا شك، والشر بعضه أهون من بعض، ولكن اسمحوا لي أن أرحل معكم من هنا إلى هناك .. وما أدراك ما هناك .. بيت طوّقته الكآبة، ورسمت على جدرانه صور البؤس والقهر والإذلال .. والمتحدثة إحدى ضحاياه، سأتركها تحكي قصتها بنفسها .. تقول مريم: ((دخل أبي إلى غرفتنا الصغيرة وألقى بثوب رقص خليجي على أختي الكبرى التي كانت تدرس في الصف السادس وقتها، وقال بنبرة جافة: تعالي المجلس وارقصي لي ولضيوفي. نظرت إليه بمرارة وقالت: لقد كبرت يا والدي على الرقص لأصدقائك سأذهب إلى الأول المتوسط العام القادم..، لم يعطها فرصة لإكمال حديثها، بل انهال عليها ضربًا وركلاً حتى سقطت على الأرض مغشيًا عليها، لم يتوقف بل أخذ يدوس على رأسها ويركلها كأنه يركل كرة، ففاض فمها الصغير دمًا، كنت أرتعد من شدة الخوف فلم أشعر بنفسي وأنا أصرخ أختي .. أختي .. وفي أثناء صرخاتي المذعورة .. التي اعتقدت وقتها أنها ماتت، سحبني من ملابسي بكل قوة حتى رفعني عن الأرض، قلت له: شاه يا بابا الدم يخرج من فمها، توقف والتفت نحوي، وقال: إذا فعلت مثل أختك وعصيتيني فلأذبحنك مثلها” مسحت دمعة مخنوقة سقطت من عيني، ثم أخذت ثوب الرقص ودخلت، وقلت له: سألبسه الآن، فذهب، فانتهزت الفرصة وسحبت أختي المغمى عليها كالميتة، وأخفيتها عنه في غرفة المخزن حتى لا يستدل عليها ويذبحها كما قال، وذهبت إلى المجلس وبدأت أرقص من الخوف، والدموع تنهمر من عيوني رقصت ورقصت، ومرة ثانية وثالثة، وحين انتهى العرض الذي كنت أؤديه وأنا طفلة في الصف الخامس، لم أدرك بأن كل ذلك لم يرضه، ففاجأني بصفعة مازال رنينها يدوي في أذني حتى اليوم، وقال: “هل تظنين بأنني لم أرك -يا كلبة- وأنت تدافعين عن أختك”، وبصق على وجهي بكل قوة. ووقف أمام باب الغرفة التي تركت أختي فيها، وأغلق الباب بالمفتاح ووضعه في جيب ثوبه الذهبي الحرير ذي اللمعة السخيفة الذي حالما يرتديه نعلم أن هناك حفلة ومذبحة ستُقام في نفس الليلة في بيتنا.. وقال: سأتركها تموت هنا من الجوع حتى تتعلم ألا ترفض طلبًا لأبيها مرة ثانية!

رجوته .. الله يخليك يا بابا افتح لها الباب إنها تنزف، فانهال عليَّ ضربًا لأنني دافعت عنها، ورآني وأنا أحاول أن أخبئها من بطشه، وقال: أتعتقدين بأنني لا أدرك ما أفعل لأنني سكران، أنا صحيح سكران ولكن أعرف كل ما يدور حولي، وختم كلماته ببصقة أخرى.

في ذلك الوقت كانت أمي مضرجة بدمائها ولا تقوى على الحراك في المطبخ بعد أن طبخت ونفخت لضيوفه السكارى وحين أبدت رفضها حين بدأ بسحبنا للرقص ضرب رأسها بقارورة كانت مليئة بالزيت، وسحبها من شعرها وأخذ يضرب برأسها أرضية المطبخ وسط صراخنا الذي اختلط مع أصوات الأغاني الصاخبة التي كانوا يستمعون إليها في المجلس!

عدت بعدها لتلك المذعورة التي كانت تبكي آلامها وخوفها، ولم أنس يومًا نبرة صوتها حين قالت: أنا عطشانة يا أختي، وكأن ذلك الغول ليس أبانا، فذهبت للمطبخ أبحث عن شيء أسكب فيه الماء لها من تحت فتحة الباب، فوجدت غطاء أخضر بلاستيكيًّا ما زلت أذكره لقارورة زيت، أخذته وسقيتها الماء من تحت فتحة الباب شربة شربة وهي تبكي وأنا خائفة من أن يأتي ويقبض عليَّ متلبسة بسقيها ماء وهو وأصدقاؤه يتناولون ما لذ وطاب في الجهة الأخرى من المنزل.

