ما كان لهم الخيرة

إنَّ الحمدَ للهِ تقدَّسَ ذاتًا وصِفاتٍ وجمالاً، وعزَّ عظمةً وعلوًّا وجلالاً، وتعالى مَجدًا ورِفعةً وكَمالاً، أحمدُه سبحانَه برَأ الخلائقَ فلا نقصَ يعرُوها ولا اعتِلالاً، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له تَفرَّدَ في خَلقِه وأبدَعَ، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أفضلُ مُقتدًى به وأكملُ مُتَّبَع، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه أهلِ الفَضلِ والتّقَى والورَعِ، والتَّابعينَ ومن تبِعَهم بإحسانٍ ولنهجِ الحقِّ لَزِمَ واتَّبَع، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

عباد الله اتقوا الله وأطيعوه، فقد أمركم بذلك الله جل في علاه فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة].

منذ نعومة أظفارنا، ونحن نحفظ تعريف ديننا (الإسلام) بأنه: “الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله”. فماذا سيجد العبد المسلم في قلبِه عندما يسمعُ قولَه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب:36]، هذا الإمام ابنُ كَثيرٍ ـ رحمه الله تعالى ـ يصوِّرُ لنا موقفَ المؤمنِ الصَّادقِ تُجاهَ هذه الآيةِ، فيقولُ: “فَهذه الآيةُ عَامةٌ في جَميعِ الأمورِ، وذَلكَ أنَّه إذا حَكمَ اللهُ ورسولُه بشيءٍ، فليسَ لأحدٍ مُخالفتُه، ولا اختيارَ لأحدٍ هَهنا، ولا رَأيَ ولا قَولَ”، وصَدقَ -رحمَه اللهُ-؛ لأنَّهُ لا تثبتُ قدمُ الإسلامِ، إلا على ظهرِ القَبولِ والاستسلامِ.

أتعجبونَ من إحياءِ اللهِ ـ تعالى ـ لِذكرى أبينا إبراهيم وهاجرَ القِبطيةِ أمِّ إسماعيلَ وإسماعيل عليهم السلام، نصلي عليهم مع نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل صلاة نصليها، ولا تصح صلاتنا إلا بها، وفي كل حج وعمرة نقفى آثارهم في كلِّ سعيٍ نسعاه بين الصَّفا والمروةِ، وفي عدد من مشاعر الحج، وكلما شَربنا ماءَ زمزمٍ، فماذا صنعوا؟ وما العمل الذي به رفعها الحقُّ عز وجل؟

المقام أقلُّ من أن نوجزَ فيه ما صنعوا فكيف لو فصلنا، لقد جاء أبونا إبراهيمُ عليه السلام بهاجر وابنِها إسماعيل في وادٍ غيرِ ذي زرعٍ، لقد “جَاءَ بهَا إبْرَاهِيمُ وبِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وهي تُرْضِعُهُ، حتَّى وضَعَهُما عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ في أَعْلَى المَسْجِدِ، وليسَ بمَكَّةَ يَومَئذٍ أَحَدٌ، وليسَ بهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُما هُنَالِكَ، ووَضَعَ عِنْدَهُما جِرَابًا فيه تَمْرٌ، وسِقَاءً فيه مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقالَتْ: يا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهذا الوَادِي الَّذي ليسَ فيه إنْسٌ ولَا شَيءٌ؟ فَقالَتْ له ذلكَ مِرَارًا، وجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقالَتْ له: آللَّهُ الَّذي أَمَرَكَ بهذا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَتْ: إذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حتَّى إذَا كانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بهَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ، ورَفَعَ يَدَيْهِ فَقالَ: رَبِّ {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون (َ (37” [رواه البخاري].

هي استسلمت بكلمة، وهو استسلم بالأمر الرباني، وتوجه للدعاء.

ألا يذكرنا ذلك ما حدث حين كبُر إسماعيل عليه السلام، وجاء الامتحان الآخر: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)  فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات].

