محمد رسول الله والذين آمنوا معه

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله ليس له صاحبة ولم يتخذ ولدًا، خلق كل شيء فقدره تقديرًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، حامل لواء الحمد، والشافع المشفع يوم الدين، أول الناس قيامًا من القبور، وأول الناس سيرًا إلى ساحة البعث والنشور، وأول الناس وُرودًا على الحوض، وأول الناس عبورًا للصراط، وأول الناس دخولاً الجنة، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، نشهد أنه رسول الله حقًّا، والداعي إلى سبيله صدقًا، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، علّمنا فأحسن تعليمنا، وأدّبنا فأحسن تأديبنا عليه الصلاة والسلام، اللهم ارض عن أصحابه وعن آله وذريته الطيبين الطاهرين، وعن خلفائه الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعدُ: فأُوصيكُم – عباد الله- ونفسي أولا بتقوى الله جل وعلا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

عباد الله: روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار» رواه أحمد ومسلم.

تمام نعمة الله على الناس وكمالها وتاجها خاتم الأنبياء وأشرف المُرسلين وسيد ولد آدم من الأولين والآخرين نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي امتن اللهُ علينا ببعثته، وأنعم علينا برسالته، قال سبحانه: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164]، وقال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن مَثَلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجُلٍ بنى بيتًا فأحسنهُ وأجملهُ إلا موضع لبنةٍ من زاويةٍ، فجعل الناسُ يطوفُون به ويعجبُون لهُ ويقُولُون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنةُ، وأنا خاتمُ النبيين» متفق عليه.

محمد صلى الله عليه وسلم إمام العالمين وقائد الغر المجلين، أمين الله على وحيه ومصطفاه من خلقه، اختاره الله وبعثه رحمة للعالمين، حمل هداية رب السماء إلى أهل الأرض، قرن الله اسمه باسمه في الأذان وجعل شأنه عاليًا، وتفضل عليه بالوحي والرسالة، واصطفاه من بين خلقه ليكون خاتم النبيين، وكان فضل الله عليه عظيمًا، جعل له لواء الحمد والمقام المحمود، كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، إذا سُرَّ استنار وجه كأنه قطعة قمر أكحل العينين، مليح الوجه، يقول أنس رضي الله عنه: “ما مسست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كفّ الرسول صلى الله عليه وسلم” رواه البخاري.

وكان يُعرف بريح الطيب إذا أقبل، أحسنُ الناس خلقًا، وأكرمُهم وأتقاهم، يمشي مع المساكين، تأخذ الجارية الصغيرة بيده فينطلق معها لقضاء حاجتها، يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم، يأتي ضعفاءهم ويعود مرضاهم، يشهد الجنائز ويجلس ويأكل على الأرض، يعقل الشاة فيحلبها، يخصف نعله ويخيط ثوبه ويخدم أهله، كان يبيت الليالي طاويًا لا يجد عشاءً، لا يجد ما يملأ بطنه من الدقل وهو التمر الرديء، يعصب الحجر على بطنه من الجوع، يقبل الهدية ولا يأخذ الصدقة، كان أشجع الناس، يُتقى به في الحرب والقتال، كان أرحم الناس، يمتلئ عفوًا وصفحًا وسخاءً وكرمًا وجودًا، عظيمًا في أخلاقه، عظيمًا في آدابه، عظيمًا في شمائله صلى الله عليه وسلم.

أوفر الناس عقلاً، وأسدهم رأيًا، وأصحهم فكرة، وأسخاهم يدًا، وأنداهم راحة، وأجودهم نفسًا، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، يجود ويقول: «أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً» رواه البزار وصححه الألباني.