كانت السنين تمر ثقيلة، وكل سنة نتمنى موته أو موتنا، ولكن المهم أن يتوقف التعذيب وفي كل مرة ينسى نفسه ويقول: أنا أبوكم، ربيتكم، وتعبت عليكم!

ولأنني مازلت أتذكر ذلك اليوم الذي تركني فيه في المستشفى لكي أخوض عملية بمفردي وسط ذهول الأطباء، كان غاضبًا حين أخبرته والدتي بأن الزائدة الدودية ملتهبة وتكاد تنفجر، تسببت حكاية مرضي تلك في نزاع بينه وبين والدتي، لذلك كنت دائمًا وأبدًا أخفي مرضي خوفًا من بطشه، والآن بعد أن كبر ومرض يريد الجميع أن يبره ويزوره ويخدمه كيف وهو لم يفعل شيئًا.

أتدرون ماذا حدث – معشر المصلين والآباء المنصفين- الفتاة الصغيرة كبرت وأصبحت طبيبة وأمًّا عظيمة ولأن (الله يمهل ولا يهمل) سقط ذلك الأب مريضًا، وحين ذهبت لتقدم يد المساعدة كابنة له لم تسلم من لسانه وألفاظه النابية التي لا تعرف سنًّا ولا مكانًا ولا مرضًا ولا مركزًا، حتى بعد أن بلغ من الكبر عتيًّا ما يزال قاسيًا، ولكنه اعتقد أن تلك السنين جعلتها تنسى، ودخل في دور “الوالد الشايب” الذي كان ينبغي أن يكون رحيمًا رءوفًا بأولاده وأحفاده. ولكن هذا الدور لا يليق به، فسرعان ما يعود إلى طبيعته حين ينفرد بأفراد عائلته، والصغير لا ينسى وما نقُش على الحجر لا تمحوه الأمطار ولا الرياح ولا الأيام.

احتضر الوالد العاقّ لبناته، وجاءت منيته وهو على خاتمة بغيضة سيئة ليستعد لملاقاة ربّ عدل لا يُظلم عنده أحد.

تقول إحدى صديقات الدكتورة مريم: دخلت عليها لكي أواسيها بشكل اعتدنا عليه في حالات الاحتضار، ولكن رأيت وجهها متجهمًا فقلت لها، ادعي له بالرحمة يا دكتورة قالت: لقد تأخر ليت هذا اليوم كان قبل 25 سنة وليس الآن، أدعو له لماذا؟ كيف وأنا لم أتعلم منه معنى الرحمة ولم أرَ منه سوى القسوة، ترى هل فعل كل ذلك ثم نجا في النهاية من فعلته، ترى هل كان يعيش سعيدًا مع كل جرائمه وزلاته وجرائمه؟ أما المغفرة فبيد الله .. التفتت ونظرت إليَّ بكل ثقة وقالت: كنت تلومينني على قلة زياراتي له وتطلبين مني أن أبره لكي يرضى الله عني !! عرفت الآن لماذا لا أستطيع بره؟ لأنني لم أتعلم معنى البر، كيف أبره، كيف أحبه وأنا لا أتذكر سوى ضربه وبصقاته التي ملأت وجهي بسبب وبدون سبب؟ رائحة فمه الكريهة العبقة بالدخان والمسكر مازلت أتذكرها، ضربه المبرح لأختي وأمي وإخواني ما يزال محفورًا في ذاكرتي، لدرجة اعتقدت فيها بأنه ليس والدنا، ونحن لسنا بناته، كنت أستغرب من صديقاتي حين يعانقن آباءهن دون خوف، كنت أفكر هل هذا العناق والحب حقيقي!! وهل ذلك الأب سيبصق على صديقتي بعد ذلك أم لا ؟!

والذي يقهرني تمثيله أمام الناس، فهو في عمله رجل والرجال قليل… شيء يقهر، كانت تلك أخلاقه طوال الوقت، ولم يكن الشراب هو السبب، كانت نفسه غريبة، لا يملك رحمة ولا شيئًا في قلبه سوى نفسه، ونفسه، ونفسه ثم أصدقائه، وبطنه، وسفراته، ثم عمله الذي كان يؤديه على أكمل وجه والمصيبة الوجه الجميل للخارج والقبيح لنا!