بهذا الاستسلام التام في أمور عظام نال آلُ إبراهيم هذه المنزلة العظيمة، فبنى الله كعبته التي يؤمها الناس من كل أنحاء المعمورة، وأنبع ماءَ زمزمَ تحت أقدام وليدهم، وجاء بالقبائل ليعمروا مكة، وصارت هاجرُ سيدةَ الوادي تأذن لمن شاءت، وأكرمها بأن خلَّد ذكرها مع نبييه، ولا تزال مليارات الخطوات تسير في إثر خطواتها، وجعل الله الشفاء في الماء الذي نبع من أجلها وأجل وليدها، فأي شرفٍ فوق هذا؟ إنَّه القَبولُ لأحكامِ ربِّها.

وجاء الإسلام ليكون نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته نماذج للاستسلام التام لشريعة ربهم جل في علاه، فرفع الله ذكره وذكرهم في العالمينَ، وجعلهم منارات تتأسى الأمة بهم، حتى شَهدَ اللهُ ـ تعالى ـ لهم شهادةً يُخلِّدُها التَّاريخُ، فقالَ -سُبحانَه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، إنَّه القَبولُ والاستسلامُ الصَّادقُ، الذي يُعرفُ به المؤمنُ من المنافقِ، فما كان لأحدهم أن يتخلف عن أمر أو نهي رضيَ الله عنهم وأرضاهم.

تقولُ عائشة ـ رضي الله عنها ـ: “ لمَّا أُسْريَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَسجِدِ الأقْصى أصبَحَ يَتحدَّثُ النَّاسُ بذلك، فارتَدَّ ناسٌ ممَّن كانوا آمَنوا به وصَدَّقوه، وسعَوْا بذلك إلى أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فقالوا: هل لكَ إلى صاحِبِكَ يَزعُمُ أنَّه أُسْريَ به اللَّيلةَ إلى بَيتِ المَقدِسِ، قالَ: أو قالَ ذلك؟ قالوا: نعمْ، قالَ: لَئنْ كانَ قالَ ذلك لقد صدَقَ، قالوا: وتُصدِّقُه أنَّه ذهَبَ اللَّيلةَ إلى بَيتِ المَقدِسِ وجاءَ قبلَ أنْ يُصبِحَ؟ قالَ: نعمْ، إنِّي لأُصدِّقُه فيما هو أبعَدُ من ذلك، أُصدِّقُه بخَبرِ السَّماءِ في غَدْوةٍ أو رَوْحةٍ؛ فلذلك سُمِّيَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقَ.” [صحيح على شرط الشيخين] اللهُ أكبرُ، إنَّه القبولُ والتسليم.

ومن ذلك اجتنابهم لشرب الخمر، الذي اعتادوه في زمانهم، وتمتلئ به بيوتهم، بَينا نحن قُعودٌ على شَرابٍ لنا، على رَملةَ، ونحن ثَلاثةٌ أو أربَعةٌ، وعِندَنا باطيةٌ لنا [وهيَ إناءٌ مِنَ الزُّجاجِ عَظيمٌ، تُملأُ مِنَ الشَّرابِ، وتُوضَعُ بَينَ القَومِ يَغرِفونَ مِنها ويَشرَبونَ]، ونحن نَشرَبُ الخَمرَ حِلًّا، إذْ قُمتُ حتى آتيَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأُسلِمَ عليه، إذْ نَزَلَ تَحريمُ الخَمرِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91) [المائدة: 91]، فجِئتُ إلى أصحابي فقَرَأتُها، قال: وبَعضُ القَومِ شَرْبَتُه في يَدِه، قد شَرِبَ بَعضَها وبَقيَ بَعضٌ في الإناءِ، فقال بالإناءِ تَحتَ شَفَتِه العُليا، كما يَفعَلُ الحَجَّامُ، ثم صَبُّوا ما في باطيَتِهم، فقالوا: انتَهَيْنا رَبَّنا. [حديث صحيح].