أرحب الناس صدرًا، وأوسعهم حلمًا، لا يزيده جهل الجاهلين عليه إلا أخذًا بالعفو وأمرًا بالمعروف، يمسك بغرة النصر، وينادي أسراه في كرم وإباء: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

أعظم الناس تواضعًا، يُخالط الفقير والمسكين، ويُجالس الشيخ والأرملة، لا يتميز عن أصحابه بمظهر، ألين الناس عريكةً، وأسهلهم طبعًا، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مُحرمًا، وهو مع هذا أحزمهم عند الواجب، وأشدهم مع الحق، لا يغضب لنفسه، وإذا انتُهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، ولا يستطيع أن يقف أحد في طريقه، كأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من شدة الغضب؛ تعظيمًا لحرمات الله وغضبًا لها. أشجع الناس قلبًا، وأقواهم إرادة، يتلقى الناس بثبات وصبر، يخوض الغمار قائلاً: «أنا النبي لا كذب، أنا أبن عبد المطلب» متفق عليه.

أعفّ الناس لسانًا، وأوضحهم بيانًا، يسوق الألفاظ مُفصلة كالدر، مشرقة كالنور، طاهرٌ كالفضيلة، في أسمى مراتب العفة وصدق اللهجة، صاحب عفة وطهر ونزاهة، أعدلهم في الحكومة، وأعظمهم إنصافًا في الخصومة، يقيدُ من نفسه، ويقضي لخصمه، يقيم الحدود على أقرب الناس، ويقسم بالذي نفسه بيده: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» متفق عليه.

يقيم الحدود، ويقسم بالعدل بين الناس، أسمى الخليقة روحًا، وأعلاها نفسًا، وأزكاها وأعرفها بالله، وأشدها صلابة وقيامًا بحقه، وأقومها بفروض العبادة ولوازم الطاعة، مع تناسق غريب في أداء الواجبات، واستيعاب عجيب لقضاء الحقوق، يُؤتي كل ذي حق حقه، فلربه حق، ولصاحبه حق، ولزوجه حق، ولدعوته حق، أزهد الناس في المادة، وأبعدهم عن التعلق بعرض هذه الدنيا، يطعم ما يُقدم إليه، فلا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، ينام على الحصير والأدم المحشو بالليف، أرفق الناس بالضعفاء، وأعظمهم رحمة بالمساكين والبؤساء، شملت رحمته وعطفه الإنسان والحيوان.

شهد بفضله الأعداء، والحق ما شهدت به الأعداء، يقول صاحب كتاب (الخالدون المائة): “لقد اخترت محمدًا في أول القائمة؛ لأنه الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي”. وألف إنجليزي كتابًا اسمه (محمد)، أحرقته السلطات البريطانية الحاقدة، قال فيه: “إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، وإن رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجة للجهل والتعصب، قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة، فاعتبروه عدواً للمسيحية، لكنني اطلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدواً للمسيحية، بل هو منقذ البشرية، ولو تولى أمر العالم اليوم لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة للبشر”.

عباد الله.. إن من صريح الإيمان ودلالات كماله محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعزيره وتوقيره، فالمُسلم يُقدمُ ما يُحبهُ رسُولُهُ على ما تُحبهُ نفسُهُ وتشتهيه، لما آمن به تمام الإيمان، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: «لا يُؤمنُ أحدُكُم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» متفق عليه.

 وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «ثلاثٌ من كُن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكُون اللهُ ورسُولُهُ أحب إليه مما سواهما، وأن يُحب المرء لا يُحبهُ إلا لله، وأن يكره أن يعُود في الكُفر بعد إذ أنقذهُ اللهُ منهُ كما يكرهُ أن يُلقى في النار» رواه البخاري.

وجاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله، متى الساعةُ”؟ قال: «ويلك، وما أعددت لها»؟ قال: “ما أعددتُ لها إلا أني أُحب الله ورسولهُ”، قال: «أنت مع من أحببت» متفق عليه.

اللهم إنا أحببنا نبيك ومصطفاك محمداً وآله وصحبه فاجمعنا بهم في جنات النعيم.

توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الأخرى:

الحمد لله أمر بتقواه، وأخبر أن من اتقاه وقاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا رب لنا سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأكرم الخلق على الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعدُ: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى، (ومن يتق الله يجعل لهُ مخرجًا).