خرجت من منزلي في يوم ماطر ورأيت جارنا أب صديقتي في المدرسة كيف تغوص رجلاه في مياه المطر الباردة وهو يرفع ابنته لكي لا تبتلّ رجلها، ويحملها في السيارة، ويعود لكي يحمل الابنة الأخرى ثم الابن وهكذا .. وقفت مشدوهة وأنا أرى كل ذلك أمامي وفوق ذلك حين رآني أمشي في المطر والصقيع إلى مدرستي توقف وناداني لكي أركب معهم، جلست أبكي بكاء لم أبكه في حياتي من قبل حين أحسست بحنانه وهو يحمل حقيبتي ويجفف حذائي قبل أن يوصلنا إلى المدرسة قائلا: “يا ابنتي أخاف أن يصيبك برد”.

قال يا بنتي ولكن هذا أبو صديقتي! يا إلهي كم تمنيت أن يكون هو والدي .. الغريب حنَّ عليَّ وقتها وأنا ابنة الثماني سنوات، ووالدي ركب سيارته وذهب إلى عمله دون اكتراث!

وبعد أن درست وتعلمت بنفسي وعرفت أن هناك حبًّا جميلاً بين البنت وأبيها وصرت أسمع أن البنت حبيبة أبيها.. ورأيتك أنت لأول مرة في حياتي تبكين بحرقة حين سقط والدك مريضًا قبل وفاته، لم أعرف وقتها كيف أواسي خسارتك في أبيك ولم أعرف ماذا أفعل سوى النظر إليكما في غرفة العناية المركزة، وكأنني أتعرف على الحياة من جديد، وحين رزقني الله بأطفال شعرت بحب كبير يتفجر داخلي ويقيد الشعور بالانتقام منه، عرفت كم أحب أولادي ورأيت حبي في عيونهم وعناقهم لي حين أعود من عملي، رأيتهم كيف يتعلقون في عنق أبيهم ويقبّلونه ويلعبون معه، ورأيت حجم محبة ابنتي الوحيدة في قلب أبيها، كانت مميزة عنده، فلم يزدني ذلك إلا غضبًا منه ومما زرعه داخلي نحوه طوال تلك السنين وما حرمني منه من أحاسيس وأشياء لا أعلمها!.

نهضت من فوق الأريكة، واتجهت نحو الباب حين لاحظت أن هناك دمعة متعلقة بأهدابها تكاد تسقط من شدة الألم الذي كانت تشعر به من سواد الذكريات الذي كان يمر بمخيلتها، وحين انتبهت إلى أنني أوشك على مغادرة المكان لكي أعطيها مجالاً للبكاء الذي لن تفعله أمامي، استوقفتني وقالت: أنا آسفة لا أستطيع أن أجبر نفسي على شيء لا أريده بعد الآن أصبحت حرة نفسي وليس طفلة مستعبَدة لديه كاستعباد الرقيق أيام الجاهلية “والله شفت عذاب منه ولا كفار قريش مع عبيدهم”، لقد اتخذت قراري، (لن أحضر عزاء والدي).

قد تنتابنا هنا مشاعر متضاربة كثيرة .. إزاء هذه الفتاة، فمنا من سيقول: أبوها ومهما فعل فإنه يبقى أباه وله البر، وينبغي أن تحسن إليه، لست هنا حكما بينهما، ولكني أردت من سوق القصة عليكم ما أراده الله منا حين قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون}[سورة يوسف:111].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله الجليل ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الأخرى:

ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله في أولادكم ومن استرعاكم الله عليهم من زوجات وأهلين، ولنتذكر حادثة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حيث جاءه رجل يشكو إليه عقوق ابنه فبعث عمر للابن ولامه على عقوقه لأبيه، فسأل الابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: بلى. قال: وما حق الولد على أبيه؟ قال عمر: أن يُحسن اختيار أمه. وأن يُحسن اختيار اسمه. وأن يعلمه الذكر وتلاوة القرآن. وإذا بالولد يقول يا أمير المؤمنين، إن أبي لم يصنع شيئًا من هذا. أما أمي فهي زنجية كانت لمجوسي، وأما اسمي فقد سماني جعلاً (وهو اسم حشرة من الحشرات)، ثم إنه لم يعلمني حرفًا واحدًا من كتاب الله عز وجل. فالتفت أمير المؤمنين إلى أبيه وقال: لقد جئت تشكو إليَّ عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك؟ يقول الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين}{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [سورة الشعراء: 214]، ويقول سبحانه:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [سورة طه: 132]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ألا لا يجني والد على ولده)) رواه الترمذي وحسنه الألباني.