ولما نادى منادي المدينة: “ألَا إن الخمر قد حُرِّمت”، سارع الناس إلى الخمر في بيوتهم فسكبوها، وأراقوا ما بقِيَ منها، حتى جَرَت في سِكَكِ المدينة وطُرُقها.

وهذا أنسٌ ـ رضي الله عنه ـ يقول: “لَمَّا فَتَحَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، أَصَبْنَا حُمُرًا خَارِجًا مِنَ القَرْيَةِ، فَطَبَخْنَا منها، فَنَادَى مُنَادِي رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: أَلَا إنَّ اللَّهَ وَرَسوله يَنْهَيَانِكُمْ عَنْهَا، فإنَّهَا رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطَانِ، فَأُكْفِئَتِ القُدُورُ بما فِيهَا، وإنَّهَا لَتَفُورُ بما فِيهَا” [رواه مسلم]. ليس هناك تأخر لحظة واحدة عن الاستجابة لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وانظر إلى مظهر من مظاهر الإذعان لأمر الله ورسوله، وهي رسالة إلى أختي وابنتي، لما نزلت آية الحجاب تخاطب المؤمنات: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ [النور: 31]، فما كان من نساء الأنصار والمهاجرات إلا أن شَقَقْنَ مِروطهن فاختمرن بها.

و “لما نزلت: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 59]، لمَّا نزلت: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرجَ نساءُ الأنصارِ كأنَّ علَى رؤوسِهِنَّ الغِربانَ منَ الأَكْسِيَة” [صحيح أبي داود].

فيا أيها المؤمنُ، اتق الله تعالى، وأخبرني ما الذي يكونُ في قلبِكَ عندما تسمعُ: قوَل اللهِ تعالى، وقولَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، هل يقشعِّرُ البدنُ؟ هل تُنصتْ الأذنُ؟ هل يتحركُ القلبُ؟ هل تدمعُ العينُ؟ هل تتأهبُ الجوارحُ جميعا للاستجابةِ للأحكامِ؟

هل تعلمُ ما الفرقُ بينَ الملائكةِ وإبليسَ؟، اسمعوا: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)} [الحجر]، تلقَّى الملائكة أمرَ اللهِ -تعالى- بالقبولِ والرِّضا، والمبادرةِ دونَ تردُّدٍ أو اعتراضٍ، {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)} [سورة: ص]، لم يَقبلْ، وعارضَ، وناقشَ الأمرَ بعقلِه، والنتيجةُ: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} [سورة: ص]   ولذلكَ كانَ من أعظمِ ما يؤلمُ الشَّيطانُ، هو أن يرى القبولَ والإذعانَ، في صِفاتِ أهلِ الإيمانِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَمَ: “إذا قَرَأَ ابنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطانُ يَبْكِي، يقولُ: يا ويْلَهُ، وفي رِوايَةِ أبِي كُرَيْبٍ: يا ويْلِي، أُمِرَ ابنُ آدَمَ بالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الجَنَّةُ، وأُمِرْتُ بالسُّجُودِ فأبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ. وفي رواية: فَعَصَيْتُ فَلِيَ النَّارُ.” [رواه مسلم].

اللهم نرجوك رحمتك، ونعوذ بك من نارك وعذابك، أقولُ قَولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.

 

الخطبة الأخرى

الحمد لله، الواحد الأحد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله، وأطيعوه

من الجرأة على الله تعالى أن يقول قائل: “أنا لست مقتنعا بهذا الحكم الشرعي”، هذه الجملة الخطيرة جدًا قد تصدر من بعض المسلمين والمسلمات دون وعيٍ بخطورتها على العقيدة والإيمان! وكأن الأحكام الشرعية تقاس بميزان العقل الذي يختلف إدراكه من شخص لآخر، أو بحسب مصالح الشخص ورغباته. فما الذي يقنع شخصًا ما بالامتناع عن الطعام والشراب في يوم شديد الحر في رمضان إذا لم يكن ذلك مدفوعًا بالإيمان الكامل بأن الآمر هو الله تعالى، وهو المكافئ عليه، وهو العليم بعوائده على العبد دنيا وأخرى؟ 