قال ابنُ رجبٍ رحمه اللهُ: «محبةُ النبي صلى الله عليه وسلم من أُصُول الإيمان، وهي مُقارنةٌ لمحبة الله عز وجل، وقد قرنها اللهُ بها، وتوعد من قدم عليهما محبة شيءٍ من الأُمُور المُحببة طبعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك، فقال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24]» [(فتح الباري لابن رجب 1/ 48)].

عباد الله.. ولما علم الصحابةُ ذلك وعاصروا رسول الله وعايشُوهُ ولامسُوا نُزُول الوحي عليه، وجاهدُوا معهُ وصحبُوهُ حضرًا وسفرًا، وعلمُوا من هُو رسُولُ الله حقاً وصدقاً؛ كانت محبتُهُم له أشد وأقوى، وتوقيرُهُم له أكمل وأوفى، وتعزيرُهُم له أسمى وأعلى، أحبوهُ حُبًّا فاق كُل حُب، وودوهُ مودةً غلبت كُل مودةٍ، فآثرُوهُ على النفس والولد، وقدمُوهُ على الآباء والأُمهات، وأرخصُوا من أجله الزوجات والضيعات، وفارقُوا لصُحبته العشائر والأوطان، وهجرُوا المساكن والبُلدان، وودوا لو لم يُفارقُوهُ لحظةً واحدةً، وضربُوا في ذلك من الأمثلة أروعها، وسجلُوا فيه من المواقف أصدقها، كانت محبتُهُم له صلى الله عليه وسلم ظاهرةً للعيان، أدهشت العُقلاء من أعدائه، فشهدُوا بها وأبدوا استغرابهُم منها.

فها هو عُروةُ بنُ مسعودٍ الثقفي وقد أوفدهُ المُشركُون للتفاوُض مع رسُول الله في صُلح الحُديبية، يقُولُ وقد عاد إلى أصحابه: “أي قومُ، والله لقد وفدتُ على المُلُوك، ووفدتُ على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيتُ ملكًا قط يُعظمُهُ أصحابُهُ ما يُعظمُ أصحابُ محمدٍ محمدًا، والله إن تنخم نُخامةً إلا وقعت في كف رجُلٍ منهُم، فدلك بها وجههُ وجلدهُ، وإذا أمرهُم ابتدرُوا أمرهُ، وإذا توضأ كادُوا يقتتلُون على وضُوئه، وإذا تكلم خفضُوا أصواتهُم عندهُ، وما يُحدون إليه النظر تعظيمًا لهُ”. رواه البخاري.

وجاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله، إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكُونُ في البيت فأذكُرُك فما أصبرُ حتى آتي فأنظُر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك عرفتُ أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وإني إذا دخلتُ الجنة خشيتُ أن لا أراك”، فلم يرُد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا حتى نزل جبريلُ عليه السلامُ بهذه الآية: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء: 69- 70]، والحديث صححه العلامة الألباني رحمه الله.

رضي اللهُ عن هذا الصحابي، ما أبين محبتهُ وأوضح مودتهُ، محبةٌ يُفضلُ بها رسول الله على كُل غالٍ، ومودةٌ تجعلُهُ يتململُ في بيته وبين أبنائه، فلا يرتاحُ حتى يراهُ، وليس هذا وكفى، بل تفكيرٌ يتعدى حُدُود الدنيا ويتجاوزُها إلى الآخرة، يخافُ معهُ أن يُحرم رؤيتهُ في الجنة، فأي حُب هذا الذي ملك عليه دُنياهُ وآخرتهُ؟!