نعم لقد أكثرنا من الحديث عن برّ الأبناء والبنات للآباء والأمهات، ولكن لماذا لا نتحدث عن بر الآباء والأمهات للأبناء.

وهو ما أتمناه من شيوخنا ودعاتنا وإعلامنا أن يتناولوا هذا الموضوع في خطبهم وبرامجهم قبل أن يطلبوا من الأبناء أن يبرّوا بوالديهم؛ لأن الزمن اختلف، والنفوس كذلك، ماذا كان سيفعل يا ترى أمير المؤمنين إذا عرف عن ذلك الأب الذي كان يذبح بناته ضربًا حين يرفضون الرقص لأصدقائه!! لا أحد سيصدق ذلك، ولكن من ذلك الزمن إلى هذا الزمن حدث ما هو أسوأ، كم من الصغار حُجِّمت مواهبهم، وقُمعت طاقاتهم، وأُعيقوا جسديًّا ومعنويًّا، أو اعتُدي عليهم جنسيًّا في بيوتهم، لا لشيء يُذكَر سوى السلطة التي يشعر بها بعض الآباء أو الكبار، والمفهوم الخاطئ عن ملكية الأبناء وغياب حقوق الأطفال والحق في الدفاع عنهم، وقد سُررت أيما سرور حين علمت بأن وزارة الشؤون الاجتماعية ستنشئ ثلاث عشرة وحدة حماية اجتماعية مستقلة تابعة للوزارة، موزعة على عدد المناطق الإدارية في المملكة. تتكون كل وحدة من إدارة وثلاثة أقسام ضيافة، للذين تعرضوا للعنف من النساء والأطفال، وسيكون هناك قسم للمرأة ومن تعول من بنات وأولاد، وهو قسم عائلي مفرد، وقسم آخر للمرأة أو الفتاة التي بمفردها، وقسم ثالث للذكورممن هم دون سن الثامنة عشرة.

خطوة رائعة على الطريق العملي الصحيح لمكافحة هذه الندوب في وجه مجتمعنا الجميل، قبل أن تصبح بثورًا مكشوفة ثم لا نعرف كيف نكافحها في المستقبل… وإذا خجل بعض الأبناء والبنات من البوح بالعذاب خوفًا اليوم… فلن يخجل في المستقبل إذا كان العذاب أشد مما فعله كفار قريش! وربما كان من الذكريات التي يبوحون بها للأحفاد تاريخًا للأسرة مشرقًا أو معتمًا!

وربما صنعت هذه القسوة حاقدين وعدوانيين؛ يسيئون إلى أنفسهم وإلى مجتمعاتهم وإلى أوطانهم، بل إلى دينهم وأمتهم، ففي الصغر يُصنَع الإنسان، وفي الشباب يختار طريقه. ولعل ما يدور في بلادنا من أحداث مؤسفة من بعض شبابنا، أثر من آثار بعد التوجيه من الآباء والأمهات، ونسيان الدور الكبير الذي يجب أن ينهضوا به، من حفاظ على الأمانة العظمى التي تقلدوها، وإن إحصاءات المملكة الرسمية لتشير إلى أن حالات العنف الأسري في ازدياد، أن أكثر هذه الحالات هي الإهمال للأولاد، وأن أكبر سبب في جنوح الأولاد هو صحبة السوء.

وإن مما ينبغي التأكيد عليه هو العودة إلى طريقة السلف الصالح في تنشئة الأولاد، والاسترشاد بالوحيين الكتاب والسنة في ذلك، والحذر من البدع، وما عليه أهل الأهواء والبدع، ولا سيما من ينشر فكر التكفير والخروج عن طاعة ولي الأمر، وقد أحزننا كثيرًا استمرار هذا العنف الذي اندلع أخيرًا في جدة المحروسة، وراح ضحيته اثنان من رجال الأمن حماهم الله وسدد على طريق الخير خطاهم.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

 اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنّك يا أكرم الأكرمين.



اترك تعليقاً