ولماذا نستيقظ من راحتنا ونومنا في يوم شديد البرودة لتتوضأ لأداء صلاة الفجر، ثم نخرج من دفئ الفراش إلى شدة البرد في الطريق إلى المسجد؛ لولا أننا نؤمن بأننا نأوي إلى بيت من بيوت الله تعالى، وأن الله ـ عز وجل ـ هو الذي نادانا، وأن قلوبنا وأرواحنا وأجسادنا تحتاج إلى دفء العبادة أكثر من دفء البيت والفراش؟

تخيل أن يقف مسلم أو مسلمة أمام وجه الله الكريم ويقول له: لست مقتنعًا بحرمة الخمر، وتعاملت بالربا لأنني غير مقتنع بتحريمه!! أو تقول مسلمة: خلعت الحجاب لأنني لم اقتنع بفرضيته.!!

الإسلام يعني الاستسلام والانقياد لشرع الله، والخضوع له بفعل أوامره، وترك نواهيه، سواء أوافقَ عقلُك أم رفض، هذا هو معنى أنك مسلم.

ولو كان كل ما يُكلَّف به المسلم لا يفعلُه أو يتركُه حتى يوافقَ عليه عقلُه، لأصبح ممن يُطِيع عقلَه لا رَبَّه، وعندها يشترك في هذا الأمر مع الكافر والمنافق. قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} [الجاثية].

وتعجب ممن يقول: لن أجبر أبنائي على الصلاة!! ولن أجبر بناتي على الحجاب؟ لأن العبادة يجب أن تكون عن اقتناع، لكنه يجبرهم على الاستيقاظ صباحًا للمدرسة، وللعمل، ويجبرهم على المذاكرة للاختبارات، ويجبرهم على تناول الدواء من أجل سلامتهم، ويجبرهم على ترك أكلِ ما يضرُّهم، وكلُّ ذلك من أجل مصلحتهم الدنيوية الفانية، وأما السعي لإنقاذهم من العذاب الأخروي، والتنعم بالنعيم الأزلي، فعندها يحتاج عنده الأمر إلى اقتناع!! عجبًا!!

وكم سمعنا من الأبناء والبنات من يقولون: ليت آباءنا أجبرونا على الطاعات ونحن صغار، ليتهم نهونا عن المعاصي والعلاقات المحرمة، ليتهم راقبوا صداقاتنا ولم يتركونا هملًا!! ليتهم تعبوا علينا لنحفظ كتاب الله تعالى، كما تعبوا من أجل تعليمنا!!

 

قال الحسن رحمه الله: “مُرُوهم بطاعة الله وعلموهم الخير”

وقال ابن عمر رضي الله عنه: “أدَّب ابنك فإنك مسؤول عنه: ماذا أدبته؟ وماذا علمته؟”

وقال الإمام ابن سيرين رحمه الله:” كانوا يقولون: أكرم ولدك، وأحسن أدبه”.

وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: “الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب وإن عود الشر وأهمل شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه، والوالي له”.

لا تتركوا أولادكم يألفوا ترك الفرائض وفعل المعاصي بحجة أنهم صغار أو عدم اقتناعهم، فيكبرون وقد ضعفت تقوى الله في قلوبهم، فأنتم مسؤولون عنهم. قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) } [الشعراء]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم]. وقال صلى الله عليه وسلم: ” كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والأمِيرُ راعٍ، والرَّجُلُ راعٍ علَى أهْلِ بَيْتِهِ، والمَرْأَةُ راعِيَةٌ علَى بَيْتِ زَوْجِها ووَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ” [رواه البخاري].

اللهم أصلح لنا أزواجنا وذرياتنا، {… رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان].

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين في الحد الجنوبي وفي كل مكان، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك حربا على أعدائك.

اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين ووليَّ عهده وأعوانهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، واجعلهم ذخرًا للإسلام والمسلمين. اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيء لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يُعزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُهدى فيه أهلُ معصيتِك، ويؤمرُ فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم. ربَّنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.