ومن المواقف التي ظهر فيها صدقُ المحبة والمودة ما رواه ابنُ إسحاق عن عائشة رضي اللهُ عنها أنها قالت: “كان لا يُخطئُ رسول الله أن يأتي بيت أبي بكرٍ أحد طرفي النهار، إما بُكرةً وإما عشيةً، حتى إذا كان اليومُ الذي أذن اللهُ فيه لرسُوله بالهجرة والخُرُوج من مكة من بين ظهري قومه أتانا رسولُ الله بالهاجرة، في ساعةٍ كان لا يأتي فيها”. قالت: فلما رآه أبو بكرٍ قال: “ما جاء رسولُ الله في هذه الساعة إلا لأمرٍ حدث”. قالت: “فلما دخل تأخر له أبو بكرٍ عن سريره، فجلس رسولُ الله، وليس عند رسول الله أحدٌ إلا أنا وأُختي أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ، فقال رسولُ الله: «أخرج عني من عندك»، قال: يا رسول الله، إنما هُما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأُمي؟ قال: «إن الله قد أذن لي في الخُرُوج والهجرة». قالت: فقال أبو بكرٍ: الصحبة يا رسول الله؟ قال: «الصحبةُ». قالت: “فوالله، ما شعُرتُ قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيتُ أبا بكرٍ يومئذٍ يبكي” والحديث صححه العلامة الألباني رحمه الله في فقه السيرة.

فأي قلبٍ هذا الذي يملكُهُ أبو بكر؟! وأي فُؤادٍ يحملُ بين أضلُعه؟! وأي حُب ينطوي عليه؟! إنهُ حُب لا يُفكرُ معهُ في أهلٍ ولا وطنٍ، إنهُ حُب يُنسيه أبناءهُ وما ملكت يمينُهُ، فرضي اللهُ عنه وأرضاهُ ما أقوى إيمانهُ! ورفع درجتهُ في الجنة ما أصدق حُبهُ!

وليس هذا فحسبُ، بل تعالوا نسمع ما بعدهُ، فقد روى الحاكمُ في مُستدركه وصححه ووافقه الذهبي عن محمد بن سيرين رحمه اللهُ قال: ذُكر رجالٌ على عهد عمر رضي اللهُ عنه، فكأنهم فضلُوا عُمر على أبي بكرٍ رضي اللهُ عنهما، قال: فبلغ ذلك عُمر رضي اللهُ عنه فقال: “والله، لليلةٌ من أبي بكرٍ خيرٌ من آل عُمر، وليومٌ من أبي بكرٍ خيرٌ من آل عُمر، لقد خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لينطلق إلى الغار ومعهُ أبو بكرٍ، فجعل يمشي ساعةً بين يديه وساعةً خلفهُ، حتى فطن له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال «يا أبا بكرٍ، ما لك تمشي ساعةً بين يدي وساعةً خلفي»؟ فقال: يا رسول الله، أذكُرُ الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكُرُ الرصد فأمشي بين يديك، فقال: «يا أبا بكرٍ، لو كان شيءٌ أحببت أن يكون بك دُوني»؟ قال: نعم، والذي بعثك بالحق، ما كانت لتكون من مُلمةٍ إلا أن تكون بي دُونك. فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكرٍ: مكانك – يا رسول الله – حتى أستبرئ لك الغار، فدخل واستبرأهُ، حتى إذا كان في أعلاهُ ذكر أنهُ لم يستبرئ الحُجرة، فقال: مكانك – يا رسول الله- حتى أستبرئ الحُجرة، فدخل واستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل. فقال عُمرُ: والذي نفسي بيده، لتلك الليلةُ خيرٌ من آل عُمر”.

قال الله سبحانه: (فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157].

أيها المسلمون، إن من أفضل الأعمال وأزكاها عند ربنا جل وعلا الإكثار من الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

اللهم أعز دينه، وأعل شأنه، وأعل ذكره. اللهم اجعلنا من أتباعه حقاً، ومن أهل سنته صدقًا. اللهم ارزقنا شفاعته يوم الدين. اللهم اجعلنا من القائمين بحق نبينا يا عظيم. اللهم إنا نسألك وأنت العظيم القوي الجبار أن تهلك من يقتل المسلمين ويريق شرفهم وينتهك أعراضهم ويهدم منازلهم ويعتقل شرفاءهم، اللهم أرنا فيهم آية، اللهم إنا نسألك أن تسلط عليهم جندًا من عندك، اللهم أرنا فيهم هلاكًا وبيلاً وخذهم أخذًا شديدًا، واجعلهم عبرة للمعتبرين يا رب العالمين.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 



اترك تعليقاً